العدد 1627 /28-8-2024
طارق الزمر
لا زلت أذكر كيف تجمعت
لدى جيلي في السبعينات من القرن الماضي، إرادة تغيير تكفي لتغيير العالم، وليس تغيير
بلادنا فحسب، كما توفر لدى الشباب يومها تصميم وعزم مدهشين، على عدم الاستسلام
لطرق تفكير الأجيال الأسبق، التي رأيناها مستسلمة للواقع، أو بالحد الأقصى تعمل
على تغييره وفق ديناميات كلاسيكية راكدة، تكرس الواقع أكثر مما تؤهل لتغييره!
لقد تجمعت حول هذا
الجيل العديد من الأسباب، وأتيح له أن يتابع، بما يشبه الالتحام، العديد من
الأحداث ومجريات الأمور في المنطقة والعالم، والتي كانت متسارعة بمقاييس هذه
المرحلة، برغم أنها بطيئة راكدة، بمعايير التحولات السياسية والاجتماعية
والاستراتيجية التي تجري اليوم، وكان من أهم إنجازات هذا الجيل المتعلقة بطموحاته،
هو طرحه مشاريع عامة للتغيير بملامح ثورية.
وفي هذا السياق ووفق
هذا المعيار، فإننا لو نظرنا للعالم العربي والإسلامي والعالم الثالث بوجه عام،
فيما بعد حقبة السبعينات، لوجدناه يمر بمرحلة مخاض، لكنها لا تزال سارية ترقب
الظروف حولها، بحثا عن ميلاد مناسب، بل هي كما البركان الذي يثور تحت قشرة الأرض،
باحثا عن مخرج تسمح به القشرة الأرضة.
وبرغم أن الأعوام
الأربعين -منذ السبعينات وحتى الربيع العربي 2010- قد شهدت العديد من الفورات
والأزمات السياسية وبراكين الغضب والاضطرابات المكتومة، إلا أن المجتمعات ظلت في
الغالب الأعم مخنوقة مقموعة، وربما سرت فيها وعوقتها أحيانا روح: "ظل مستبد
أفضل من لا ظل"! التي هي من ميراث قرون الركود الأخيرة.
ورغم ذلك فقد استمرت
روح التغيير حية، وإن كانت كامنة، تبحث عن مخرج، كما رأينا في بنغلاديش وكينيا في
الأسابيع الأخيرة، حيث تزايد فوران الشباب مع تصاعد موجات القمع، وتسارع التغيرات
العالمية، وثورة الاتصال، والموجات المتتابعة للانفتاح على العالم.
والحقيقة أننا يمكن أن
نعتبر موجات التغيير التي بدأت في العالم العربي والإسلامي منذ الثمانينات، ولا
تزال آثارها ممتدة، هي موجات ثورية متلاحقة، وإن أمكن رصد اعتبارها في جانب مهم
منها كرد فعل على تمزيق الدولة العثمانية، وتوزيعها لمناطق نفوذ بين المنتصرين في
الحرب العالمية الأولى، وفق مقررات "سايكس بيكو" المهينة، التي قسمت
بلداننا ومجتمعاتنا قسريا ولأول مرة منذ عدة قرون، ورسمت ملامح الحياة على
أراضيها، بما يتوافق مع مصالح المستعمر، ووفق تكريس وضعية استراتيجية وأمنية
واقتصادية، تضمن استمرار التبعية والخدمية أو الوظيفية، بعد أن أعادت احتلالها
بشكل جديد، تارة يكون الاحتلال سياسيا وتارة اقتصاديا وتارة ثقافيا.
وبطبيعة الحال، فقد حاولت
غالبية النظم الجديدة أن تضفي على حكمها شرعية، تستطيع من خلالها أن تواجه وضعيتها
القلقة، ولأن غالبيتها استندت لحكم عسكري، فقد نجحت إلى حد بعيد في فرض شرعيتها
بالقوة، فبقيت مجرد شرعية شكلية، رغم الاستناد ظاهريا إلى أدوات الشرعية التقليدية
السائدة: الديمقراطية، الانتخابات، البرلمانات.
ومع ذلك لم تستطع هذه
النظم الحديثة التي ولدت في مرحلة ما سُمي بالاستقلال الوطني، وتذرعت بأسس الدولة
القومية، أن تواجه تحديات العصر، ولا مشكلات المجتمعات الحديثة، فلا هي حققت
الاستقلال الوطني، ولا هي نجحت في بناء هوية وطنية بديلة للهوية الإسلامية التي
جرى إقصاؤها، ولا هي نجحت في معارك التنمية الاقتصادية ولو بالقدر اليسير، بل
ووقفت عاجزة أمام المشروع الصهيوني الآخذ في التغول!
وفي ضوء عدم قدرة
الدولة الوطنية الحديثة على تلبية طموحات شعوبها، وخاصة طموحات وحاجات الشباب
المتجددة، وقع الصدام الكبير، الذي كان في شكل رفض سياسي أو معارضة، ثم انتقل إلى
انتفاضات مسلحة، حتى بلورت الشعوب رؤيتها للتغيير، فبدأت الثورات الشعبية منذ 2010
تأخذ منحنى تصاعديا، وصل لأهم نجاح في تغيير رؤوس الاستبداد، وإن لم تكتمل
الثورات، فعادت الحكومات القمعية مرة أخرى، لكن بقيت شرعيتها مجروحة أو مفقودة،
وذلك في إطار أن عودتها أصبحت مرتبطة بأقصى درجات القمع الممكنة.
كان أهم ضحية لهذا
الصدام هي الشرعية السياسية، فضلا عن القانونية، التي انهار جانب كبير منها قبل
الثورات على مذبح القمع وتحت مقاصله، كما سقط باقيها بعد ثورات الربيع العربي بفعل
الثورات القمعية المضادة، وما استخدمته من قمع لإجهاض ثورات الشباب، التي وإن بدأت
عام 2010 وأنتجت موجتها الثانية في 2019، فها هي قد عادت من جديد تضرب في بنغلاديش
2024، في موجة ثالثة من غير المستبعد أن تلتحم بها ثورات أخرى، في ظل تأهب العديد
من شعوب منطقتنا للانتفاض، وتوافر خمائر الثورة لدى العديد من مجتمعاتها.
صحيح أن الثورات تمت
محاصرتها، بتواطؤ دولي وإقليمي مع الدولة العميقة، وتم قمعها وتصفيتها عبر ثورات
مضادة، إلا أن هذه الثورات القمعية برغم نجاحها في سد فوهة البركان، لم تستطع ولن
تستطيع أن تلاحق التفاعلات البركانية تحت الأرض، فالبركان وإن كان قد خمد ظاهريا،
لا زال يتفاعل باحثا عن مخرج آخر. فكل الأسباب لا تزال حاضرة، وكل أمراض الاستبداد
لا تزال متوفرة، بل زادتها الثورات المضادة حضورا.
وفي هذا السياق يجب أن
نؤكد: أن "أسباب ثورات الشباب"، برغم أنها صارت معروفه بل محفوظة بما
يوحي بإمكانية تداركها أمنيا، إلا أنها بطبيعتها تعمل وفق ديناميات تصعب ملاحقتها،
وإن تمت محاصرة جانب كبير منها بفعل تطورات الآليات الأمنية، واحتكارها للتقنيات
الحديثة في مجالات الأمن والاستخبارات، فلا تزال ثورات الشباب تمتلك من عناصر
الحيوية والقوة ما يُصّعِب تداركها.
فلا تزال ثورات الشباب
حاضرة برغم كمونها، كما أنها لا تزال قادرة على ابتكار المزيد برغم الحصار، فأهم
خصائصها مرتبط بطبيعة تكوين الشباب، والسيولة المتوفرة في الآليات التي يعتمدون
عليها، لهذا أصبحت ثوراتهم، مما يمكن تسميته "السهل الممتنع"، فضلا عن
امتلاكها للمفاجأة، وهي بطبيعة الحال مما يربك أي نظام أمني، مهما كانت
استعداداته، ومهما توفرت له من إمكانيات.
ليس هناك شك أن النظم
السياسية المستبدة، تعيش اليوم خارج عصرها الذهبي، بل وخارج العصر، وكل نظام سياسي
لا يستطيع الحضور بشكل حقيقي، من خلال الإنجازات والخدمات، ومن خلال بناء شرعية
ناجزة، ليست زائفة، لن يكون لديه نصيب في البقاء، فلم تعد الشرعيات الزائفة
مقبولة، ولم تعد الوعود الكاذبة تخدع الشعوب، وخاصة جيل الشباب، مهما كانت درجة
التفنن والتزييف.
لكن يبقى.. أن قدرة
الشباب على مواجهة تحديات استكمال الثورات لا تزال هي الأهم، وهو ما يجب أن نتأهب
له، بإعداد أجيال شابة: لديها دراسة وافية لعلم الثورات، ودراية وخبرة بالثورات
الناجحة، وذلك حتى لا تظل الثعابين تلدغ شعوبنا من ذات الجحر، فكما ابتليت منطقتنا
بسارقي نضال الشعوب ضد الاستعمار، فإنها ابتليت بمكر الثورات المضادة التي تتربص
بشعوبنا، وتنصب شباكها استعدادا للعودة كلما رحلت!