العدد 1657 /26-3-2025

المهدي مبروك

تتوالى مشاهد عديدة يتناقلها نشطاء "فيسبوك" تُظهر مواجهات حادّة تتقابل فيها مجموعات مهاجرين قادمين من بلدان جنوب الصحراء الأفريقية، تارةً مع قوات الأمن التونسي، وتارة أخرى مع سكّان بعض المناطق في محافظة صفاقس (العامرة وأحياء صفاقس وتخومها الريفية والقروية)، وهي مشادّات تنحرفُ في مرّاتٍ عديدةٍ عنفاً أهوجَ، وتنجرّ منها انتهاكات عديدة لحقوق المهاجرين. وقد لا يمنحنا رصد تفاصيل الاعتداءات تلك وضحاياها وهُويَّاتهم مفاتيح فهم ما يجري حالياً، خصوصاً في ظلّ ارتفاع منسوب كراهية (والخوف من) هؤلاء المهاجرين.

لا تتوانى صفحات التواصل الاجتماعي عن تأجيج مشاعر الكراهية والخوف إلى حدٍّ لا يستطيع أحدٌ أن يرفع صوتاً مخالفاً لتلك الموجة العاتية. إنها "دوامة الصمت" التي وجّهت الرأي العام، وشُكِّلت في منحىً واحدٍ يقوم على مبدأ كراهية الأجانب إلى حدّ العنصرية، ما يحول دون إبداء أدنى مشاعر التعاطف معهم ومساندتهم باعتبارهم بشراً تحميهم التشريعات الدولية. يحدُث هذا في مناخ تجريم أيّ شكل من مساندة المهاجرين، وذلك ما قاد جمعياتٍ عديدة إلى المساءلة القضائية التي نجمت عنها أحكامٌ بالسجن، علاوة على توقيفات لأعضائها، وتوقيف نشاط بعضٍ منها. فما إن تُبدي موقفاً مخالفاً لأشكال التحريض كلّها على المهاجرين، حتى تهاجمك كتائب إلكترونية مجهّزة بأفظع أساليب التخوين، التي تحيلك مأجوراً تدافع عن استيطان هؤلاء. يتشكّل الرأي العام حالياً في هذه القناعة. لا أحد يسأل كيف وصلنا إلى هذه الحالة، وكيف غدَت تدفقات المهاجرين بهذا الحجم، حتى يتحوّل الرأي العام مناهضاً لوجودهم، وبكثير من مشاعر الخوف والكراهية.

تعود ظاهرة هجرة أفارقة جنوب الصحراء إلى ما يناهز العقود الثلاثة، وتحديداً إلى بداية التسعينيّات، حين فرضت إيطاليا، في إثر انضمامها إلى فضاء "شينغن" تأشيرة على بلدان المغرب العربي، مثل عشرات من البلدان الأخرى. تحوّلت بلدان شمال أفريقيا معبراً لآلاف الوافدين عليها من البلدان التي تقع في جنوب الصحراء، التي مزّقتها ولا تزال الحرب الأهلية، وأضنتها الكوارث الطبيعية، على غرار الجفاف وغيرها. غادر هؤلاء مواطنهم الأصلية، وقصدوا الشمال متوغّلين في رمال الصحراء القاتلة، حتى وصلوا منهكين إلى البلدان المغاربية. لم تكن نيّتهم الاستقرار في هذه البلدان، وقد كانت وجهتهم في البداية أوروبا. كانت أنظمة التسعينيّات، على غرار نظم زين العابدين بن علي في تونس ومعمّر القذّافي في ليبيا والحسن الثاني في المغرب، متردّدة في إحكام التنسيق الأمني لردع الأمواج المتتالية من المهاجرين. انعقدت قمم "5+5" من أجل "التصدّي" للهجرة، ووُقّعت اتفاقياتٌ عديدة، لكن النتيجة لم تكن كما تطمح إليها بلدان شمال المتوسّط، وظلّت الأرقام مرتفعةً، وخصوصاً في تونس. كان القذّافي حين يرغب في ابتزاز هذه الدول يذكّرها بأن ليبيا لن تقبل لعب دور شرطي المتوسّط. كانت ثورات الربيع العربي منعطفاً حاسماً في تدفقات الهجرة كثافةً، وحطّمت خلال السنوات العشر أرقاماً قياسيةً في عدد الواصلين إلى بلدان شمال المتوسّط، وتحديداً إيطاليا. ورغم ذلك، ظلّت هذه البلدان متردّدة في لعب دور الشرطي رغم التهديدات كلّها، وأقصى ما ذهبت إليه، تعاونٌ آنيٌّ في قبول المرحّلين من المهاجرين، فيما امتنعت الجزائر عن الانخراط في أيّ اتفاقية، وهي حتى أيّام قليلة ترفض قبول جزائريين تعتزم فرنسا ترحيلهم، ما شكّل أزمةً دبلوماسيةً ما زالت مستعرةً بين البلدين. أمّا ليبيا، فحدّت حالة الانقسام من أن تؤتي الضغوط أُكلها، وظلّت معبراً مفتوحاً للمهاجرين يعبرونه رغم التكلفة الإنسانية الباهظة، إذ تسجّل البلاد سنوياً عمليات قتل مهاجرين عديدين وخطفهم، ما يشكّل انتهاكاتٍ جسيمة لحقوقهم، في ظلّ فلتان أمني لا يزال متواصلاً.

شكّل صعود قيس سعيّد إلى سدّة الحكم معطىً مهماً غيّر مشهد الهجرة في تونس، وفي المتوسّط بشكل حاسم كانت أبرز نتائجه تحوّل البلاد أرض مُقام للمهاجرين. بدأت مع ذلك المشكلات التي يعيشها هؤلاء. سارع سعيّد في خطوات غير مسبوقة إلى عقد جملة من الاتفاقيات مع الاتحاد الأوروبي، ومع بلدانه بشكل ثنائي، ولئن تكتّمت السلطات عليها، فإن نشر الاتحاد الأوروبي بعضها يؤكّد أن السطات التونسية ذهبت بعيداً في التنسيق معه، من أجل أن تتكفّل بالتصدّي للمهاجرين، حتى تحوّلت البلاد جداراً صادّاً تتكسّر عليه موجات المهاجرين المتتالية، ولن تتوقّف في المديين، الطويل والقصير، في ظلّ تزايد الآثار الحادّة للتغيرات المناخية على القارّة، وتحديداً على دول جنوب الصحراء منها، علاوة على النزاعات والحروب الأهلية، والانقلابات التي عادةً ما تتلوها انتهاكاتٌ فظيعة لحقوق الإنسان على خلفيات إثنية أو دينية.

زارت رئيسة الحكومة الإيطالية، جورجيا ميلوني، تونس ثلاث مرّات، واصطحبت معها وزراء الداخلية والخارجية والدفاع، الذين عادوا إليها منفردين مرّات عديدة، من أجل تمتين التعاون بين البلدَين، للحدّ من تدفقات الهجرة. بعد ما يناهز سنتين، وقفت ميلوني قبالة برلمان بلدها، وقبالة المفوضية الأوروبية، للتباهي بما أنجزت: تراجع غير مسبوق لعدد المهاجرين الواصلين إلى بلدها من الشواطئ التونسية. كانت النتيجة مذهلةً، غير أن السؤال الذي لم نسأله، ولم نجب عنه نحن التونسيين: أين ذهبت تلك الآلاف؟ الجواب الذي تقدّمه المعطيات والأحداث الجارية، أنهم بيننا، وقد طال مقامهم، لأننا منعناهم من الوصول إلى هناك، حيث كانت تلك محطّتهم التي قصدوها عند انطلاق رحلتهم، ولكنّ بلادنا تمنعهم. كلّما طالت إقامتهم كانوا عرضةً لشتى أشكال الانتهاكات في ظلّ دوّامة الصمت المريعة التي تلفّ قضيتهم.