العدد 1436 / 11-11-2020
العنف
لا يولد إلا عنفاً، فما لم يتم تحقيقه بالمفاوصات لا يمكن بأصوات الكلاشنكوف
الشافعي
أبتدون
أعلن
رئيس الحكومة الإثيوبية، آبي أحمد، صانع الانفتاح السياسي في القرن الأفريقي،
حرباً على إقليم تيغراي في إثيوبيا (5% من السكان)، نتيجة نزعة انفصالية تفوح
رائحتها من ساسة هذا الإقليم وقياداته. ومثّل إجراء انتخابات محلية، في أيلول
الماضي، تحدّياً واضحاً لسلطة آبي أحمد، بصفته رئيس الوزراء، وقد وصفها
بالانتخابات غير القانونية، وتعهّد بعدم التورّط في استخدام القوة العسكرية لإخضاع
الإقليم، لكن سكان الإقليم أفاقوا، صباح أول من الأربعاء، على إعلان حرب مدوية، وفرض
حالة الطوارئ ستة أشهر، ورافق تلك الإجراءات العسكرية والسياسية قطع الاتصالات،
بما فيها شبكة الإنترنت، وهو إجراء عسكري إثيوبي لإخماد الثورات والتمرد في داخلها.
اللافت
أن إقليم تيغراي يحاول الخروج من عباءة النظام الفيدرالي بزعامة آبي أحمد منذ عام
2018، إثر ثورة شعبية كانت قومية الأورومو وقودها ورموزها، ما أوصل رئيس الوزراء
الحالي إلى سدة الحكم، لكن قومية التيغراي التي كان ساساتها وجنرالاتها بمنزلة
الطغمة المنتفعة في النظام الإثيوبي منذ تولي ميلس زيناوي (1994 - 2012) الحكم في
إثيوبيا، لم تجد سبيلاً للطاعة لحكم آبي أحمد، المنحدر من قومية الأرومو، ذات
الأغلبية السكانية في إثيوبيا. بالإضافة إلى أن حزمة الإصلاحات السياسية التي
أجراها رئيس الحكومة الإثيوبي الجديد لم ترُق لقيادات التيغراي الذين يواجهون
تهماً بالجملة من القوميات الأخرى، بما فيها التهميش والاضطهاد والعنف، ما جعل
التيغراي يشعرون بالتهميش وتحجيم نفوذها على الأقل، بعد عقود تغنت بملذات الحكم
بلا رقيب ولاحسيب.
وبين
الشد والجذب، عاش إقليم تيغراي، منذ أيلول الماضي، حالة من الترقب بين الرسائل
التحذيرية من الحكومة والبرلمان الإثيوبيين، هذا فضلاً عن استعدادات الإقليم
لإجراء الانتخابات التي قاطعتها الحكومة الإثيوبية، وأعلنت فرض عقوباتٍ على
الإقليم، لكن ذلك المشهد القاتم تحول من أوراق سياسية مبعثرة في خريطة تحولات
المشهد الإثيوبي إلى أصوات رصاص وقدائف ترعب سكان الإقليم، كتحول دراماتيكي لسياسة
آبي أحمد التي بنيت على أساس المصالحة والتفاوض لوقف نزيف الدم في الإقليم، ما
يوحي بأن داعي السلام في إثيوبيا قد يتحول، بين طرفة عين وانتباهاتها، من حَمل
يلوح بالسلام إلى ثعلب ماكر.
ومن
المفارقات في بيئة التفاعلات السياسية في إثيوبيا أن تقرير المصير لأي إقليم
إثيوبي حق طبيعي يكفله الدستور المحلي، لكن ذلك الحق يجابه مزيداً من التعقيدات
السياسية، وربما ينتهي، في حال تبنّيه، إلى تدخل عسكري من الجيش الإثيوبي، مثلما
حدث في إقليم تيغراي، وهذا ما سيهدّد مستقبل الاستقرار في البيت الإثيوبي، قبل أن
تمتد تداعيات الصراع الإثيوبي إلى الدول المجاورة، وبالأخص الصومال، المفتوح برّاً
وجواً، فضلاً عن تدخلات إقليمية للأزمة الإثيوبية، وخصوصا التي تبحث عن أهدافها
ومصالحها في خراب إثيوبيا الجديدة، وتحديداً إريتريا التي تقف بالمرصاد، لإضعاف
جارتها من الداخل، قبل أن تنقضّ عليها دفعة واحدة، فسقوط إثيوبيا، وتحولها إلى ما
يشبه صومالا جديدا في المنطقة، سيكلف المنطقة برمتها مزيداً من التدهور الأمني
والسياسي والاقتصادي، فإثيوبيا تعد المحرّك الرئيس لموانئ جيبوتي وصومالاند عبر
استخدامها ميناء بربرة وجيبوتي لاستيراد بضائعها من الخارج.
المواجهة
العسكرية التي استفاق عليها سكان الإقليم كانت سيناريو متوقعاً، بل وتأخر تنفيذه
سابقاً، نظراً إلى بحث حلول أخرى، للتهدئة ووضع الأمور في نصابها من دون اللجوء
إلى خيار عسكري مميت. ويبدو أن رئيس الحكومة الإثيوبية قد أجبر على اتخاذه، نظراً
إلى الأزمة السياسية المتفاقمة بين الإقليم والحكومة، فإذا لم تحسم الأخيرة النزعة
الانفصالية لقومية التيغراي، فسيكون هذا بداية نهاية الكونفيدرالية الإثيوبية،
وسيضعها في خضم صراعاتٍ داخلية، نظراً إلى الضغائن الدفينة في نفوس القوميات
المضطهدة التي واجهت سلاح الجيش الموجه لها مما تعتبرها أقلياتٍ في النسيج
الإثيوبي، وقد ظهرت تجليات هذا التمزق بين الإثنيات الإثيوبية وبداياته منذ عام
2017، فالصراعات المتكرّرة بين هذه القوميات، وخصوصا بين الأورومو والأمهر، والعفر
والصوماليين، والتيغراي والأورومو، تعكس غياب سياسة إثيوبية لمعالجة جروح الماضي
وفتح آفاق جديدة للحوار والمصالحة، لتعزيز مبدأ التعايش، ويضمد الجروح الغائرة بين
الإثنيات الإثيوبية التي قد لا تشترك في الموروث الثقافي والديني والعرقي.
سقوط
النظام الإثيوبي وتفجر حربٍ أهلية جديدة لا يصبان في مصلحة دول المنطقة التي تاهت
من الصراعات السياسية والعسكرية، وتتوق اليوم إلى الاستقرار الأمني والسياسي،
فالصومال الذي خرج من رحم الأزمات لا يريد أن تتفكّك اثيوبيا، بل استقرارا فيها
يمكنها من نهضته اقتصادياً وسياسياً وأمنياً، فالاتفاقيات الموقعة أخيرا بين
البلدين أوصدت أبواب خلافات الماضي، وفتحت علاقاتٍ جديدة أساسها عدم التدخل في
الشؤون السياسية والتبادل التجاري وتعزيز الأمن والاستقرار، بدل الحرب بالوكالة
والفوضى الخلاقة، فالجغرافيا السياسية في القرن الأفريقي لا تحتمل في الوضع الراهن
مزيداً من الفوضى الأمنية والسياسية، في ظل تحول المنطقة إلى ما هو أشبه بثكنة
عسكرية عالمية.
من
السابق لأوانه أن تنجرّ إثيوبيا دفعة واحدة إلى أتون حرب أهلية كما قد يتوهم
بعضهم، ولكن العنف لا يولد إلا عنفاً، فما لم يتم تحقيقه بالمفاوصات والمصالحة لا
يمكن تحقيقه بأصوات الكلاشنكوف، وربما تعزّز هذه العقيدة العسكرية النزعة
الانفصالية، حتى إذا نجح الإجراء العسكري في إخماد الاضطرابات والمطالب من
القوميات الثائرة، فإن الأخيرة قد تنتظر لحظة للانقضاض على هذا النظام، بينما
الدبلوماسية قد تغير القناعات والتوجهات السياسية، بدل تعزيز مطلب الانفصال في
الإثنيات التي تتبادل فيما بينها تظلماً اجتماعياً وقهراً دفيناً منذ عقود.
لا
يصعب على آبي أحمد الجلوس مع قيادات قومية التيغراي، وبحث مطالبها السياسية، بدل
التهميش والفرقة وعسكرة المشهد الإثيوبي، حيث كانت تلك القومية متحكمةً في النظام
الإثيوبي سياسياً وعسكرياً، فسياسة الإصلاح التي تبناها آبي أحمد، وحققت له نجاحات
داخلية، وقادته إلى جائزة نوبل لا تزال تعد مسلكاً شاغراً لعلاج أزمات إثيوبيا
الداخلية، وخصوصا شقها الاجتماعي، فالصراعات الإثنية بين القوميات هي بداية تفكك
النظام الإثيوبي، بينما شن حربٍ معلنةٍ على قومية التيغراي ينذر بحربٍ أهلية أكبر،
ستفرض توازنات جديدة على القرن الأفريقي وتنسف آمال نهضة إثيوبية قادمة على خطى
رواندا.