العدد 1578 /6-9-2023
عادل بن عبد الله
منذ أن أعلن
الرئيس التونسي قيس سعيد عن إجراءاته يوم 25 تموز/ يوليو 2021، كان واضحا أن
تفعيله للفصل 80 من الدستور بعيد عن منطوق الفصل وروحه. فحالة الاستثناء التي تهدف
إلى عودة السير الطبيعي لدواليب الدولة لا تستوجب تجميد عمل البرلمان (ثم حلّه)،
ولا إقالة رئيس الوزراء أو السيطرة على الجهاز القضائي ومختلف الهيئات الدستورية وغير
الدستورية.
لقد كان الوضع
الاستثنائي يفترض إدارة مشتركة للدولة واستمرارا لعمل الحكومة والبرلمان، كما كان
يستوجب سقفا زمنيا لا يتعداه. ولكنّ الرئيس -بحكم غياب المحكمة الدستورية من جهة،
وغياب أية مقاومة فعّالة من لدن النخب وعموم الشعب- نجح في فرض قراءته الدستورية
ومعها "خارطة طريق" حولت المرحلة المؤقتة إلى مرحلة تأسيسية لجمهورية
"جديدة"، بعد أن استغل الانقسامات العميقة بين مختلف الفاعلين الجماعيين
ومختلف أجسامهم الوسيطة داخليا، ودعم أهم القوى الإقليمية والدولية التي حرّضت على
الإطاحة بمسار الانتقال الديمقراطي وإعادة هندسة المشهد التونسي بصورة تُشبه ما
قبل الثورة، لكن بشرعية مختلفة.
لقد أكّدت
إجراءات 25 تموز/ يوليو أنّ "الاستثناء التونسي" الذي استمر بعد تهاوي
أغلب الثورات العربية إلى درك الحروب الأهلية والانقلابات؛ لم يكن هو الآخر إلا
مجرد بناء هش وقابل للهدم، كما أكّدت تلك الإجراءات كذب السرديات المتغنّية بنجاح
الانتقال الديمقراطي السياسي، خاصة سردية "التوافق". ومنذ اليوم الذي
أعقب الإجراءات، كان كاتب هذا المقال من أوائل من استشرف ما أسماه
بـ"الاستحالة المزدوجة": أولا، استحالة تَونسة السيناريو الانقلابي المصري
أو استنساخه رغم العلاقات النوعية للنظام التونسي بنظيره المصري، ورغم ما رُوّج من
وجود أياد مصرية وراء ما وقع، ثانيا، استحالة تَونسة السيناريو التركي المقاوم
للانقلاب العسكري. لقد كان الواقع التونسي بعد 25 تموز/ يوليو يتحرك باستقلالية
نسبية عن النموذج الانقلابي المصري، ولكنه كان يتحرك بصورة معاكسة كليا للنموذج
المقاوم التركي. وهو أمر لم تفهمه المعارضة الجذرية التي عوّلت على التحرك الشعبي
أو على تحول مطلب "عودة الشرعية" إلى مطلب شعبي.
منذ الأيام
الأولى لـ"تصحيح المسار"، لم تُدرك المعارضة الجذرية أنّ الرئيس سعيد
ليس سيسيّ مصر، وأن ما أوصله إلى قرطاج لم تكن دبابة بل شبه إجماع شعبي. كما لم
تستطع المعارضة أن تعترف بأن الشعب التونسي لم يجد في "الديمقراطية
التمثيلية" وفي هيمنة الأحزاب مكاسب اقتصادية واجتماعية ما يدعوه إلى الخروج
للدفاع عنها. لقد كان غياب الإنجاز سببا كافيا لتحييد الإرادة العامة وإبعادها عن
الساحات في الحد الأدنى، وجعلها ظهيرا للنظام الجديد وعدوّا لما سُمّي
بـ"العشرية السوداء" في الحد الأقصى. ولم يكن الخروج إلى الساحات
للتذكير بالمكاسب الحقوقية وبتعددية مراكز القرار قبل 25 تموز/ يوليو ومقابلة ذلك
كله بتضييقات النظام الجديد على الحريات العامة وعلى مبدأ الشراكة؛ كافيين لتغيير
هذا الوضع.
بعد الثورة
التونسية، أثبتت هيمنة السرديات الانقلابية أن "الديمقراطية" لم تكن
مطلبا حقيقيا لأغلب النخب فضلا عن أن تكون مطلبا لعموم الشعب، كما أثبتت الأحداث
منذ الفترة التأسيسية أن لا مركزية السلطة وتعدد مراكزها قد كان سببا من أسباب
عطالة الدولة من جهة، كما أنه كان واقعا متقدما على وعي أغلب المواطنين والنخب
الذين تربّوا -فكريا ومخياليا- على منطق الزعيم الأوحد والحزب الواحد ومركزية
القرار. وهو وعي يمكننا أن نجده عند أغلب النخب بمن فيها النخب المعارضة التي عاشت
في ظل زعامات "تاريخية" لا تتغير، وتحركت دائما بمنطق أحادية الحقيقة
سواء أكانت من اليمين أم من اليسار.
منذ 25 تموز/
يوليو 2021، ارتكبت المعارضة الجذرية العديد من الأخطاء التقديرية التي جعلتها
تتحول موضوعيا إلى أداة لترسيخ سلطة الأمر الواقع من حيث أرادت أن تُسقط تلك
السلطة. فقد تعاطت جبهة الخلاص مثلا مع السلطة الجديدة بمنطق الرغبة لا بمنطق
الواقع، ذلك أن مطلب العودة إلى ما قبل 25 تموز/ يوليو كان مطلبا عبثيا بحكم
إنكاره لشرطين من شروط تحققه: أولا، إنكار عدم توحد القوى التي حكمت قبل
"تصحيح المسار"، بل التحاق أغلبها بالرئيس أو على الأقل عدم مقاومتها
لإجراءاته، ثانيا، إنكار أنه لا يوجد اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا من المكاسب أو
الإصلاحات ما يغري جزءا معتبرا من الشعب غير المسيس أو المتحزب بالخروج إلى الشارع
والمخاطرة بالسجن أو بما هو أكبر منه.
أما الخطأ
التقديري الآخر فهو الدفع بـ"وجوه الفشل" لإسناد سردية الإنقاذ، فأغلب
رموز المعارضة الجذرية هم إما من رموز التوافق أو من الرموز الانقلابية منذ
المرحلة التأسيسية. وفي غياب أية مراجعات أو نقد ذاتي فإن من الخطل توقع أن يكون
هؤلاء أداة جذب لمن هم خارج النواة الصلبة للمعارضة الجذرية (أي حركة النهضة
وائتلاف الكرامة)، أما أن يتحول هؤلاء إلى طليعة "الكتلة التاريخية" فهو
من أمحل المحال كما يقول القدامى.
هل يمكن أن يكون
من فشل (أو أُفشل وعجز عن مواجهة أسباب فشله أو على الأقل مصارحة الشعب بها) هو
البديل؟ كيف أضمن أن لا تتحول الديمقراطية التمثيلية والأجسام الوسيطة مرة أخرى
إلى أداة تخريب لمسار الانتقال الديمقراطي وأداة تفقير للشعب وتزييف للحقيقة؟ هل
هذه المعارضة قادرة على التحول إلى رافعة لمشروع التحرير الوطني أم إنها ستظل -كما
كانت خلال فترة حكمها- جزءا بنيويا من منظومة الاستعمار الداخلي؟
منطقيا، فإن
سردية الفشل لا يمكن أن يتصدرها إلا وجوه الفشل، ولكنّ غيرَ المنطقي هو توقع
النجاح في هذه الوضعية العبثية والتعويل عليها لتهديد السلطة تهديدا وجوديا. فبصرف
النظر عن الدعم الذي يلقاه النظام الجديد من منظومة الاستعمار/ الاستحمار الداخلي
ومن وكلائها في "الموالاة النقدية" بأذرعها السياسية والنقابية والمدنية
والإعلامية، وبصرف النظر كذلك عن الدعم الخارجي "المشروط" استراتيجيا
بالتطبيع وبتنفيذ إملاءات الجهات المانحة، فإن "التناقضات الداخلية"
التي تحملها المعارضة الجذرية ستجعل من احتمال نجاحها في تغيير المشهد السياسي
احتمالا يكاد يكون صفريا.
ختاما، سواء أكنت
مواطنا تونسيا عاديا أم مواطنا مؤدلجا فإنك لا محالة ستسأل نفسك جملة من الأسئلة
فيما يتعلق بالمعارضة الجذرية، ومهما كانت صياغة تلك الأسئلة فإنها لن تخرج عن المحاور
التالية: هل يمكن أن يكون من فشل (أو أُفشل وعجز عن مواجهة أسباب فشله أو على
الأقل مصارحة الشعب بها) هو البديل؟ كيف أضمن أن لا تتحول الديمقراطية التمثيلية
والأجسام الوسيطة مرة أخرى إلى أداة تخريب لمسار الانتقال الديمقراطي وأداة تفقير
للشعب وتزييف للحقيقة؟ هل هذه المعارضة قادرة على التحول إلى رافعة لمشروع التحرير
الوطني أم إنها ستظل -كما كانت خلال فترة حكمها- جزءا بنيويا من منظومة الاستعمار
الداخلي؟ أي هل إن الصراع الحالي بين السلطة والمعارضة هو صراع ضد النواة الصلبة
للمنظومة القديمة وسرديتها التأسيسية وخياراتها الكبرى، أم هو مجرد صراع داخل تلك
المنظومة؟ إنها أسئلة قد يكون على المعارضة الجذرية أن تفكر فيها إذا ما أرادت
فعلا أن تخرج من موقع "البديل داخل المنظومة" إلى موقع التأسيس الحقيقي
لشروط السيادة والتحرر الوطني.