العدد 1693 /10-12-2025

جمال محمد إبراهيم

يتناول المقال عرضٍاً مقتضباً، بتركيزٍ وجيزٍ، لاستصحاب وقائع وخلفياتٍ تاريخية، تلقي ضوءاً يساعد على فهم تعقيدات أوضاع الأزمة السّـودانية المستعصية. أجل، هي أزمة لها أسباب عميقة الجذور، يزيد في استعصائها على أهلها، كما على الأطراف الساعية إلى التوسُّـط لحلّها من دون جدوى. صورة السُّـودان الماثل، والذي استقلّ من حالة الاستعمار منذ 70 عاماً، ينخرط في حربٍ يسارع عبرها للوصول إلى الإفناءٍ الذاتي والدّمار الشامل، ليسجل حالةً لدولةٍ غير مسبوقة في التاريخ الحديث. فثمّة خلفيات لا يسمعها المتابعون، مما يبثّ عبر القنوات والتغطيات الإعلامية، ومن محللين وإعلاميين وخبراء تحليل سياسي، سودانيين أو سواهم.

إنّ من يسعى إلى فهم طبيعة المأزق الذي يحاصر مصير السودان له أن ينظر إلى تنوّع جغرافية ذلك البلد وتاريخيه، القريب والبعيد، وديمغرافية سـكانه، وتنوّع إثنياتهم وأجناسهم وألسنتهم وثقافاتهم. من قال من المؤرِّخين عن السُّودان إنه صورة "ميكروسكوبية" لقارّة أفريقيا لم يكن بعيداً عن الحقيقة ألبتة. تجد فشل السودانيين في استبصار تنوّع أوضاع بلادهم الداخلية قد قادهم إلى حالٍ مِن التماس المستعصِي مع نفسه، مثلما مع جيرانه الثمانية. هي حالة أعمى خرج مُمسكاً بعصاه، لكنّهُ لا يعرف حال هندامه، عارياً أو كاسـياً. وليس ذلك من قِلة عقـل، بل من قـِلّة وعي.

السودان الذي لم يستبصر جيّداً أوضاعه الجغرافية والتاريخية بقيَ مُعلقاً بين هويتين: أفريقية وعربية. ثمّة فراعـنة سُـمر من الأسـرة الخامسة والعشرين حكموا في قرون قبل ميلاد المسيح، من وادي النيل إلى أطراف الشّـام وفلسطين، مثلما حكم سودانيٌّ أسود من جنوب السودان بلداً أفريقيا اسمه يوغندا في سبعينيات القرن العشرين.

للحرب الدائرة في السودان جذور في ما حكيت أعلاه. لنا أن ننظر بعمق إلى طبيعة المنخرطين في القتال. علينا التمييز بين طبيعة تكوين الجيش الرّسمي للدولة، خلفيته وعقيدته، وطبيعة أيّ قـوات إضافية أخرى مساندة، سواء قوات طوعية يشرف عليها جيش الدولة الرَّسمي، أو أي قواتٍ أخرى تنشأ بمعزلٍ عن الدولة، وتكون موازية لجيشه، أو متمرّدة عليها. للجيش الرسمي قواعد للتدريب وللاعتماد، ولها تراتبيّة تعكسها الخبرات وتنظمها الرتب العسكرية، وفوق ذلك تخضع لتقاليد عسكرية ولقواعد انضباط صارمة. ليس للمليشيات والحركات المسلحة العشوائية، موازية أو متمرّدة، أيّ تقاليد عسكرية ولا قواعد انضباط، ولا التزام بتقدير الرُّتب الأدنى للرتب الأعلى.

لم ينعم الجيشُ السُّوداني الوطني بحالة من الاستقرار منذ خروجه من عباءة المستعمر قبل 70 عاماً، إذ مع تباشير استقلال البلاد، وقع تمرّد مُسـلَّح في جنوب البلاد، في 1955، واستفتحت البلاد حـرباً أهلية بينَ الشمال والجنوب قُدِّرَ لها أن تستمر نحو عقدين، في قتالٍ شرس. لم تضع الحرب تلك أوزارها إلا بعد اتفاقية أبرمت بين حكومة السودان ومتمرّدي جنوب السودان، في 1972 على أيام نظام قاده الرئيس جعفر نميري. بعدها حلَّ السلام في ربوع البلاد قرابة عشرة أعوام. إلا أنَّ هذا النظام، وقد بدأ في سنواته الأولى قريباً من قوى اليسار، تحوَّل بعد مصالحات وطنية، وانفتح بعدها على قوى سياسية يمينية، وكان منهم إسلاميون صاروا الأكثر تأثيراً في نظامه. تحوّلَ نميري بعدها جذرياً نحو أسلمة الحكم في السودان. ثمَّ بادر، من نفسه، إلى نقض ذلك الاتفاق السلام، فصار نظامه كالتي نقضتْ غزلها وجعلته أنكاثاً. ذلك واحد من أسباب عدة، انتفض بعدها جنوب البلاد في تمرُّدٍ جديد على شماله عام 1983. ثم كانت انتفاضة السودانيين عام 1985 وأسقطتْ نظام جعفر نميري. غير أن الحرب لم تتوقف، إذ استمرت خلال سنوات حكم المدنيين المضطربة، إلى أن استولى الإسلاميون على الحكم في السودان في 1989.

مرّ الجيش الوطني في السودان بتجربة للأدلجة والتسييس خلال فترة حكم الجنرال جعفر نميري،، بدتْ بصورةٍ ناعمة أواخر سبعينيات القرن العشرين، ثمّ سرعان ما وقع تحوّل في النظام، واتخذ توجُّهاً إسلامياً بتأثير من التنظيم الإسلامي الذي كان يقوده حسن الترابي الذي أصبح شريكاً مع نظام نميري. نتيجة هذا، اتَّبع نظام نميري أواخر سنوات السبعينيات تنظيم دورات لتأهيل ضباط الجيش السوداني، عبر برامج للدراسات الإسلامية. من تداعياتها أنْ حدث تحولٌ بدا تدريجياً في عقيدة الجيش الوطني، فتأثرت بذلك الكثير من الرُّتبِ العسكرية الوسـيطة.

حينَ وقع الانقلاب على الحكومة المنتخبة في يونيو/ حزيران 1989، كان ملاحظاً أنَّ كلّ قياداته من الضباط الإسلاميين، هم من تلك الرتب الوسيطة التي تلقت تأهيلاً إسلامياً، خلال فترة حكم جعفر نميري، فتحوَّرت عقيدة الجيش الوطني التي تأهلت "إسلامياً" في حالة حكم نظام نميري السابق، لتلعب دوراً رئيساً في النظام الانقلابي الذي قاده من وراء حجاب، زعيم الجبهة الإسلامية حسن الترابي وتركت قيادة الحكم التنفيذية لأكبر رتبة وسيطة، فتولى العميد عمر البشير السلطة، واستمرت سيطرته 30 عاماً.

تواصلت الحرب الضروس سنوات طوالاً، بين قوات الحكومة في الشمال وقوات الحركة الشعبية في جنوب السودان، وأصيب الجيش الوطني خلالها بحالة إنهاك قصوى. خلال 20 عاماً من الاقتتال الشرس، وما لحق بنظام جبهة الإنقاذ من ضعف جرَّاء عزلته غير المجيدة، كانت للمجتمع الدولي والإقليمي ضغوطه التي أثمرتْ بعد مفاوضات مضنية اتفاقيات أنهت حالة الحرب في عام 2005، حملتْ إقراراً بأجراء استفتاءٍ، قاد في2011 إلى انفصال جنوب السودان دولة لحالها. وكان انفصالُ جزءٍ غير مسلم من البلاد أمراً مريحاً لنظام الإسلاميين السودانيين.

جيش السودان الذي تعرّض "لأدلجة" مخفّفة وناعمة، في السنوات الأخيرة من حكم جعفر نميري، صار تحت نظام البشير "الإسلاموي" أكثر وضوحاً وأشدّ مسعىً إلى تسييس الخدمة المدنية إسلامياً عبر سياسة "التمكين". وتلك سياسة طبقها الإسلاميون على كل مؤسّسات الدولة، إذ طاولت المؤسّسات التعليمية والفنية والخدمة العامة والدبلوماسية والهندسية والطبية التي قضت بإحلال الموالين للنظام في جميع مفاصل الدولة المدنية.

أما الجيش الوطني، فبدأت تجربة "أدلجته" وتسييسه مبكراً، وتواصلت بوتيرة أسرع بعد تولى تنظيم الإسلامويين حكم البلاد بعد عام 1989. القوات النظامية في الجيش أو الشرطة، ممن كان مجنّدوهم مضرب المثل في الانضباط والنظافة والأناقة العسكرية، تحولّ معظمهم إلى إطلاق اللحى والإكثار من التزيِّي بالجلاليب للرجال، ثم تبعه إعلان قوانين اللبس المحتشم للنساء ومنع خلوة النساء مع الرجال. ولربما بدت مثل هذه الأمور توجيهات شكلية، لكنها شـكّلت ذهنية تعمّدت لإعادة صياغة المجتمع بكامله في كورة الإسلام السودانية. ولعلَّ غسل أدمغة أفراد القوات النظامية قد حصل بقصد ترسيخ عقيدة سياسية تقنعهم بكونهم الأقدر والأقوى، والذين يُستأمنون لتولى مهمّة حكم البلاد. ... وهكذا انتهى جيش السودان إلى حالة من الإنهـاك والتضعضع وتداعي الروح المعنوية وغياب الانضباط وبقية التقاليد العسكرية.

أمام استعصاء إيجاد حلول للتحديات الجسام داخلياً وخارجياً، التي واجهت الحكم، وأودت به إلى عزلة في إقليمه، فضلاً عن نفور المجتمع الدولي عن نصرته، بدأ تفككه وتضعضعه، فهـبَّ السودانيون وأسقطوه في انتفاضة شعبية كاسحة كبرى في ديسمبر/ كانون الأول 2019. سارع عدد من الضباط الإسلاميين في الجيش الوطني الرسمي، الناقمين على سياسات عمر البشير، وانحازوا لمساندة تلك الانتفاضة. تحالف معهم مجندو مليشيا الدعم السريع غير المدرّبين، تحت قيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) الذي كان البشير قد منحه رتبة ضابط كبير في الجيش، وشاركت معها بعض الحركات المسلَّحة التي ظلت تعارض النظام، وهكذا نجحت الثورة في إقصائه. ولكن مساندة المكوّن العسكري ومن والاه من المسلحين لم تكن انحيازاً بلا ثمن.

لمْ تفلح الثورة التي أسقطتْ نظام حكم البشير عام 2019، وساندتها قيادات من الجيش الوطني، الرَّسمي، وأيضاً من قيادات مجنّدي قوات الدعم السريع، وسواهم من مليشيات تابعة لحركات مسلحة من أبناء غرب السودان ووسطه وشرقه، في تجاوز خلافات مكوّناتها المدنية والعسكرية وصراعاتها. انتهى الأمر بالانقلاب على الحكومة المدنية الانتقالية، تلك التي عُهـدَ إليها بالإعداد لمرحلة حكم انتقالي، لوضع أسس لحكم ديمقراطي مدني في السودان المضطرب. ولكن سرعان ما تصاعدت وتيرة الخلافات بين التكوينات المدنية والعسكرية، فوقع انقلاب قاده الجنرالان، عبد الفتاح البرهان وحميدتي، في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021. بلغت المناوشات بين الاثنين حول إدارة البلاد تجري تحت الطاولة، ثم سرعان ما ارتفعت إلى فوق الطاولة. فيما أخذ البرهان يعزّز سيطرته، سعى حميدتي إلى تعزيز مساعيه للاستقواء بحلفاء داخل السودان داخلياً، باستجلاب مزيد من المجندين المسلحين إلى أسنانهم بلا تأهيل، وبالحصول على السلاح القاتل من وراء الحدود، مستغلاً ما بيده من ثروات يسيل لها لعاب حلفاء الخارج.

وهكذا تحوَّلت الخلافات السياسية بين الفرقاء السّودانيين إلى حربٍ مدمِّرة بين الجيش الوطني الرَّسمي وقوات الدّعم السريع ومن معهم، حرب جرحتْ وقتلت آلافاً من السكان الأبرياء، وفرَّ من استطاع أن يفرَّ، ومَن بقيَ منهم طُحِـنَ طحنـاً قاسـياً، فكانت المأساة الماثلة، هي تلك الحرب التي انشغل عنها المجتمعان، الدولي والإقليمي، فصارتْ حرباً منسية، بل صار السودان الذي اندلعت تلك الحرب في أرضه، عند رئيس الدولة "الأعظم"، بقعة كأن لم يسمع بها من قبل.

قيادات الجيش الرّسمي، الذين واجهوا التمرُّد الماثل، من مليشيا الدّعم السريع، وفي مقدمهم الجنرال البرهان، وقادوا حرب الجيش الرسمي الوطني، معلنين أنهم الحكومة الشرعية من مدينة بورتسودان، ظلوا يسعون إلى الحصول على شرعية غائبة. يلاحظ على تلك العصبة من الجنرالات ضعف قدرات على السيطرة على البلاد، بل أيضاً ضعف السيطرة على بعض ضباط الجيش، وحتى في التزام التقاليد العسكرية السودانية الرّاسـخة منذ إنشاء قوة دفاع السودان قبل مائة عام.

ضباط الجيش الرَّسمي، وجنرالاته الذين يديرون البلاد مؤقتاً، بمسمّى "المجلس السيادي"، تتخبّط أقوالهم وتضطرب مواقفهـم، ويتعزّز عجزهم كلَّ يوم عن الحصول على اعترافٍ بشرعية سيطرتهم على حكم السودان، لا من المجتمع الإقليمي ولا من المجتمع الدولي. وثمّة شبهات تكاد تثبت صدقيتها أطرافٌ دولية، فقد أكّدت تقاريرها من دون مواربة، أن قيادات نظام "الإنقـاذ" السابق تتخفّى وراء الجنرال قائد الجيش، ووراء حكومة بورتسودان ورئيسها الذي بلا أعباء، يتحيّنَون الفرص للقفز من جديد إلى حكم السودان. ليس ذلك ما يثير العجب، أوليسوا وحـدهم من يرونَ في مناماتهم أنهم عائدون إلى حكم السودان؟

من ينظر إلى حال السودان والمسلحين الذين يتقاتلون بشراسة، ولكنهم يقتلون شعبهم في محـارق شهوة الحكم، سيرى بعينيه حالاً من "الفوضى العسكرية"، ضاربة أطنابها، وسيرى طامعيـن من وراء الأنهار والبحار والمحيطات وقـد انفتحـتْ شـهواتهم لابتلاع كعكـة السودان، وسيرى مجتمعاً دولياً لا يعرف بعضُ كباره أين موقع السودان في خرائط الجغرافيا، وسيرى، من قبل ومن بعد، ما تبثه شاشات التلفزة عن العجـزة والمعوَّقـيـن أخلاقياً وسياسياً وعسكرياً، وهم يطمعون للسيطرة على بلدٍ كان يوماً من أكبر بلدان القارّة وأوسعها صيتاً؟