العدد 1512 /18-5-2022
بقلم: صابر غل عنبري
في أول احتجاجات من نوعها
في عهد الرئيس الإيراني المحافظ إبراهيم رئيسي، شهدت إيران تظاهرات في مناطق مختلفة،
كان محركها الرئيسي الأزمة الاقتصادية المتفاقمة في البلاد جراء العقوبات الأميركية
المشددة منذ عام 2018 وسوء الإدارة على مر عقود. وتأتي هذه الاحتجاجات فيما لا تزال
مفاوضات فيينا النووية غير المباشرة بين طهران وواشنطن، تواجه تعثراً في طريق التوصل
إلى اتفاق تعود إيران بموجبه إلى التزاماتها النووية مقابل رفع العقوبات عنها، التي
من المتوقع أن تخفف الأزمة الاقتصادية فيها.
هذه الاحتجاجات التي بدأت
منذ أسبوع تركزت في مناطق مهمشة وتعاني من الفقر، ورفع المحتجون خلالها مطالب تدعو
إلى حل المشاكل المعيشية، كما تخللتها في بعض الأحيان هتافات سياسية ضد السلطات والمسؤولين
الإيرانيين، مع دعوة رئيسي للاستقالة، علماً أنه كان قد بدأ عهده في يوليو/ تموز الماضي
رافعاً شعار أولوية الاقتصاد وتحسين الوضع المعيشي. لكن الغلاء وتضخم الأسعار استمرا
في البلاد، وهو ما كان أساساً سبب الاحتقان في الشارع تجاه الحكومتين السابقة والحالية،
ليُترجم بتصاعد التجمّعات النقابية الاحتجاجية في البلاد، بدءاً بتجمّعات العمال والمعلمين،
ومروراً بموظفي قطاعي القضاء والشرطة، وصولاً أحياناً إلى احتجاجات غير نقابية.
الاحتجاجات الجديدة اندلعت
بسبب الغلاء المستشري ورفع الحكومة الدعم عن سلع أساسية (الطحين والدجاج والبيض والألبان
والزيوت الغذائية)، في إطار سياسة ترشيد أو تحرير الأسعار، التي يعتبرها خبراء عملية
جراحية اقتصادية ضرورية تأخر إجراؤها. لكن البعض يحذر من تبعاتها الاقتصادية والاجتماعية
والسياسية، لكونها تنفذ في ظروف اقتصادية غير عادية بفعل العقوبات الأميركية، وستزيد
من أعباء المواطن غير القادر على تحمل المزيد من الغلاء الفاحش الذي أضعف الطبقة المتوسطة
في إيران وزاد رقعة الطبقة الفقيرة.
لكن الاحتجاجات هذه المرة
شملت نطاقاً محدوداً في إيران على عكس الاحتجاجات الواسعة التي شهدتها البلاد في نوفمبر/
تشرين الثاني 2019 جراء رفع أسعار البنزين ثلاثة أضعاف حينها. وتركزت الاحتجاجات الأخيرة
في جنوب غرب البلاد الأكثر تهميشاً وفقراً، في مدن معدودة بمحافظات خوزستان وجهار محال
بختياري ولرستان، فضلاً عن مناطق محدودة في طهران وخراسان الرضوية. وتراجع نطاق الحراك
خلال الأيام الأخيرة، ويكاد يكون قد انتهى، مع عدم تسجيل أي تجمّع يذكر خلال ليلة الإثنين-الثلاثاء.
وأكدت وكالة "إرنا"
الرسمية، الجمعة الماضي، وقوع احتجاجات في مدن إيرانية، ومهاجمة متجر ومسجد، واتهمت
من وصفتهم بأنهم "مثيرو الفتنة" بالسعي لحرف الاحتجاجات عن مسارها المطلبي
المدني. لكن باستثناء هذا التقرير لم ترد أنباء أخرى عبر وكالات الأنباء الإيرانية
عن الاحتجاجات. وباتت شبكات التواصل مصدراً لتداول الأنباء حولها، ونشر فيديوهات وصور،
لم يتسنَ لـ"العربي الجديد" التحقق من صحتها. وتُظهر هذه الفيديوهات انتشار
قوات الأمن الداخلي والشرطة في مدن إيرانية، ومحاولتها تفريق المحتجين في بعض المدن
وسط إطلاق قنابل غازات مسيلة للدموع، فضلاً عن سماع دوي إطلاق نار. إلا أن النائب عن
مدينة دشت آزادجان وهويزة بمحافظة خوزستان قاسم ساعدي، قال لموقع "ديده مان"
إن معظم الفيديوهات المنتشرة تعود إلى احتجاجات نوفمبر 2019. وعزا السبب الرئيس للاحتجاجات
في خوزستان إلى نقص المياه وليس الغلاء.
ولم تعلن السلطات الإيرانية
بعد عما إذا كانت الاحتجاجات قد خلّفت قتلى، لكن نائبين إيرانيين تحدثا عن مقتل مواطنين
اثنين في هذه الاحتجاجات. أحدهما قُتل أثناء مهاجمة مقر "الباسيج" في شهركرد،
وقيل على شبكات التواصل الاجتماعي إنه من المحتجين، لكن النائب عن المدينة في البرلمان
أحمد راستينة قال، الأحد، إنه من قوات "الباسيج"، متهماً "مثيري الشغب"
بالسعي لركوب موجة الاحتجاجات وحرف الاحتجاجات إلى أعمال عنف عبر "اصطناع قتلى"،
على حد تعبيره. والقتيل الثاني هو من مدينة أنديمشك بمحافظة خوزستان، وفق تصريح للنائب
أحمد أوايي عن مدينة دزفول بالمحافظة نفسها، لوكالة "إيلنا" العمالية، قبل
أن يتراجع عنه وتنشر الوكالة تسجيله الصوتي.
بالتوازي، نشر التلفزيون الرسمي
الإيراني، أمس الثلاثاء، تفاصيل عن اعتقال مواطنين فرنسيين اثنين، قال إنهما شاركا
في احتجاج ضد الحكومة. وذكر أنهما سيسيل كولر (37 عاماً)، وتشاك باريس (69 عاماً)،
وقال إنهما لم يكونا في زيارة سياحية لإيران. وبث التلفزيون الإيراني لقطات لاجتماعهما
بمعلمين إيرانيين ونشطاء آخرين، إضافة إلى مشاركتهما في احتجاج، قبل اعتقالهما في
7 مايو/ أيار الحالي في طريقهما لمغادرة البلاد. وذكر أنهما كانا "ينظمان احتجاجاً"
لإثارة "اضطرابات" في إيران. وكانت فرنسا قد قالت إنهما مسؤولة في نقابة
المعلمين وشريكها يقضيان عطلة في إيران.
وعزا الخبير الإيراني محمد
حسين أنصاري فرد، في حديث مع "العربي الجديد"، الاحتجاجات الحالية إلى
"الصدمة" التي أحدثتها خطة الحكومة لرفع أسعار سلع أساسية يستهلكها المواطنون
يومياً، قائلاً إن الحكومة تعاملت بضعف واستعجال بالإعلان المسبق عن خطتها من دون إقناع
الشارع بها. لكنه توقع أن تنجح الحكومة خلال الشهور المقبلة في تنظيم الأسواق، مؤكداً
أن هذه الاعتراضات ستنتهي ويعود الهدوء.
ورأى أنصاري فرد أن خطة ترشيد
الأسعار لها علاقة بمفاوضات فيينا النووية المتعثرة، مشيراً إلى أن إيران قامت بهذه
العملية الجراحية الاقتصادية للخروج من المشاكل الاقتصادية بغية حضور المفاوضات
"من موضع قوة" وتدعيم اقتصادها في مواجهة العقوبات الأميركية، وأضاف أن خطوة
ترشيد الأسعار ربما تكون أيضاً مدفوعة بالمخاوف التي أثارتها الحرب في أوكرانيا على
الأمن الغذائي في العالم، ودفعت الدول إلى اتخاذ خطوات احترازية واستباقية لمواجهة
أزمات قد تحصل في الشهور المقبلة.
وعما إذا كانت الاحتجاجات
الأخيرة تشكل ضغطاً على الحكومة الإيرانية للعودة السريعة إلى مفاوضات فيينا للتوصل
إلى اتفاق لرفع العقوبات، استبعد أنصاري فرد ذلك، قائلاً إنها "لا تشكل ضغطاً
على الحكومة لكونها محدودة في عدة مدن صغيرة ولا تشمل المدن الكبرى والمشاركة في التجمعات
ولا تتجاوز مئات الأشخاص"، وأضاف أن الحكومة احتوت الصدمة التي أحدثتها خطة تحرير
الأسعار من خلال رفع الدعم النقدي المباشر للمواطنين، مع توقعه أن يعزز نجاح الخطة
موقف إيران في المفاوضات.
وكان المتحدث باسم وزارة الخارجية
الأميركية نيد برايس قد قال، الأحد، في تغريدة على "تويتر"، إن "المحتجين
الإيرانيين الشجعان يدافعون عن حقوقهم. للشعب الإيراني الحق في محاسبة حكومته. نحن
ندعم حقوقهم في التجمع السلمي وحرية التعبير عبر الإنترنت وخارجه، من دون خوف من العنف
والانتقام".
ورد المتحدث باسم وزارة الخارجية
الإيرانية سعيد خطيب زادة، قائلاً إن الموقف الأميركي يؤكد قلق واشنطن من خطوة الحكومة
الإيرانية لتحصين الاقتصاد بغية إفشال أثر العقوبات الأميركية وفصل الاقتصاد الإيراني
عن الدولار، داعياً الإدارة الأميركية إلى الكف عن تدخّلها في الشؤون الداخلية واحترام
سيادة الدول.
ومرت الاحتجاجات في إيران
بعد الثورة الإسلامية التي انطلقت عام 1979 بمراحل عدة. وقال الصحافي الإيراني ياشار
سلطاني، لـ"العربي الجديد"، إن أولى الاحتجاجات الرسمية والكبيرة بعد الثورة
تعود إلى عام 1999 في عهد حكومة الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي، حين نظّم طلاب جامعة طهران
احتجاجات في الحي السكني للجامعة. وأضاف سلطاني أن هذه الاحتجاجات كانت نخبوية والمطالب
كانت مختلفة تدور حول حرية التعبير والديمقراطية. ووقعت مواجهات بينهم وبين قوات الشرطة
و"الباسيج".
إلا أن البلاد شهدت بعد عشرة
أعوام احتجاجات واسعة في عام 2009 كانت سياسية على نتائج الانتخابات الرئاسية والإعلان
عن فوز الرئيس الإيراني الأسبق محمود أحمدي نجاد، حسب سلطاني، الذي أشار إلى أن المشاركة
فيها لم تقتصر على النخب وإنما شارك فيها أيضاً مواطنون من مختلف الطبقات. وأوضح سلطاني
أن الاحتجاجات التي شهدتها إيران عام 2017 وثم عام 2019 وتلك التي جرت خلال الأيام
الماضية مختلفة عن سابقاتها في طبيعتها ومطالبها، فمحركها الأساسي هو الاقتصاد والمعيشة،
مشيراً إلى أنها انتقلت من المطالبة بحرية التعبير إلى المطالبة بتحسين الظروف المعيشية.
تحصل هذه الاحتجاجات في إيران
فيما تتصدر البلاد قائمة الدول الداعمة للسلع الأساسية في العالم، وتبلغ قيمة دعمها
السنوي لهذه السلع 100 مليار دولار، منها 30 مليار دولار لدعم الطاقة، وفق سلطاني.
ولفت إلى أن السبب وراء اندلاع هذه الاحتجاجات في ظل هذا الدعم الهائل للسلع يعود إلى
"التوزيع غير العادل" لهذا الدعم الحكومي، حيث يصل من هذا الدعم فقط 6.3
في المائة لـ25 مليوناً يشكلون الطبقات الفقيرة ومحدودي الدخل في البلاد، فيما يصل
نحو 49 في المائة منه إلى الطبقات الغنية (نحو عشرة ملايين) والبقية (45.1 في المائة)
إلى الطبقات المتوسطة.
وتقول الحكومة إنها تهدف من
خلال إلغاء دعم بعض السلع إلى "توزيعه العادل" بين مختلف الشرائح عبر دعم
نقدي شهري. وحاول رئيسي طمأنة الشارع خلال الأسبوع الماضي معلناً في كلمة متلفزة عن
رفع الدعم النقدي للمواطن لشهرين مقبلين من 3.5 إلى 4.5 أضعاف (يرتفع ما يتلقاه المواطن
من 11 إلى 14 دولاراً)، وأشار إلى أن هذا الدعم سيتحول لاحقاً إلى بطاقات تموين إلكترونية،
ليصبح بإمكان المواطنين شراء سلع أساسية مثل الخبز بأسعار مدعومة من خلال هذه البطاقات
وبسقف محدد.
ولفت سلطاني إلى "غياب
الثقة" بالسلطات التي لم تحظَ بدعم المواطنين لخططها، مؤكداً أن "التضخم
يثقل كاهل المواطنين نتيجة السياسات الاقتصادية الخاطئة في هذه السنوات والتي بدأت
بالأساس قبل الثورة، فضلاً عن دور مؤثر للعقوبات" الأميركية.
ومع تراجع الوضع المعيشي،
باتت الفترة الزمنية بين الاحتجاجات في إيران أقصر، وفق سلطاني، الذي لفت إلى أن هناك
"تخبّطاً في اتخاذ القرارات بالحكومة وغياب ثقة، وهو ما جعل من الصعب اتخاذ قرارات
كبيرة"، ورأى أن الاحتجاجات الجديدة "لن تكون كسابقتها عام 2019 ولن تكون
واسعة نطاق مثلها"، وأعرب عن أمله في إبداء الاهتمام الكافي من السلطات والحكومة
بمعيشة المواطنين وحصول تحسن جاد فيها. وعن طبيعة مواجهة حكومة رئيسي للاحتجاجات الأخيرة،
قال سلطاني إن الحكومات في إيران سواء الحالية أو سابقاتها "ليست صاحبة القرار
بهذا الخصوص، وإنما السلطات الأمنية العليا هي التي تقرر".