العدد 1436 / 11-11-2020
بقلم
: أسامة أبو ارشيد
هو
مشهد سوريالي، ما تابعناه، ولا نزال، في عملية فرز الأصوات في الانتخابات الرئاسية
الأميركية. مرّة تظن أن الرئيس الحالي، دونالد ترامب، في طريقه إلى الظفر بولاية
رئاسية ثانية، ثمَّ تهوي حظوظه فجأة، من دون أن تنعدم، وتبرز إمكانية فوز جو بايدن
ليكون الرئيس السادس والأربعين للولايات المتحدة. ، مساء الأربعاء في أميركا وصباح
الخميس في العالم العربي، تعلن حملة ترامب أنها ستتقدّم بطعون قضائية لوقف
الاستمرار في فرز الأصوات في ولايات بنسلفانيا وميشيغن وويسكونسن وجورجيا ونورث
كارولاينا، في حين تطالب باستمرار الفرز في ولايتي أريزونا ونيفادا. ترامب كان إما
متقدّماً في المجموعة الأولى وتلاشى تقدّمه في بعضها، أو أنه في طريقه إلى ذلك، في
حين أنه متأخر في الولايتين الأخيرتين، وهو يريدهما لنفسه ليبقي على حظوظه بالفوز
قائمة، وإنْ تراجعت إلى حد كبير جداً الآن. وقد لا يجد هذا المقال طريقه إلى النشر
يوم الجمعة إلا وقد حسمت نتيجة الانتخابات، أو أن تكون الولايات المتحدة قد دخلت
نفقاً من الغموض، مشوباً بالنزاعات القضائية وأزمة دستورية، أو حتى العنف الواسع.
كل الاحتمالات قائمة.
المفارقة
هنا أن مصادر قريبة من ترامب تفيد بأنه يشعر بالإحباط، وأنه غير مقتنع بجدوى
الطعون القضائية، في وقتٍ وبخ محاميه لتأخرهم في التقدّم بها. عملياً، تبدو فرص
بايدن بالفوز أرجح خلال كتابة هذه السطور، خصوصاً بعد إعلان فوزه في ولايتي ميشيغن
وويسكونسن، وتقدّمه إلى الآن في أريزونا ونيفادا، وهو لديه فرصة أيضاً للظفر
بولايتي جورجيا وبنسلفانيا. مشكلة بايدن أن فوزه، حتى وإن حسم اليوم، أو في الأيام
القليلة المقبلة، إلا أنه سيكون انتصاراً مُرّاً، إذ كانت استطلاعات الرأي تتنبأ
باكتساح انتخابي.
وحتى ندرك رمزية ذلك، ينبغي أن نتذكّر أننا
نتحدّث عن رئيسٍ تحولت الولايات المتحدة تحت حكمه وناظري حزبه إلى بؤرة تفشّي
جائحة كورونا، بما ترتب على ذلك من تدهور اقتصادي، ونسبة بطالة عالية جداً، دع عنك
العنف العرقي والانقسام، بل قل التشظي المجتمعي.
صحيحٌ
أن ترامب كان صرح، غير مرة، في الأشهر الماضية، بأنه لن يقبل ببطاقات الاقتراع
البريدي إن أعطت تقدماً لبايدن، وهو دائماً ما اعتبر التصويت عبر البريد توطئةً
لتزوير مزعوم، على الرغم من أنه لا دلائل على ذلك. أعاد ترامب اللازمة ذاتها ، بعد
أن اتضح أثر بطاقات الاقتراع البريدي في تعديل كفة الميزان في بعض الولايات
الترجيحية لصالح منافسه الديمقراطي، وشكك في نزاهة العملية الانتخابية، بما في ذلك
في ولاياتٍ يسيطر عليها الجمهوريون. حديث ترامب عن محاولة سرقة الانتخابات فهم أنه
إشارة ضمنية للمليشيات البيضاء للتلويح بالعنف، وفعلاً سارع أفراد في بعضها إلى
محاصرة مراكز فرز الأصوات في ولايات، مثل ميشيغن وأريزونا.
لا
يعرف بعد كيف ستتطور الأمور، وإن كان الأكثر احتمالاً (من دون الجزم بذلك بعد) أن
الولايات المتحدة قد تكون في طريقها إلى طيِّ رئاسة ترامب، ولكن ليس طِيّ حقبته
بالضرورة، خصوصاً بعد أن بدا أن زعماء جمهوريين يتخلون عنه في دعاويه لوقف فرز
الأصوات في بعض الولايات المفصلية. سواء أخسر ترامب البيت الأبيض أم وجد طريقاً
للبقاء فيه بطريقة ما، لا تبدو أنها مرجحة الآن، فإن "الترامبية" ستكون
قوة مجتمعية وثقافية وسياسية قائمة لسنوات، إن لم يكن لعقود قادمة. ثمَّة من يرجّح
أن ترامب، بعد الرئاسة، قد يدشن شبكة إخبارية أو قناة تلفزيونية، ويشيرون إلى
انتقاداته المتكرّرة لشبكة "فوكس نيوز" اليمينية المنحازة إليه، التي
يشتكي أنها لا تدعمه بشكل كافٍ. وسواء أكانت له قناته التلفزيونية الخاصة أم لا،
فإن جمهوريين كثيرين سيبقون يرجون ودّه، وسيبقى له قاعدة شعبية صلبة، ولا يستبعد
أن يسعى إلى الترشح للرئاسة مرة أخرى في المستقبل إن خسرها الآن.
قد
يكون ترامب حالة متفرّدة من نوعها، كما يقول الصحافي الأميركي توماس فريدمان، ولكن
ما يجسّده يجد له صدى واسعاً وعميقاً في الولايات المتحدة. تعيش أميركا، في
العقدين الأخيرين على الأقل، استقطاباً وشرخاً مجتمعياً، وثمَّة تصاعد فيها
للعنصرية والحساسيات العرقية والعنف، فضلاً عن دعوات الانعزالية والحمائية
الاقتصادية، وهو التيار الذي نجح ترامب في تقمص تمثيله. في المقابل، هناك أميركا
أخرى، أكثر انفتاحاً وقبولاً بالآخر. وهناك من يريد دوراً أميركياً عالمياً عبر
تحالفاتٍ يقودها ولا يكون شريكاً فيها فحسب. وفي المحصلة، تبقى السياسة الخارجية
الأميركية ضمن مقاربتي الطرفين عدائية في جوهرها وتسلطية، مع اختلاف أدواتها
وآلياتها.
بغض
النظر عمَّا ستؤول إليه الانتخابات الرئاسية، وسواء انطلقت معارك قضائية ودخلت
البلاد في أزمةٍ دستوريةٍ واندلعت أعمال عنف، أم كان هناك اعتراف بالنتائج وانتقال
سلمي للسلطة، فإن الحقيقة الماثلة أمامنا لا تكاد تخطئها عين. تعيش الولايات
المتحدة أزمة هوية وقيم وأعراف وتقاليد وتوازنات مؤسسية كان يظن أنها راسخة، وهي
اليوم تقف عاريةً أمام مرآة الذات. كل ما فعله ترامب هنا أنه عرّى بؤر الهشاشة
هذه، خصوصاً في تَنَمُّرِهِ على القانون. هذا لا يعني أن المشهد سوداوي برمته، إذ
لا يمكننا إغفال حقيقة أن أميركا تملك من أدوات الإصلاح الذاتي وآلياته الكثير،
وما تعلق رئاسة ترامب بِقَشٍّ هَشٍّ الآن إلا دليل على ذلك. السؤال، هل تملك
الولايات المتحدة إرادة التصويب الذاتي وهل تقدر على إنفاذها؟ هذا أمر يحتاج
نقاشاً آخر.