العدد 1657 /26-3-2025
أحمد درويش
أفاق الشعب التركي صباح الثلاثاء، الموافق 19
مارس/ آذار، على نبأ اعتقال رئيس بلدية إسطنبول "أكرم إمام أوغلو"، في
خطوة مفاجئة لم يتوقعها أكثر الحالمين والمتفائلين، وهي الواقعة التي تسببت في
حالة كبيرة من التوترات الداخلية في البلاد، يمكن تصويرها وتشبيهها بـ"الزلزال
السياسي" الذي صدّع أركان المعارضة، وتركها جثة هامدة تحت الأنقاض. ولكن تبقى
تساؤلات موجودة وتفرض نفسها بقوة، أكان ما حدث انقلابًا على الرئيس القادم للبلاد،
أم إجراء مُستحقاً في إطار تحقيق العدالة ومعاقبة المخالفين للقانون؟ وغير ذلك
كثير من التساؤلات التي تمتلئ بها جعبة المتحيّرين أمام هذا المشهد المفاجئ في كل
تفاصيله المتشابكة.
لا شك أن حملة الاعتقالات أثارت حالة واسعة من
الجدل؛ فبينما رآها البعض محاولة من قبل الحكومة -وتحديدًا من الرئيس التركي
"أردوغان"- للحيلولة دون ترشح منافسه الأبرز للرئاسة "إمام
أوغلو"، اعتبرها آخرون واحدة من أكبر عمليات مكافحة الفساد ودعم الإرهاب في
تاريخ تركيا، ففي أي كفة منهما هي يا تُرى؟!
أول الخيط
أحد أبرز التطورات التي أسهمت في تسريع التحقيقات
كان انتشار مقطع فيديو مسرب قبل قرابة عام، يظهر فيه عدة أشخاص داخل مقر تابع لحزب
الشعب الجمهوري في إسطنبول، وهم يخرجون مبالغ نقدية ضخمة من حقائب سوداء، ويرصونها
على الطاولات من أجل عدّها، ومن بينهم "فاتح كيليتش"، الذي يلقبه البعض
بـ"الصندوق الأسود" لإمام أوغلو بحكم قربه الشديد منه، منذ أن كان
الأخير رئيسًا لبلدية "بيليك دوزو" قبل عدة سنوات.
واللافت أن هذا المقطع قد نشره شخص يُدعى
"أركان تشاكير"، وهو الرئيس السابق لفرع الشباب في حزب الشعب الجمهوري
في ولاية "موش"، وقد أثار نشره لهذا المقطع ضجة كبيرة وجدلًا واسعًا في
الساحة السياسية، وعلى إثره دعت الحكومة
إلى فتح تحقيق موسع لمعرفة مصدر الأموال وما يدور حولها.
وتوصلت النيابة إلى أن هذه الأموال عبارة عن رشاوى
مالية، مصدرها تحويلات غير مشروعة من شركات متعاقدة مع بلدية إسطنبول الكبرى، نظير
حصولها على مناقصات مشبوهة. وتُشير التحقيقات إلى أن 14 عقارًا في منطقة
"أياغزا" في منطقة "ساريير" في إسطنبول تم بيعها في ديسمبر/
كانون الأول 2019 لصالح حزب الشعب الجمهوري، وأن هذه العمليات تمت بتنسيق بين
شخصيات بارزة في البلدية ورجال أعمال على صلة بالحزب.
وشملت الاعتقالات التي تلت هذه الفضيحة مسؤولين
بارزين في بلدية إسطنبول الكبرى، من بينهم "نجاتي أوزكان" مدير حملة
إمام أوغلو، و"جان أكين شاغلار" مدير عام البلدية، و"مراد
عباس" مدير عام الثقافة في البلدية، إضافة إلى رجال أعمال ومتعهدين يشتبه
بتورطهم في عمليات غسيل أموال ورشاوى.
أفادت مصادر صحفية بأن رئيس بلدية بيليك دوزو
المعتقل "محمد مراد تشاليك" قد يصبح شاهدًا رئيسيًّا في التحقيقات، بعد
أن طلب المساعدة قبل أشهر من السلطات المختصة، معترفًا بارتكاب مخالفات بمشاركة
"إمام أوغلو" وبتوجيه مباشر منه
التهم الموجهة لإمام أوغلو
بعد اعتقال إمام أوغلو تم البدء باستجوابه مع
المشتبه بهم الآخرين، ووفقًا لبيان صادر عن مكتب المدعي العام في إسطنبول، فإن
التحقيقات استهدفت شبكة فساد كبيرة داخل بلدية إسطنبول الكبرى، يُعتقد أنها استفادت
من المناقصات والعقود العامة بشكل غير قانوني، إلى جانب تحقيق منفصل بشأن تسهيلات
قدمتها البلدية لعناصر تابعين لمنظمة حزب العمال الكردستاني -التنظيم المصنف
إرهابيًّا في تركيا- للوصول إلى مناصب رسمية في مؤسسات الدولة.
وبحسب تحقيقات النيابة العامة، فإن إمام أوغلو
يواجه عدة تهم رئيسية، أبرزها: قيادة منظمة إجرامية، والرشوة، والاحتيال الشديد،
والاستحواذ غير القانوني على البيانات الشخصية، وتزوير المناقصات، والمحسوبية
واستغلال الوظيفة العامة. وتستند النيابة في اتهاماتها إلى أدلة عديدة تشمل وثائق
مالية، وتحويلات بنكية مشبوهة، وتسجيلات مصورة ومواد رقمية، إضافة إلى شهادات بعض
المسؤولين الذين جرى استجوابهم في ذات القضية.
وفقًا لتحقيقات النيابة، فإن هذا الاتفاق أتاح
لأشخاص مرتبطين بحزب العمال الكردستاني الترشح ضمن قوائم حزب الشعب الجمهوري
لمجالس البلدية، ما سهّل لهم الوصول إلى مناصب إدارية داخل البلديات الكبرى
تهمة دعم الإرهاب
إلى جانب تحقيقات الفساد، يواجه إمام أوغلو
اتهامات منفصلة تتعلق بعلاقته بحزب العمال الكردستاني، وذلك في إطار ما يُعرف
بـ"الاتفاق الحضري"، الذي جرى خلال الانتخابات المحلية الأخيرة بين حزب
الشعب الجمهوري وحزب الديمقراطية ومساواة الشعوب، الذراع السياسي للأكراد
المسلحين، ويقتضي هذا الاتفاق تعاون الأحزاب المختلفة بعضها مع بعض، لتقديم مرشحين
في الولايات والمناطق المختلفة.
تعاظم حجم الفساد المالي
تشير التحقيقات إلى أن حجم الفساد المالي المتورط
فيه مسؤولون داخل بلدية إسطنبول الكبرى -وعلى رأسهم إمام أوغلو- يبلغ 560 مليار
ليرة تركية، حيث تورطت شركات تابعة للبلدية في مخالفات تشمل التلاعب بالمناقصات
والاحتيال المالي، وغيرها من الممارسات غير المشروعة.
زلة لسان ولكنها فاضحة
في مشهد شبه دراماتيكي إلى حد ما، نقف أمام واقعة
لا تحدث كثيرًا في مثل هذه الظروف المشتعلة، ففي نفس اليوم الذي تم فيه اعتقال
رئيس بلدية إسطنبول "أكرم إمام أوغلو"، شارك النائب البرلماني عن حزب
الشعب الجمهوري "سيزجين تانري كولو" في مداخلة تلفزيونية عبر قناة
"Halk TV"، التابعة لحزب الشعب الجمهوري المعارض، وأثناء حديثه على
الهواء خرجت منه بعض الكلمات التي اعتبرها البعض "زلة لسان" غير مقصودة،
ولكنها كشفت عن خطة المعارضة التركية، وأكدت التهم الموجهة لأكرم إمام أوغلو.
تداعيات الاعتقال سياسيًّا واقتصاديًّا
يُشكل اعتقال إمام أوغلو نقطة تحول في المشهد
السياسي التركي؛ فقد يؤدي ذلك إلى إعادة ترتيب القوى داخل المعارضة، وقد تؤدي هذه
التطورات إلى خلافات داخل حزب الشعب الجمهوري بشأن مرشحه للانتخابات الرئاسية
المقبلة، خاصة في ظل ظهور شخصية بارزة أخرى داخل الحزب، وهو رئيس بلدية أنقرة
"منصور يافاش".
ومن ناحية أخرى، قد يؤدي الاعتقال إلى تعزيز موقف
الرئيس أردوغان، خاصة بين أنصاره الذين يرون في هذه الخطوة دليلًا على حزمه، وعدم
تسامحه مع الفساد وإهدار المال العام المخصص لخدمة المواطنين.
الموقف الأوروبي مما يحدث
بعد واقعة اعتقال أكرم إمام أوغلو علقت الخارجية
الأميركية على الأحداث في تركيا بقولها: "يمكن أن نحث تركيا على احترام حقوق
الإنسان بشكل عام، ولكننا لا نتدخل في الشؤون الداخلية للبلاد الأخرى". وهو
التعليق الذي يُفهم منه أن ترامب لا تهمه حاليًّا قضية اعتقال أو مساءلة إمام
أوغلو، بل ولا يهمه حال المعارضة التركية كثيرًا؛ نظرًا للتفاهمات التي تجمع بينه
وبين الرئيس أردوغان في أكثر من ملف وخاصة في سوريا.
ولذلك، فإن الحكم على تأثير هذه الحملة سابق
لأوانه حاليًا؛ لأنه يتعلق بحجم تعامل كل من الطرفين مع هذه الأحداث، وحسن
استغلالها بشكل جيد؛ ما يجعل النتيجة غير متوقعة في الوقت الراهن.