العدد 1663 /14-5-2025

سامر خير أحمد

أكتب من مدينة تشونغتشينغ الصينية في وسط البلاد، وهي العاصمة المؤقّتة للجمهورية إبّان الاحتلال الياباني للصين خلال الحرب العالمية الثانية، فرّت إليها حكومة الحزب الوطني لتحتمي بموقعها الجغرافي الحصين لأنها منطقة جبلية وعرة، استحال على اليابانيين غزوها وإخضاعها. ومن هذه النظرة الأساسية للمدينة، صارت تشونغتشينغ "خطّ الدفاع الأخير عن الصين" في الخطاب السياسي الصيني المعاصر، وهذه الفكرة تردّد وتستعاد اليوم بمناسبة اشتداد النزاع مع الولايات المتحدة.

ينظر الصينيون إلى هذه المدينة باعتبارها مكاناً آمناً لنقل الصناعات إليه، وعلى هذا حوِّلت المنطقة حاضنةً صناعيةً في السنوات الماضية، بما في ذلك صناعة السيارات الصينية الآخذة بالتوسع والسيطرة على مزيد من الحصص في الأسواق العالمية. هذا بينما تعدّ تشونغتشينغ منذ 1997 إحدى أربع مناطق تخضع مباشرةً لإدارة الحكومة المركزية للبلاد، إلى جانب العاصمة السياسية بكّين والعاصمة الاقتصادية شنغهاي ومنطقة تيانجين المحاذية للعاصمة، ما يعكس أهمّيتها المتزايدة في التخطيط لمستقبل الصين. وفضلاً عن موقعها الجبلي الحصين الذي منحها لقب مدينة الجسور، تقع المدينة عند نهر يانغتسي الذي يمكن أن يصير وسيلةً لنقل البضائع إلى موانئ التصدير في حال الطوارئ.

وبينما يفكّر الصينيون بالطوارئ هذه الأيّام، وينشغلون بالقلق حيالها، اختتم الرئيس الصيني زيارته إلى روسيا للمشاركة في احتفالات موسكو بالذكرى الثمانين للانتصار في الحرب العالمية الثانية. وهكذا بدت الزيارة جزءاً من تفكير الطوارئ هذا، رغم أنها في الوقت نفسه استمرار للعلاقات الوثيقة بين الجانبين الصيني والروسي خلال السنوات الماضية. فكيف يمكن التوفيق بين ما هو طارئ وما هو عادي في هذه "الزيارة التاريخية" على حدّ وصف الإعلام الصيني؟

يمكن القول إن الزيارة شرحت تبادل المواقع بين موسكو وبكّين في إطار تقاربهما الذي تكرّس عقب اندلاع الحرب الروسية والأوكرانية عام 2022، واتجاه الإدارة الأميركية السابقة لحصار الصين وفق مخطّط "الردع المتكامل"، منذ وصول بايدن إلى البيت الأبيض مطلع عام 2021. لقد بات تقارب البلدَين ضرورياً يومها، وهو ضروري اليوم أيضاً، لكن وفق ترتيب مختلف.

ففي السنوات الماضية، وفّرت الصين رئة تنفس للاقتصاد الروسي من خلال ابتياع صادرات الغاز التي أوصدت أوروبا أبوابها في وجهها، ما جعل التبادل التجاري بين البلدَين يرتفع بنسبة هائلة بلغت 68% بين عامي 2021 و2024. لكن بكين كانت يومها تؤكّد أنها لا تسعى لاستعادة سياسة الأحلاف ولغة الحرب الباردة والتكتّلات الدولية، ولا تنشئ مع موسكو كتلةً شرقيةً جديدةً، بينما كانت روسيا لا تفوّت فرصة لإبراز حلمها في بناء تحالف شرقي مع الصين يتصدّى للولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، على طريقة الحرب الباردة، ومن أجل بناء توازن دولي يفضي إلى هدم النظام العالمي أحادي القطبية.

اليوم تبدو المعادلة مقلوبةً في شأن التحالف الصيني الروسي. بكين هي التي تريد بناء تحالف استراتيجي مع موسكو، لا مجرّد شراكة استراتيجية قائمة على استغلال حاجة الاقتصاد الروسي إلى الصين، بينما تبدو روسيا أقلّ اهتماماً بذلك. لماذا؟ لأن الصين تواجه هجمةً تجاريةً شرسةً من الولايات المتحدة، تعد بتقلّص أسواقها العالمية، وهي الأداة التي رفعت الاقتصاد الصيني على مدار خمسة عقود، وكان يفترض أن تظلّ أداته الرئيسة حتى منتصف القرن. وهنا، يقدّم التحالف مع روسيا حلّاً بديلاً طارئاً للاقتصاد الصيني الباحث عن أسواق عالمية بديلة، ستكون السوق الروسية واحدة منها بالطبع، وتكاملاً عسكرياً يستعدّ لأيّ طارئ غير متوقّع. أمّا روسيا فثمة مجموعة من الاعتبارات تدفعها اليوم للتلكّؤ أمام الرغبة الصينية، أولها الخشية من إغراق أسواقها بالبضائع الصينية التي ستحلّ بالضرورة محلّ المنتجات الروسية، بما فيها في سوق السيارات، وثانيها عدم الرغبة باستعداء إدارة ترامب كما لم تكن بكين راغبة باستعداء إدارة بايدن من قبل إلى حدّ تفجّر صراع عسكري.

وعلى هذا يرجّح أن تستمرّ العلاقة الروسية الصينية في إطار تبادل المصالح التجارية، والتنسيق السياسي في الشؤون الدولية، من غير استعادة لغة المحاور وسياسة الحرب الباردة. وهكذا تعود البدائل الصينية الأكثر نجاعة إلى الداخل، وتكون بكين ملزمةً بإيجاد حلول بمفردها لهذه المواجهة مع واشنطن، أهمها الاعتماد على السوق الداخلية والاستهلاك المحلّي للتغلّب على عقبات التصدير إلى الأسواق العالمية، والبحث عن شراكات تجارية جديدة مع دول العالم من غير جرّها إلى مربّع التحالف الاستراتيجي في مواجهة الولايات المتحدة، ثمّ مواصلة التخطيط بشأن "خط ّالدفاع الأخير" في تشونغتشينغ، وفي غيرها من وسائل وأدوات محلّية، لا اعتماد فيها على غير قدرات الصين الداخلية.

في كلّ الأحوال، يبدو أن بكين كانت تعدّ العدّة لكلّ الاحتمالات منذ أن ارتقت في النمو الاقتصادي والتنمية الشاملة وباتت قوة دولية صاعدة. أمّا أفكار الطوارئ فهي من باب الإضافات التي ستكون مفيدةً في حال توفّرها، وسيكون ممكناً الاستغناء عنها في حال تمنّعها. تحسّبت الصين للاحتمالات التجارية الجارية الآن، وتحسّبت لاندلاع مواجهة عسكرية كُبرى، وتحسّبت لجرّها نحو معركة في شأن جزيرة تايوان. هذا بالضبط ما يفسّر هدوء الصين إزاء سياسة ترامب الحالية، فضلاً عن مراهنتها على إمكانية التفاوض والتفاهم وعقد الصفقات مع هذه الإدارة على نحو أفضل كثيراً ممّا كان متاحاً مع إدارة بايدن. في هذه الأثناء ما تزال بكين تضع أفكار الطوارئ على الطاولة، فتتطلع لصياغة علاقات دولية جديدة تسندها في المواجهة مع واشنطن، وصياغة خطط وطنية تفصيلية، حتى لو اضطرت للاحتماء بجبال تشونغتشينغ الوعرة.