العدد 1620 /10-7-2024
علي أنوزلا
عكس كل توقّعات استطلاعات الرأي التي سبقت الجولة
الثانية من الانتخابات الفرنسية التي جرت الأحد الماضي، وتنبأت بفوز ساحق لليمين
الفرنسي المتطرّف بقيادة حزب التجمّع الوطني، جاءت النتائج على غير هذا تماماً،
وحملت معها مفاجآت كثيرة، لعل أبرزها تصدّر تحالف أحزاب اليسار الفرنسي المتكتل
داخل "الجبهة الشعبية الجديدة" لنتائج تلك الانتخابات، وهو ما دفع
كثيرين إلى التهليل بفوز اليسار الذي انتصر على اليمين الفرنسي المتطرّف في جولة
انتخاباتٍ وُصفت بأنها "حاسمة وتاريخية".
لكن مهلاً، ليست الصورة كما حاولت أن ترسمها
عناوين الأخبار في اللحظات الأولى لإعلان نتائج الاقتراع، أو كما حاول زعيم حزب
فرنسا الأبية، جان لوك ميلانشون، الذي يتزعّم حزبه تحالف اليسار، أن يبشِّر بها
أنصاره ليلة فرز الأصوات عندما دعا إلى تسليم الحكم لليسار، مستبقاً الكشف عن
النتائج النهائية. والآن، وبعد الكشف عن جميع الأرقام، اتّضحت الصورة التي تبيّن
بما لا يدع أي مجالٍ للشك أو التأويل، بأنه لا منتصر ولا مهزوم في هذه الانتخابات،
فتحالف اليسار الذي تصدر نتائجها حصل في نهاية المطاف على 182 مقعداً موزّعة على
أربعة أحزاب ما يجمع بينها عداؤها لليمين المتطرّف، يليه تحالف الرئيس الفرنسي
إيمانويل ماكرون بـ 168 مقعداً، وأخيراً تحالف اليمين المتطرّف الذي حصل على 143
مقعداً، وهو ما يجعل كل هذه القوى السياسية عاجزةً بمفردها عن تشكيل الأغلبية
المطلقة التي تحتاج إلى 289 مقعداً.
وبعيداً عن تصريحات (وتطلعات) السياسيين الفرنسيين
من كل هذه الاتجاهات الثلاثة، فإن القراءة المتأنية لأرقام الانتخابات تكشف أن
ثمّة منتصرٌ حقيقيٌّ فيها، هو اليمين المتطرّف الذي حقق قفزة مذهلة مقارنة
بالانتخابات التشريعية السابقة، فقبل عامين كان يمثله 89 نائباً، وفي هذه
الانتخابات، حصل مع حلفائه على 143 مقعداً، بما في ذلك 125 مقعداً لحزب مارين
لوبان "التجمّع الوطني". كما ينبغي ألا ننسى أن تحالف اليمين المتطرّف
حصد أكبر عدد من الأصوات المعبّر عنها في هذه الانتخابات، ما يجعل منه القوة
السياسية الأولى من حيث الشعبية، فقد ناهز عدد الفرنسيين الذين منحوه أصواتهم في
الجولة الثانية تسعة ملايين صوت، أي ما يناهز ثلث الأصوات المعبّر عنها، مقابل
سبعة ملايين صوت حصلت عليها أحزاب اليسار كلها مجتمعة داخل "الجبهة
الشعبية"، ما يمثل ربع الأصوات المعبّر عنها. وأخيراً، ستة ملايين وثلاثمائة
ألف صوت ذهبت إلى تحالف حزب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أي أقل من ربع الأصوات
المعبّر عنها. مقابل مليون ونصف مليون صوت اعتُبر تصويتها أبيض أو ملغياً، وأكثر
من 14 مليوناً ونصف مليون فرنسي لم ينتخبوا أصلاً. فما تكشف عنه هذه الأرقام أن
أكبر كتلة ناخبة صوتت لصالح اليمين المتطرّف، وهو ما دفع زعيمته جان ماري لوبان
إلى الحديث عن "الانتصار المؤجّل".
ما حصل في هذه الانتخابات تأجيل لفوز اليمين
المتطرّف بفضل "السد" الذي أقامته أمامه "الجبهة الجمهورية"
التي ضمت معسكر الرئيس الفرنسي واليمين الديغولي وتحالف اليسار الذي كان يعتقد
الجميع أنه مات وانتهى قبل أن ينتفض ويُبعث من رماده. وأدّى انسحاب أكثر من 220
مرشّحاً، خلال الجولة الثانية من الانتخابات، محسوباً على هذه الجبهة إلى مبارزات
مباشرة وقاتلة ما بين مرشّحيها ومرشّحي اليمين المتطرّف، كانت نتائجها سلبية
لليمين المتطرّف. كما أن ضعف برنامج هذا اليمين المتطرّف المبني على شعارات
نيوليبرالية جوفاء جعلت منه نسخة سيئة من برنامج الرئيس الفرنسي وأغلبيته في
البرلمان المنتهية ولايته. وأخيراً، أدّى ضعف موارده البشرية إلى انكشاف ضعف
مرشّحيه الذين كانوا يدلون أحياناً بتصريحات عنصرية معادية للسامية ومعادية
للنساء، وتجلى هذا الضعف أكثر داخل ستوديوهات القنوات العمومية الفرنسية من خلال
المناظرات التي كشفت عن عنصرية وهزالة تفكير من كانوا يمثلونه ويدافعون عن
أطروحاته.
مع ذلك، ينبغي ألا يجعل هذا كلّه المراقب ينسى
الأمر الأساسي، وهو أن الزحف اليميني في فرنسا ما زال مستمرّاً في التقدّم. ولم
ينته السباق عند الجولة الأخيرة من هذه الانتخابات، ويجب انتظار عودة اليمين
المتطرّف، وبقوة، في الانتخابات الرئاسية عام 2027. وكما يقال، "ربّ ضارّة
نافعة"، فالهزيمة "الجزئية" لليمين المتطرّف الفرنسي في انتخابات
الأحد الماضي ستجعل منه القوة المعارضة الأساسية داخل البرلمان الفرنسي في العامين
المقبلين، وهو ما سيزيد من تعزيز شعبيّته لدى شرائح واسعة من الفرنسيين، خصوصاً من
أصحاب المستويات التعليمية الضعيفة أو المتوسّطة الذين يمثلون غالبية خزّانه
الانتخابي. كما أنه سيواصل تجذّره وترسيخ نفسه داخل المشهد السياسي الفرنسي لكسب
مزيد من الأنصار والمتعاطفين، وهو قادر على فعل ذلك بخطابه الشعبوي ومزايداته
السياسية. وعكس ما قد يتصوّره كثيرون، فإن ما وصف صعوداً نحو النهاية، بالنسبة
لليمين المتطرّف الفرنسي، هو في الحقيقة خطوة أخرى نحو قصر الإليزيه، وهذه هي
الاستراتيجية التي اتّبعها هذا اليمين منذ بداية القرن، فكل الهزائم الانتخابية
التي مُني بها في السنوات الماضية لم تزده سوى قوة وترسّخٍ داخل المجتمع الفرنسي.
وكما يقال الهزيمة التي لا تقتل تقوّي، وهذه هي استراتيجية اليمين المتطرّف.
وسوف نشهد في السنتين المقبلتين كيف سيحاول اليمين
المتطرّف الاستفادة من هزيمته المعلنة أخيراً، واستثمارها من خلال وضع نفسه مكان
الضحية حين تكالبت ضده كل القوى السياسية لوقف زحفه نحو السلطة، وسوف يتوجّه نحو
ناخبيه الذين يشعرون بخيبة أمل كبيرة، ليقول لهم إن ما حصل هو سرقة انتصارهم، وإن
معارضيهم هم الذين وقفوا ضد إرادة الشعب. وهذه هي استراتيجية اليمين والشعبويين في
كل مكان وزمان، اللعب على مشاعر الناس المحبطين لتحويلها إلى حطب في حروبهم
المقبلة. وليست هذه الاستراتيجية خاصة بفرنسا، وبما أنها نجحت، في الماضي، مع
نازيين وفاشيين كثيرين، فلا شيء يمنع من أن تتكرّر في فرنسا سواء عام 2027، أو ما بعده.
ومع الأسف، تهبّ رياح التاريخ في الاتجاه الذي يوجّه إليه هذا اليمين شراع سفنه!