العدد 1608 /3-4-2024
علي باكير
مع مرور الشهر السادس من
الحرب الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، تبدي شريحة واسعة من الشباب الأمريكي صدمتها
وذهولها إزاء سياسة بلادهم وموقف إدارتهم من جرائم الإبادة التي ترتكبها إسرائيل
بحق الفلسطينيين، والتي تتّم بأشكال مختلفة من القصف المتعمّد للمدنيين، إلى
الإعدامات الميدانية، مرورا بدهس وتهشيم عظام المعتقلين والأسرى، وقطع الماء
والغذاء عن الملايين من البشر، وتدمير مستشفياتهم ومدارسهم وجامعاتهم وجوامعهم
وكنائسهم ومراكز إيوائهم، ومنع المساعدات عنهم، وقتل واغتيال من يريد مساعدتهم،
وغير ذلك من الجرائم والمجازر والبشاعات، المنفلتة من أي مرجعيّة أو قانون أو عرف
إلهي أو دنيوي.
لقد تجاوزت حصيلة هذه
المجازر الـ 30 ألف فلسطيني حتى آذار/مارس الماضي، 70% منهم من النساء والأطفال.
وقد شاهدنا لمحة عن انطباعات الشباب الأمريكي على هذه الجرائم الإسرائيلية، وكذلك
تعليقاتهم السلبية الموجّهة ضد السياسية الامريكية، من خلال تطبيق تيك توك. وتحتل
الولايات المتّحدة المرتبة الأولى عالميا لناحية عدد المشتركين الفاعلين فيه،
الذين يبلغ عددهم قرابة الـ150 مليون مشترك فاعل. وبحسب الإحصاءات فإنّ حوالي
ثُلثي الشباب الأمريكي بين سن الـ 18 و29 يستخدمون هذه المنصّة الرقمية للحصول على
المعلومات والأخبار، بعيدا عن الرقابة والقيود التي تفرضها عليهم المنصات الأخرى.
أثار هذا الواقع غضب
وسخط الكثير من المشرّعين الأمريكيين، الذين هاجموا المنصّة والشباب الذي يستخدم
المنصّة، ملقين باللائمة على الصين، ومتّهمين إيّاها بمحاولة السيطرة على الشباب
الأمريكي وإجراء عملية غسل دماغ لهم. إسرائيل واللوبي الإسرائيلي في واشنطن،
اتهموا المنصّة بمعاداة السامة أيضا. وفي آذار/مارس الماضي، قام المشرّعون
الأمريكيون بتمرير قانون بأغلبية ساحقة، يمهّد لمنع تطبيق تيك تكوك. لكن ما علاقة
المشرّعين الأمريكيين بمنصّة للتعبير عن الرأي؟ وكيف لهذا الأمر علاقة بسياسة
أمريكا الداعمة لإسرائيل؟
الانتخابات الأمريكية،
هي المدخل الشرعي الرئيسي للسيطرة الصهيونية على السياسة الأمريكية، وتسخير قدرات
البلاد لصالح إسرائيل.تاريخيا، هناك الكثير من الجدل حول علاقة الولايات المتّحدة
بإسرائيل، ومن يؤثّر على الآخر، ومن يسيطر على الآخر، ومن يقوم بتوظيف الآخر
لمصلحته. وقد أعاد الموقف الأمريكي الداعم لجرائم الإبادة التي ترتكبها إسرائيل في
غزّة من أواخر شهر أكتوبر الماضي تسليط الضوء على هذه العلاقة وعلى طبيعتها. أحد
الأبواب المناسبة لدراسة طبيعة هذه العلاقات هو الانتخابات الأمريكية. الانتخابات
في الولايات المتّحدة ليس مُجرّد إدلاء برأي أو صوت أو تعبير عن الديمقراطيّة،
وإنما هي عبارة عن صناعة ضخمة من الأعمال والتجارة.
في العام 2020، على سبيل
المثال، بلغت تكلفة الانتخابات الأمريكية (الرئاسية والتشريعية) أكثر من 14.4
مليار دولار، أي حوالي ثلث الناتج المحلي الإجمالي لدولة مثل الأردن. وحتى تحظى
بفرصة أكبر من التعريف بنفسك والترويج لبرنامجك، عليك أن تنفق المزيد كمرشّح
سياسي. لكن المشكلة تكمن في أنّ المرشحين لا يمتلكون مثل هذه الأرقام الفلكيّة،
لذلك يأتي دور ما يوصف بالمموّلين أو الداعمين. هؤلاء المُموّلون و/أو الداعمون،
يقومون عمليا بتمويل حملات المرشّحين السياسيين. وبطبيعة الحال، هم لا يقومون
بتقديم أموالهم بالمجان، وإنما مقابل شروط ومطالب وانتفاعات وتشريعات تخدم مصالحهم.
الجزء الأكبر من هؤلاء
المموّلين أو الداعمين، هم الأثرياء وأصحاب النفوذ والمؤسسات الضخمة والكارتيلات
الصناعية الكبيرة واللوبيات. وغالبا ما يرتبط كل هؤلاء بعضهم مع بعض، وإن توزّعوا
شكليا بناء على معايير مختلفة. بمعنى آخر، هذه الجماعات هي التي تحدّد إلى حد كبير
من يترشح ومن ينجح ومن يصل إلى السلطة. وعليه، تنشأ علاقة عضوية بين غالبية
المرشّحين السياسيين وهذه الجماعات. فحتى يضمن المرشّح ترشحّه والحصول على أكبر
قدر من الدعم المالي، يسعى إلى تجنّب إغضاب أو معارضة هذه الجماعات، ويعمل على
التقرّب منها وتنفيذ أجندتها.
وبهذا المعنى، تشتري هذه
اللوبيات المرشّحين قبل وخلال وبعد العملية الانتخابية، سواء من خلال التبرّعات
المرئية المباشرة، أو تلك غير المرئية وغير المباشرة. أمّا الناخب الأمريكي، أي
المواطن العادي، فيختار من بين لائحة محدودة من المرشّحين السياسيين، غالبيتهم يتم
تحديد ترشيحهم و/أو مصيرهم من الجماعات المموّلة والداعمة بشكل مباشر أو غير
مباشر. وليتم ضبط العملية بشكل أكبر، ووضع إطار محدّد لها، وضمان عدم خروجها عن
السيطرة، فإنّ الولايات المتّحدة تطبّق نظام الحزبين.
ولذلك، فعندما يصل
المرشّح إلى منصب الرئاسة أو الكونغرس، يكون في الغالب واجهة للجماعة الحقيقية التي
أوصلته، أي المموّل والداعم، وهناك استثناءات طبعا بطبيعة الحال. ما علاقة هذا
بإسرائيل؟ معظم الأثرياء واللوبيات في الولايات المتّحدة يتمتعون بخلفية صهيونية
(يهودية صهيونية أو مسيحية صهيونية) داعمة لإسرائيل، ولذلك ترى معظم قرارات
الكونغرس مع إسرائيل وتدافع عن إسرائيل وتُحصّن إسرائيل، وإن خالفت مصالح الولايات
المتّحدة كدولة أو كشعب، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الإدارة الأمريكية.
عندما تنظر إلى العلاقة
الأمريكية الإسرائيلية، ستلاحظ أنّ الولايات المتّحدة مختطفة في حقيقة الأمر من
ساسة تمّ شراؤهم من اللوبي الصهيوني، وأن الشعب الأمريكي لا يدير دفّة الحكم، وأنّ
كثيرا من الساسة الذين قام بانتخابهم، إنما يدينون بالولاء لإسرائيل.
على سبيل المثال، معظم
المتابعين لمسيرة الرئيس الأمريكي بايدن، شاهدوا الفيديو الشهير الذي يقول فيه؛
إنّه صهيوني مخلص في الدفاع عن إسرائيل، وأنّه لا حاجة للمرء أن يكون يهوديا لكي
يكون صهيونيا. عندما جاء بايدن إلى الحكم، رصدت بعض التقارير حقيقة أنّ اليهود
الذين يشكّلون حوالي 1% من الشعب الأمريكي، كانوا يمثّلون أكثر من 50% من أعضاء
حكومة بايدن. تحقيقات "أسرار مفتوحة" تشير إلى أنّ بايدن هو السياسي الأمريكي
الأكثر تلقّيا للمال الانتخابي من اللوبي الإسرائيلي في أمريكا، منذ أن كان
سيناتورا، وذلك بما يزيد عن 5.7 مليون دولار.
في دراسة نُشرت في كانون
الثاني/يناير الماضي في صحيفة الغارديان، تبيّن أن حوالي 82% من أعضاء الكونغرس
الأمريكي يؤيدون إسرائيل بشكل مطلق مقابل 9% يؤيدون الفلسطينيين، وأنّ المجموعة
الأولى كانت قد حصلت على دعم من اللوبي الإسرائيل بمعدل يبلغ حوالي 7 أضعاف من
المجموعة الثانية، وأنّ الأكثر تأييدا لإسرائيل من بين الـ82% كانوا قد تلقوا أعلى
دعم مالي من اللوبي الإسرائيلي في أمريكا مقارنة بأقرانهم. شراء السياسيين
الأمريكيين، ينعكس في نهاية المطاف قرارات وتشريعات ودعما وحماية، سياسيا وماليا
واقتصاديا وعسكريا واستخباراتيا.
في تشرين الثاني/ نوفمبر
الماضي، سجّلت العديد من التقارير الاستقصائية ما أسمته أكبر دعم مالي من اللوبي
الإسرائيلي لأعضاء الكونجرس المؤيدين لإسرائيل في شهر واحد على الإطلاق. وقد حصل
شيء مشابه في مجلس النواب، حيث دعم رئيس مجلس النواب الأمريكي مايك جونسن حزمة
مساعدات مالية لإسرائيل بقيمة 18 مليار دولار، وسرّع من العملية لتتم بشكل أسرع من
المعتاد، مشيرا إلى أنّ ذلك ضروري لكي تحافظ إسرائيل على وجودها. وقد قام اللوبي
الإسرائيل بمكافأة جونسن في ذلك الشهر بزيادة 100 ألف دولار لحسابه. هذه المبالغ
البسيطة نسبيا، هي قمّة الجليد وما يمكن الإقرار به رسميا، لكن الدعم الحقيقي أكبر
من ذلك بكثير، ومنه ما يتم ضد المرشّح الآخر لإسقاطه، ومنه ما يتم من خلال
الابتزاز كفضيحة جيفري إبستين، التي تمّ كشفها وعلاقته بالموساد، وكيف كان يورّط
الساسة في حلقة دعارة مع قاصرين ليتم ابتزازهم لاحقا، وغيرها من الطرق والأساليب
والأدوات.
هناك عوامل أخرى بطبيعة
الحال كالعوامل الأيديولوجية وغيرها، لكنّ الانتخابات الأمريكية هي المدخل الشرعي
الرئيسي للسيطرة الصهيونية على السياسة الأمريكية، وتسخير قدرات البلاد لصالح
إسرائيل. ولذلك، عندما تنظر إلى العلاقة الأمريكية الإسرائيلية، ستلاحظ أنّ
الولايات المتّحدة مختطفة في حقيقة الأمر من ساسة تمّ شراؤهم من اللوبي الصهيوني،
وأن الشعب الأمريكي لا يدير دفّة الحكم، وأنّ كثيرا من الساسة الذين قام
بانتخابهم، إنما يدينون بالولاء لإسرائيل، ولهذا السبب بالتحديد، يدعمونها
ويمولونها ويحمونها، حتى لو تعارض ذلك مع مصالح الدولة الأمريكية ومصالح الشعب
الأمريكي.