العدد 1426 / 2-9-2020
ياسر محجوب الحسين
قد
يكون الجيش في دولة من الدول بمنزلة جماعة ضغط في صناعة القرارات، وقد يتعدّى هذا
الدور إلى فرض النظام الذي يعتقد أنه مناسب للدولة، وذلك عبر آلية الانقلاب
العسكري، مرتكزا على إيديولوجيا وحيدة هي أن الجيش هو الدولة.
والجيش
في أفريقيا والعالم الثالث عموما له دور سياسي لا يستطيع أحد التغاضي عنه، ولا
مجال للحكم على دور الجيش هناك بمعيار وضعية جيوش العالم الأول في ظل ديمقراطيات
عريقة، وعليه لا يمكن تصور حدوث أي تحول سياسي في العالم الثالث سواء من
ديكتاتورية إلى ديمقراطية أو العكس، من ديمقراطية إلى ديكتاتورية إلا بمساهمة
وتدخل الجيش.
في
السودان على سبيل المثال تم الانحياز للثورة الشعبية في نيسان 2019 من قبل الجيش
بطلب من الثوار اعترافا بدوره، وبمباركة السياسيين الانتهازيين، في حين اعتبر
البعض ذلك انقلابا عسكريا.
الواقعيون
يرون أن التزام ناصية الواقعية خطوة حتمية للانتقال إلى وضعية الجيش في
الديمقراطيات العريقة، وما هو معلوم أن الديمقراطيات العريقة سواء في فرنسا أو
بريطانيا أو أمريكا، لم تصل إلى ما هي عليه من تماسك إلا بعد سنوات عجاف من الحروب
الأهلية المتطاولة، فالعالم الثالث يحتاج لتجسير بين واقعين؛ حالي مأزوم ومرفوض
وآخر مرجو ومأمول.
ويبدو
أن حالة العداء للجيش أو التحالف معه، في أوساط القوى المدنية أمر مرتبط بتحقق
المصلحة السياسية التي تتقزم أمام المصلحة الوطنية العليا. فإن عقدنا على سبيل
المثال، مقارنة بين علاقة الجيش بالقوى السياسية في كل من مصر والسودان، وقسمنا
القوى السياسية في كلا البلدين إلى يمين ويسار، سنجد أن اليمين في مصر يتوجس خيفة
وريبة من الجيش الذي صيغ وأسس بنيانه منذ أمد بعيد على العلمانية التي تصب في
بحيرة اليسار، بينما نجد اليمين في السودان يعتبر عقيدة الجيش في عمومها تصب في
بحيرة اليمين، مع الإشارة إلى أن ذلك ليس صحيحا مائة بالمائة على الأقل في بعض
الفترات الزمنية، بيد أن الثلاثين سنة الأخيرة يمكنها التأكيد أن صياغة الجيش
السوداني غدت تصب في بحيرة اليمين، ولذلك تختلف نظرة القوى السياسية إلى الجيش في
كل من مصر والسودان، في إطار هذه المحاولة التوصيفية الاجتهادية.
إن
الجدل الحالي في السودان حول شركات الجيش السوداني تبدو دوافعه سياسية بحتة،
فاليسار الذي يتولى هذه الحملة يعمل على شيطنة المؤسسة العسكرية السودانية؛ سعيا
لتفكيكها لصالح حلفائه من الحركات المسلحة المتمردة، لاعتقاده بأن الجيش بوضعيته
الحالية يصب في صالح اليمين، فهذه الحملة تريد تحويل الجيش السوداني من اليمين إلى
اليسار، وهذا يعني استمرار إدخال الجيش في اللعب السياسي غير الحميد.
وما
يشير إلى خطل حملة اليسار السوداني ضد الجيش أن استثمارات الجيش ليست بدعا؛ فالجيش
الأمريكي يستثمر 44 مليار دولار بالإنشاءات، و"أوياك" التركية تمتلك
متاجر تجزئة ضخمة، و"كانتين الهندية" تبيع 23% من سيارات البلاد، والجيش
الإيطالي يورد "الماريجوانا" لشركات الدواء، أما الجيش المصري فيتحكم في
نحو 40% من الاقتصاد.
إن
اليسار السوداني لا سيما الحزب الشيوعي ينطلق في حملته الشرسة ضد الجيش من رؤية
منظّر الشيوعية فلاديمير لينين الذي يرى ضرورة أن يأخذ الجيش زمام المبادرة
السياسية، قطعا للطريق على البرجوازية التي تريد تحييده. لكن بغض النظر عن هذه
النظرة أو تلك، فإن الجيوش لا بد أن تكون أكبر من التصنيفات السياسية، ولا بد من
أن تتمتع باعتباريتها ووضعيتها ومكانتها الاستراتيجية في بناء هيكل الدولة، بينما
تبقى القوى السياسية متنافسة ومتدافعة في إطار الحكومات المحدودة بحيز زماني، وفق
تفويض جماهيري لا يتمتع بالديمومة إلا في إطار تجديد الثقة عبر آليات التبادل
السلمي للسلطة.
ولربما
افتقدت قيادة الجيش السوداني الحالية إلى الكاريزما المرتبطة بدور بطولي مرتبط
بالحروب أو الأزمات التي يبرز فيها دور الجيش، ولذلك حاول البرهان في انتفاضته تلك
أن يستدعي ما يجلب له دور البطل، معلنا أن الجيش لن يتراجع حتى يتم رفع علم
السودان في مثلث حلايب وشلاتين المتنازع عليه مع مصر.
لعل
الأزمة السياسية التي تعمقت في السودان بعد سقوط النظام السابق، سببها فشل
المدنيين والعسكريين في الوصول إلى معادلة المصلحة المتبادلة؛ فالسياسي لا يستطيع
تحقيق استقرار حكمه دون دعم الطرف العسكري ومساندته، كما أن العسكري يعتمد في
الوقت نفسه على السياسي للبقاء في منصبه، وضمان استمرارية هيبة المؤسسة العسكرية
وقوتها.
اليوم
يبدو الجيش السوداني أمام تحدّ وجودي كبير، لاسيما الانفلات الأمني في بعض
الولايات والانهيار الاقتصادي الماثل، فهو المسؤول عن الحفاظ على وطن يقف على حافة
الهاوية. وليس من المنطق أن يرهن مصير الاستقرار السياسي على شريكه تحالف قوى
الحرية والتغيير الحاضنة السياسية لحكومة حمدوك، التي لم تعد تتمتع بسند جماهيري
بسبب فشلها في تحقيق كل ما أوكل إليها. فالجيش لا خيار له إلا إعادة صياغة تحالفه
مع المدنيين بتوسيع قاعدة المشاركة السياسية، وفق برنامج وطني جامع.