قطب العربي
بعد نحو ثلاثة أعوام على دخوله قصر الاتحادية (القصر الرئاسي)؛ تبدو العلاقة متوترة بين الرئيس عبد الفتاح السيسي وأبرز داعميه المدنيين من أركان الدولة العميقة، وخاصة القضاة والصحفيين، ورجال الأعمال، والأزهر، ناهيك عن حالة الغضب الشعبي العام المتصاعدة مع قفزات الأسعار، وتبدد وعود السيسي المتتالية، وظهور فشل مشروعاته الكبرى.
يبدو غريباً أن يبدد السيسي رصيده لدى تلك القطاعات الهامة التي مثلت غطاء مدنياً لانقلابه العسكري في 3 تموز 2013، وظلت داعمة له خلال العامين الأولين من حكمه، وهما العامان اللذان وعد السيسي بجعل مصر خلالهما «قدّ الدنيا»، فإذا بها تصبح «مسخرة» الدنيا على يديه.
ولكن الغرابة تنتهي حين نتذكر أننا أمام حاكم عسكري لا يركن أصلاً إلى فكرة الدعم الشعبي، بل يستند إلى ظهير عسكري هو الذي أوصله إلى سدة الحكم، وهو الذي حماه في مواجهة تحركات مناوئيه، خاصة في سنتي حكمه الأوليين. وتقديراً لهذا الدور الذي قام به هذا الظهير العسكري فقد أغدق السيسي عليه المكافآت والعطايا.
أزمة القضاة تتفاقم
أحدث الأزمات بين السيسي وظهيره المدني هي تلك الملتهبة حالياً مع القضاة، إثر صدور قانون جديد للهيئات القضائية يمنح السيسي حق اختيار رؤساء تلك الهيئات، ما يعدّ خرقاً للدستور الذي ضمن لها استقلالها عن السلطة التنفيذية، إذ تنص المادة (184) منه على أن «السلطة القضائية مستقلة، تتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها، وتصدر أحكامها وفقاً للقانون، ويبيّن القانون صلاحياتها، والتدخل في شؤون العدالة أو القضايا جريمة لا تسقط بالتقادم».
لقد أغدق السيسي كثيراً على القضاة في خلال الفترة الماضية، مكافأة لهم على مواجهتهم لحكم الرئيس المدني محمد مرسي الذي انطلقت شرارة الاحتجاجات ضده من مقر نادي القضاة، ومن دار القضاء العالي حيث مكتب النائب العام، كما كان إغداق السيسي تقديراً للأحكام التي أصدرها القضاة ضد رافضي الانقلاب، والتي كانت تصدر سواء بالإعدام أو السجن المؤبد للمئات دون أدنى مطالعة لأوراق القضايا، حتى إن الكثير منها شمل موتى وشهداء وأطفالاً.
ولكن يبدو أن السيسي لم يعد بحاجة كبيرة للقضاة بعد أن قضى منهم وطره، كما أنه أراد التخلص من بعضهم مثل نائب رئيس مجلس الدولة الدكتور يحيى الدكروري الذي أصدر حكم مصرية تيران وصنافير، والذي كان يفترض أن يتولى رئاسة المجلس بشكل طبيعي وفقاً لقاعدة الأقدمية المعتمدة. ولكن قبل أن يتم ذلك أومأ السيسي لرجاله في البرلمان بإصدار تشريع جديد يمنحه حق تعيين رؤساء الهيئات القضائية، ليضمن الهيمنة الكاملة عليهم وليستبعد من شاء، كما سيضمن مبكراً تشكيل لجنة الانتخابات الرئاسية التي ستشرف على انتخابات 2018، وتضم هؤلاء الرؤساء الذين سيعيّنهم السيسي بنفسه قبل أن يعيد ترشحه
القضاة الذين هاجوا وماجوا ضد الرئيس مرسي ونظموا احتجاجات واسعة وإضرابات، بل حاصروا النائب العام الذي عينه مرسي ومنعوه من دخول دورة المياه، لم يستطيعوا تكرار هذه المشاهد الاحتجاجية في أزمتهم الحالية رغم حالة الغضب التي اعترتهم بالفعل، بل إنهم لجؤوا إلى القصر الرئاسي طلباً لوساطته لدى البرلمان، ولكن جاء الرد مخيباً بأن الرئاسة لا تتدخل في هذا الأمر. وكان على من طلب تلك الوساطة أن يعلم أن البرلمان لم يفعل ذلك من تلقاء نفسه، بل تنفيذاً لرغبة القصر. وزيادة في التحدي لم يكتف رجال السيسي في البرلمان بهذا القانون الذي مرروه في ست ساعات، بل إن أحدهم (محمد أبو حامد) تقدم بمشروع قانون جديد أكثر استفزازاً للقضاة، يتعلق بخفض سن التقاعد إلى 60 عاماً بدلاً من 70 وهو المعمول به حالياً.
وللتذكير فقد كان مشروع تعديل مماثل بل أقل من ذلك (قصر المدة على 65 عاماً) في عهد مرسي سبباً لثورة القضاة وعقدهم جمعية عمومية طارئة، ظلت في حالة انعقاد دائم حتى تم التراجع عن مناقشة ذلك التعديل، كما استقال وزير العدل أحمد مكي على خلفية ذلك المشروع الذي اعتبره مساً باستقلال القضاء (نيسان 2013). ويدرك القضاة في قرارة أنفسهم الآن أنهم في ظل حكم عسكري لا يرحم، وبالتالي فهم يتمهلون في تنظيم احتجاجاتهم بالقدر الذي لا يعرض أوضاعهم للخطر، لكن ذلك لا ينفي شيوع حالة الغضب فيهم، وهو ما قد يترجمونه في مظاهر أخرى ليست بالضرورة وقفات أو مؤتمرات.
الصحفيون وفاتورة تيران
بين أزمة السلطة مع القضاة وأزمتها مع الصحفيين رابط تمثل في الموقف من تنازل السيسي عن جزيرتيْ تيران وصنافير، فنقابة الصحفيين هي التي احتضنت الاحتجاجات والمظاهرات الشعبية الرافضة لذلك، والقضاء -ممثلاً في مجلس الدولة- هو من أصدر حكماً بمصريتهما.
وإذا كانت السلطة تقوم الآن بتأديب من أصدر الحكم بحرمانه رئاسة المجلس بتعديل قانوني عاجل، فقد سبق لها أن قامت بتأديب نقابة الصحفيين باقتحامها مطلع أيار 2016، ومن ثم تقديم النقيب ووكيل وسكرتير عام النقابة لمحاكمة قضت بحبسهم سنتين، تم تخفيفها لاحقاً إلى سنة مع وقف التنفيذ، ونجحت مؤخراً في تمكين مرشحها من الفوز بمنصب النقيب.
لكن هذه الإجراءات عمقت الأزمة مع الوسط الصحفي الذي كان في معظمه داعماً للانقلاب العسكري في 3 تموز 2013، واستمر في دعمه والتغاضي عن قمعه لحرية الصحافة ذاتها بعد ذلك لمدة سنتين تقريباً، ولكن تصاعد عمليات القمع وتوسعها إلى فئات لا تُعرف عنها معاداتها للسلطة بل هي محسوبة عليها، نشر الخوف في الوسط الصحفي، وظهرت آثار ذلك في التصويت الكثيف للمرشح يحيى قلاش الذي رفع راية الدفاع عن الحريات والصحفيين السجناء في انتخابات 2015، وفي الجمعية العمومية الطارئة التي عقدت عقب اقتحام النقابة في 4 أيار 2016.
وهي الجمعية التي حمّلت السيسي مباشرة المسؤولية عن الاقتحام وطالبت بإقالة وزير الداخلية، لكن تخاذل نقيب الصحفيين ومجلسه عن تنفيذ تلك القرارات أحبط جموع الصحفيين، ومع ذلك ظلت هناك كتلة كبيرة ساخطة ورافضة للتوحش على حرية الصحافة.
أزمة السيسي ونظامه مع الإعلام لم تقتصر على الصحفيين ونقابتهم التي احتضنت الاحتجاجات الشعبية ضده، ولكنها تعدت ذلك إلى التخلص من بعض الرموز الإعلامية التلفزيونية التي كانت من أكبر الداعمين له، مثل توفيق عكاشة وإبراهيم عيسى وليليان داود وخالد تليمة. ومن قبلهم بطبيعة الحال محمود سعد ويسري فودة وريم ماجد وبلال فضل، وعلى الأرجح ستتواصل عمليات التخلص من الرموز الإعلامية التي دعمت السيسي من قبل، وذلك مع التحرك المنظم لصناعة رموز جديدة تدين بالولاء الكامل للسيسي، ولا تشعر بأنها صاحبة فضل عليه أو شريكة له كما هو شعور الرموز الحالية.
رجال الأعمال ومشاريع الجيش
أما رجال الأعمال سواء الذين يملكون منابر إعلامية أو غيرهم، والذين جندوا كل إمكانياتهم لدعم انقلاب السيسي من قبل؛ فقد اكتووا بناره أيضاً، والبداية كانت مطالبتهم بدفع «إتاوات» تبرعات (100 مليار جنيه) للصناديق التي أنشأها السيسي مثل صندوق «تحيا مصر» مهدداً لهم: «هتدفعوا يعني هتدفعوا»، وقد اضطروا لدفع ما طلب منهم رغم تعثر أحوالهم نتيجة تردي الوضع الاقتصادي وتوقف عجلات الإنتاج، لكن السيسي لم يتوقف عند فرض تلك الإتاوات، بل حرص على تأديب بعضهم بصورة عملية ليكونوا عبرة لغيرهم، فأوعز لشرطته بالقبض على رجل الأعمال صلاح دياب -وهو مالك شركات نفطية وصاحب جريدة «المصري اليوم»- ونشر صورته مقيداً بالأغلال، كما أجبر رجل الأعمال نجيب ساويرس على بيع قناته «أون تي في»، ورتب انقلاباً ضده في «حزب المصريين الأحرار» الذي أنشأه ورعاه، كما قدم رجل الأعمال محمد فريد خميس إلى التحقيق بتهمة احتكار صناعة المنسوجات، وهو ما دفعه إلى الهرب خارج البلاد، وجمّد أموال رجل الأعمال صفوان ثابت. لكن الأصعب من ذلك كله هو تغول الجيش على الاقتصاد المصري وكل المشروعات الجديدة، بحيث لم يترك للشركات المدنية سوى العمل من خلاله وبما يقبل أن يجود به عليها، وهي أكبر ضربة لرجال الأعمال الذين كانوا ينتظرون رد الجميل لهم عقب تولي السيسي المسؤولية، فإذ بهم يتعرضون للتنكيل.
الأزهر وتجديد الخطاب الديني
ورغم مشاركة شيخ الأزهر أحمد الطيب في مشهد الانقلاب يوم 3 تموز 2013 فإن السيسي لم يُخف تبرمه من أداء الطيب خلال العام الماضي، وكانت كلمة السيسي للطيب (يوم 28 كانون الثاني الماضي) التي بدت ممازحة ثقيلة «أنت تعبتني يا فضيلة الإمام» صافرة البداية لهجوم الأذرع الإعلامية على شيخ الأزهر، الذي لا يتماهى مع رغبات السيسي في ما يسميه تجديد الخطاب الديني، ومواجهة التيارات الإسلامية الحركية بالكفاءة اللازمة.
وقد كان موقف الأزهر الرافض للطلاق الشفهي زيتاً جديداً على نار الأزمة التي كان يغذيها وزير الأوقاف محمد مختار جمعة، المقرب من السيسي والطامح لخلافة شيخ الأزهر، ورغم أن كلاً من مؤسسة الرئاسة ومؤسسة الأزهر تحاولان دوماً إخفاء الخلافات، فإن هجوم الأذرع الإعلامية للسيسي على الأزهر يظهر عدم رضاه عن المشيخة، وهو ما يولد شعوراًمضاداً لدى قطاعات متنامية من الأزهريين. هذه الأزمات المتزامنة والمتصاعدة بين نظام السيسي وأبرز داعميه المدنيين تبدو مرشحة للتصاعد، خاصة مع زيادة تعثر السيسي سياسياً واقتصادياً، ومع تصاعد حالة الغضب الشعبي على السياسات الاقتصادية المؤلمة، وأيضاً مع زيادة اعتماد السيسي على الظهير العسكري الذي يعزز تغوله على المجالات المدنية (الاقتصادية والإعلامية والثقافية)، وهو ما يزيد التأزم الذي لا نستطيع التنبؤ بمآلاته.}