قطب العربي
لم تكن التسريبات التي أذاعتها إحدى القنوات المناهضة للانقلاب العسكري في مصر(قناة مكملين) مؤخراً لوزير الخارجية المصري سامح شكري متحدثاً مع رئيسه عبد الفتاح السيسي هي الأولى من نوعها في الاتصالات والمراسلات الخاصة التي ينبغي أن تحظى بأعلى درجات الخصوصية والأمان، بل سبقها بث العديد من التسريبات للسيسي نفسه ومدير مكتبه اللواء عباس كامل، وكذا لعدد من أركان حكمه مثل اللواء ممدوح شاهين عضو المجلس العسكري، والنائب العام الراحل هشام بركات، وأحد الشخصيات الأمنية الكبرى مع رئيس حزب الوفد السيد البدوي. وفي المقابل سرّبت السلطات الحاكمة في مصر عدداً من تسجيلات المكالمات الهاتفية لشخصيات سياسية وإعلامية بهدف حرقها أو تشويه سمعتها، سواء للرئيس المعزول محمد مرسي أو للدكتور محمد البرادعي نائب الرئيس المؤقت عدلي منصور أو لعدد من النشطاء السياسيين، بل يعتقد أن الأجهزة الأمنية المصرية تقف خلف برامج تليفزيونية يقدمها إعلاميون مقربون جداً منها مثل الإعلامي أحمد موسى، والإعلامي والنائب البرلماني عبد الرحيم علي مقدّم برنامج (الصندوق الأسود). ماذا يعني تسريب مكالمات بين وزير الخارجية المصري ورئيسه عبد الفتاح السيسي ومن قبلها بين السيسي ومدير مكتبه؟ وهل هناك جهات أو أجنحة في السلطة هي التي قامت بتلك التسجيلات ونشرتها في إطار معركة مكتومة بينها وبين السيسي؟ أم هي انتقام من بعض الأذرع الأمنية التي تخلص منها السيسي على فترات متباينة؟ أم هي لأجهزة مخابرات دولية او إقليمية؟ وما هي مآلات تلك الظاهرة؟ هل ستتوقف بعد تأكد كل الأطراف من قدرة الطرف الآخر على الرد؟ أم ستزداد وتيرتها مع رخاوة النظام المصري وتعدد الأجنحة المتصارعة داخله، أو حتى تعدد الأجهزة المخابراتية العاملة في مصر، أو حتى امتلاك شباب مصريين لتقنيات حديثة للتنصت والتسجيل؟
حماية دستورية منتهكة
ينص الدستور المصري المعدل عام 2014 في مادته 57 على ما يلي: «للحياة الخاصة حرمة، وهي مصونة لا تمس، وللمراسلات البريدية، والبرقية، والإلكترونية، والمحادثات الهاتفية، وغيرها من وسائل الاتصال حرمة، وسريّتها مكفولة، ولا تجوز مصادرتها أو الاطلاع عليها أو رقابتها إلا بأمر قضائي مسبب، ولمدة محددة، وفي الأحوال التي يبيّنها القانون». ونصت المادة 58 من الدستور على أنه: «للمنازل حرمة، وفيما عدا حالات الخطر، أو الاستغاثة، لا يجوز دخولها ولا تفتيشها ولا مراقبتها أو التنصت عليها إلا بأمر قضائي مسبب، يحدد المكان والتوقيت والغرض منه، وذلك كله في الأحوال المبينة في القانون، وبالكيفية التي ينص عليها، ويجب تنبيه من في المنازل عند دخولها أو تفتيشها، وإطلاعهم على الأمر الصادر في هذا الشأن»، كما نصت المادة رقم 59 على أن: «الحياة الآمنة حق لكل إنسان، وتلتزم الدولة بتوفير الأمن والطمأنينة لمواطنيها ولكل مقيم على أرضها». ويجرم قانون العقوبات المصري الاعتداء على حرمة الحياة الخاصة عن طريق استراق السمع (التنصت)، أو تسجيل المحادثات في أماكن خاصة، أو عن طريق الهاتف، أو التقاط صورة شخصية في مكان خاص، أو إذاعة هذه التسجيلات أو التهديد بها، ويعاقب بالحبس لمدة بين ثلاثة وخمس سنوات من أذاعها دون موافقة صاحبها، وبالرغم من هذه الحماية الدستورية والقانونية لحرمة الاتصالات والمراسلات فإن تسريب المكالمات سواء من السلطة ضد خصومها أو من المناوئين للسلطة أنفسهم قد أصبحت ظاهرة في مصر عقب انقلاب الثالث من تموز 2013، وذلك عبر بث بعض المحادثات الهاتفية (التخيلية) للرئيس مرسي مع زعيم تنظيم القاعدة الدكتور أيمن الظواهري (منتصف كانون الأول 2013), وكان الهدف منها صناعة علاقة بين الرجلين بهدف إدانة الرئيس مرسي، لكن الأجهزة الأمنية وأذرعها الإعلامية لن تقدم أصلاً لهذا الاتصال واكتفت بمحاكاة مصطنعة. وجاء نشر تلك التسريبات في برنامج الصندوق الأسود للإعلامي عبد الرحيم علي، وتضمنت تسجيلات لمكالمات هاتفية لعدد من نشطاء حركة 6 أبريل وشخصيات مستقلة مثل أسماء محفوظ وأحمد ماهر ومحمد عادل وعبد الرحمن يوسف ومصطفى النجار وغيرهم، حيث اتهمهم مقدم البرنامج بالتحريض على اقتحام المقر الرئيسي لجهاز أمن الدولة بمدينة نصر شرقي القاهرة في آذار من عام 2011.
تنوّع تسريبات السيسي
أما التسريبات التي بثها الإعلام المناهض ضد السيسي ورجاله فقد بدأت عقب الانقلاب أيضاً، وكان أولها بث الأجزاء غير المنشورة من حواره الأول مع الصحفي ياسر رزق رئيس تحرير صحيفة المصري اليوم في كانون الأول 2013، التي كشف فيها اعتزامه المبكر الترشح للرئاسة رغم نفيه العلني، كما تحدث فيها عن أحلامه الأخرى بالساعة الأوميغا والسيف الأخضر.. الخ، ثم تلا ذلك تسريبات للقاءات مغلقة له وهو وزير الدفاع مع ضباط القوات المسلحة، ثم كانت التسريبات الأخطر لمكالمات هاتفية له مع مدير مكتبه اللواء عباس كامل وبعض مساعديه الآخرين، وهي التسريبات المشهورة بتسريبات (الرز) وإهانة الدول الخليجية، ومعالجة الثغرات الخاصة باتهامات الرئيس مرسي وحبسه، وأخيراً تسريب مكالمات وزير الخارجية سامح شكري مع السيسي التي أجراها من أكثر من مكان من داخل مكتبه في القاهرة ومن خارج مصر، وتضمنت رد الخارجية المصرية على بيان وزراء خارجية دول مجلس التعاون الذي أدان اتهام الداخلية المصرية لقطر بلعب دور في تفجير الكاتدرائية المرقسية في كانون الأول الماضي، إضافة للقاءات شكري مع شخصيات أميركية في واشنطن؛ من ضمنهم نائب الرئيس الأميركي ترامب، وفريق المرشحة الخاسرة هيلاري كلينتون.
صراعات الأجنحة والأجهزة
وبغض النظر عن محتوى المكالمات وما قد ينتجه من آثار سياسية، يبقى الأهم هو التسجيل في حد ذاته ثم نقله لإحدى القنوات المناهضة للانقلاب لبثه بدرجة نقاء صوتي عالية، ما يعني أن التسجيل كان لصيقاً بالمتحدث سامح شكري، وهو ما يشي بأن بقية اتصالات وزير الخارجية المصري مسجلة بالكيفية ذاتها، وبإمكان الجهة التي تحتفظ بهذه التسجيلات بثها في الوقت المناسب أو بيعها لمن يهمه الأمر، وإذا كان ذلك قد حدث مع وزير سيادي فإن هذا يعني أن كل محادثات الوزراء والمسؤولين مسجلة سواء لدى جهة أو جهات محلية مصرية أو جهات خارجية، وهو أمر يسيء إلى سمعة مصر بشكل عام تحت حكم عبد الفتاح السيسي.
الأمر الجدير بالمعرفة هو الجهة التي قامت بالفعل بهذه التسجيلات ومصلحتها في بثها عبر قناة معارضة، وقد ذهب البعض سريعاً للزعم بأن هذه التسريبات تعكس صراعاً خفياً بين أجنحة في السلطة، تمتلك أوراقاً ضد بعضها البعض منها تلك التسجيلات، وفي هذا السياق ذهب البعض للتأكيد أن هذه التسريبات الأخيرة كانت أسرع رد على نشر السلطة لمكالمة البرادعي مع اللواء سامي عنان، الذي لا يزال له رجال داخل الأجهزة العسكرية والأمنية، كما ذهب البعض إلى أنها قد تكون من صنع بعض الجنرالات الذين أحالهم السيسي للمعاش المبكر مؤخراً في جهاز المخابرات العامة، وهو الجهاز الذي يشعر بحالة من التهميش المتعمد لصالح جهاز المخابرات الحربية الذي كان يرأسه السيسي من قبل، والذي يهيمن على مقاليد الأمور في مصر حالياً.
والأرجح أن تسريبات السلطة ضد خصومها ستستمر رغم مخالفتها للدستور والقانون، حيث تعدّها السلطة سلاحاً ماضياً في تشويه وحرق هؤلاء الخصوم، كما أن تسريب اتصالات السيسي ورجاله ستستمر، سواء كان يقف وراءها صراع مكتوم لأجنحة داخل الحكم، أو أجهزة مخابرات إقليمية أو دولية، أو حتى مع تطور تقنيات الاتصال بما يمكن أفراداً عاديين من امتلاك برامج تنصت، خاصة مع استمرار حالة الارتباك التي يعانيها النظام.}