ياسر الزعاترة
في ظل هوس البعض بتضخيم القوة الإيرانية، والحديث عن «غزو فارسي»، و«إمبراطورية مجوسية» أو «رافضية»، إلى غير ذلك من المصطلحات التي تشيع في مواقع التواصل، بل وفي بعض المقالات أيضاً؛ يجدر بنا التوقف أمام وجهة نظر أخرى.
قد تبدو وجهة النظر هذه متطرفة في الاتجاه الآخر، أعني من حيث تقليلها من حجم القوة الإيرانية؛ ربما لأن صاحبها يعارض سياسات ترامب على هذا الصعيد، وربما لأنه يعارض اللوبي الصهيوني الذي يضخّمها تبعاً لحسابات دولته الأم أيضا، وهو -إلى جانب جون ميرشايمر- صاحب دراسة هارفارد الشهيرة: «اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأميركية».
من نتحدث عنه هنا هو أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد ستيفن والت، ودراسته الجديدة نشرها مؤخراً في مجلة «فورين بوليسي بعنوان: «هستيريا الجمهورية الإسلامية».
يقول والت إن «ترامب وفريق مساعديه تبنوا الفكرة التي ترى في إيران قوة هيمنة تريد السيطرة على الشرق الأوسط، خاصة دول الخليج الغنية»، وهي فكرة خاطئة -في رأيه- لأن إيران ليست في طريقها لأن تصبح قوة كبرى. ولتأكيد رأيه هذا؛ يقدم والت مقارنة بين قدرات إيران العسكرية وقدرات جيرانها، والفوارق الديمغرافية والطائفية التي تقف أمام محاولاتها السيطرة بشكل كامل على المنطقة.
يذكر الكاتب أن عدد سكان إيران هو 85 مليون نسمة، ودخلها القومي السنوي 400 مليار دولار، ونفقاتها العسكرية 16 مليار دولار، وقدراتها العسكرية -بما في ذلك الحرس الثوري- لا تزيد على 520 ألف جندي، بعضهم مجندون لم يحصلوا إلا على تدريب فقير، لافتاً إلى أن دباباتها ومعظم ترسانتها العسكرية تعود إلى عهد الشاه محمد رضا بهلوي، وهي في حالة بائسة.
ويشير والت -في المقابل- إلى أن عدد سكان السعودية ومصر (يضم إليهما الكيان الصهيوني) والأردن والإمارات يزيد على 100 مليون نسمة، وبدخل سنوي يصل إلى تريليون دولار، أما النفقات العسكرية مجتمعة فهي خمسة أضعاف النفقات العسكرية الإيرانية، ولدى هذه الدول المال لتشتري دبابات «أبرامز» ومقاتلات «أف-15».
ولا ينسى الكاتبُ الجانبَ الذي سيخطر على بال كل قارئ، حيث يقول: «قد يناقش المعادون لإيران أن المشكلة ليست في هذه الحقائق، لكن في اعتماد طهران على الجماعات الوكيلة».
وهنا يعترف الكاتب بأن إيران دعمت في السنوات السابقة قوىً محلية، بما فيها حزب الله اللبناني ونظام الرئيس السوري بشار الأسد، والميليشيات العراقية، والحوثيون في اليمن، وهو ما منحها تأثيراً في المنطقة.
لكن والت يصرّ -رغم ذلك- على عدم قدرة النظام الإيراني على الهيمنة. ويقدم لدعم ذلك عدداً من المؤشرات، منها «أن الجماعات المحلية لا تنصاع كلياً لأوامر إيران، وقد تنحرف عن السياسة الإيرانية عندما تتعارض مع أجندتها. ومن هنا فإن حديث البعض -مثل هنري كيسنجر- عن إمبراطورية فارسية جديدة؛ لا معنى له».
ويقول أيضاً إنه «على خلاف ذلك، فإن حلفاء إيران في المنطقة عانوا من نكسات جعلت طهران تنفق الكثير على السلاح، وأفرغت خزينتها المالية لدعم الجهود الخارجية، إضافة إلى أن انتصار الأسد يظل فارغاً لأنه يحكم بلداً مدمّراً، بينما دفعت النشاطات الإيرانية إلى ظهور تعاون تكتيكي بين إسرائيل ودول الخليج ضد طهران».
ومن المؤشرات المهمة التي يراها الكاتب أن «العامل الطائفي مهم في التقليل من قدرة إيران على قيادة المنطقة، فهي دولة شيعية تريد حكم منطقة غالبية سكانها من السنّة. ويضاف إلى ذلك أن إيران دولة فارسية، ولن تجد دعماً من العرب أو أي دولة عربية للسيطرة على المنطقة».
ويضيف أيضاً أن إيران «عانت -على مدى العقدين الماضيين- من عقوبات اقتصادية وحروب إلكترونية، وتمويل خارجي للجماعات المعادية لها، وتهديدات من اليمين المحافظ، الذي أكد عام 2003 -بعد إسقاط صدام حسين- أن ملالي طهران هم الهدف التالي. وبناء على هذه الظروف؛ عملت إيران ما بوسعها لإحباط هذا الهدف، وهل كنا نتوقع سكوتها وأقوى دولة عالمياً تحضر لإطاحة نظامها؟!».
للكاتب بالطبع نهج آخر يتعلق بمصلحة بلاده وليس مصلحتنا؛ فهو يدعو بلاده إلى «إيجاد علاقات أكثر توازناً مع دول المنطقة جميعها بما في ذلك إيران»، لأن ذلك سيؤدي برأيه «إلى التعاون حول قضايا تهمّ الأميركيين والإيرانيين مثل أفغانستان».
كما يقول والت إن منظور علاقات جيدة مع أميركا سيقدم لطهران حوافز كي تغير مواقفها، لأن المحاولات الأميركية السابقة لعزل نظام الملالي دفعهم -بنوع من النجاح- لأداء دور المخرّب.
هذا فضلاً عن أن «نهجاً كهذا سيدفع حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة إلى التفكير ملياً، وعدم الاعتماد على الدعم الأميركي كأنه أمر واقع، بل سيشجعهم على بذل الجهود لإرضائها».
والواقع أن أي نظام في الولايات المتحدة ليس بحاجة إلى مواعظ كي يواصل اللعب على التناقض بين إيران وجوارها العربي؛ ليس فقط لأن في ذلك مصلحة للكيان الصهيوني «المدلَّل»، بل أيضاً لأن ذلك هو ما يدرُّ على واشنطن الأرباح.
وأميركا كقوة إمبريالية؛ ستواصل سياسة «فرّق تسد»، ولا ردّ على ذلك إلا بتسوية إقليمية عربية إيرانية تركية تهمّش التدخلات الخارجية، وتركّز على القواسم المشتركة لمصلحة شعوب المنطقة.
هذا هو الأمل الذي لن يتحقق -كما نقول دائماً- قبل أن يتخلى علي خامنئي عن أحلام التمدد واستعادة ثارات التاريخ، ويستمع لمطالب شعبه الذي خرج إلى الشوارع تنديداً بتبديد ثرواته في مطاردة أحلام عبثية.}