العدد 1652 /19-2-2025

حلت يوم الاثنين، الذكرى الرابعة عشرة، لثورة 17 فبراير/شباط 2011، التي أطاح الليبيون بعد ثمانية أشهر من انطلاقها نظام العقيد الراحل معمر القذافي، بهدف بناء دولتهم بقيم جديدة وعلى قاعدة المبادئ التي يجب أن تحكم دولة القانون والعدالة والمؤسسات. لكن أهداف الليبيين من ثورتهم، لم تتحقق حتى اليوم، في ظلّ صراع حاد على السلطة انتهى إلى انقسام سياسي بين حكومتين، حكومة الوحدة الوطنية التي لا تسيطر إلا على طرابلس ومصراتة وعدد من المناطق حولها في غرب البلاد، وحكومة مكلفة من قبل مجلس النواب في بنغازي والخاضعة لسلطة اللواء المتقاعد خليفة حفتر الذي يسيطر على شرقي وجنوبي ليبيا كما تواليه بعض المدن غربي البلاد. وفيما تسيطر حكومة الوحدة الوطنية (برئاسة عبد الحميد الدبيبة) على قرار المؤسسات الاقتصادية الوطنية، كالمصرف المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط، بسبب شرعيتها الدولية، فإن حكومة مجلس النواب الخاضعة لحفتر تسيطر على أزيد من 90% من مواقع النفط وموانئ تصديره، بالإضافة إلى قواعد عسكرية مهمة في جنوب وشرق ووسط ليبيا.

تتعدّد المبادرات والعجز واحد

على الرغم من تعدد المبادرات بما في ذلك الأممية، إلا أن العجز بقي السمة الوحيدة الطاغية على المشهد السياسي في لييبا. ولم تكن حالة التشظي القائمة حالياً وليدة اللحظة، فحلقاتها تشكلت في دوائر متتالية تداخل فيها السياسي بالعسكري، وسط تدخلات خارجية انتهت بوجود مسلّح كثيف في معظم المواقع العسكرية في أنحاء البلاد.

ومنذ الأيام الأولى بعد سقوط نظام القذافي إثر ثورة فبراير، التي دشّن فيها الليبيون أولى حكوماتهم المؤقتة في ظل أول برلمان عام 2012 مؤطرة بإعلان دستوري مؤقت كان من المنتظر أن يمهد إلى كتابة دستور دائم للبلاد ينهي فترات الانتقال بشكل سريع، برزت ملامح الخلافات الداخلية بفشل حكومتي عبد الرحيم الكيب في عام 2012 وحكومة علي زيدان في عام 2013، بجمع السلاح تحت مظلة حكم مدني مع تركه في أيدي "الثوار"، ما فتح الباب أمام مسارات انحراف الثورة عن أهدافها في إقامة الدولة، إذ شكل "الثوار" كتائبهم القوية وتحالفوا مع أكبر الأحزاب السياسية، حزب العدالة والبناء الإسلامي وحزب تحالف القوى الوطنية الليبرالي، أكبر خصمين سياسيين. ومع اتساع حدة الخلاف السياسي بظهير مسلح، ظهر عامل ثالث صعّد الخلافات إلى مستويات أخرى ممثلاً في محاولة اللواء المتقاعد خليفة حفتر الانقلاب على السلطة في العاصمة طرابلس برفقة عدد من الضباط وقادة الكتائب في فبراير 2014. وإثر فشله، لجأ حفتر إلى بنغازي وأطلق "عملية الكرامة" في العام ذاته، وهو العام الذي جرت فيه أيضاً ثاني انتخابات برلمانية في ليبيا انتهت بتسلم مجلس النواب السلطة، والذي فضّل عقد جلساته في طبرق شرقي البلاد، والتحالف مع حفتر الذي وجد فيه من يومها فرصته لشرعنة أعماله العسكرية قائدا عاما لما يسميه الجيش الوطني.

ومع احتدام الصراع، دخلت البعثة الأممية على خط أزمة ليبيا لمحاولة رأب صدع الانقسام السياسي، ورغم تدشينها حواراً سياسياً بين مجلس النواب والمؤتمر الوطني العام الذي انتهى بتوقيع اتفاق الصخيرات (المغرب) نهاية عام 2015 والإعلان عن توحيد السلطة في المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني، إلا أن رفض مجلس النواب قبول اعتماد كامل بنود اتفاق الصخيرات، خصوصاً تلك التي منحت المجلس الأعلى للدولة صلاحية المشاركة في الموافقة على إصدار القوانين التشريعية، عزّز الانقسام الحكومي. فقد تمسك حفتر ومجلس النواب بالحكومة في الشرق ورفض البرلمان منح الثقة لحكومة الوفاق الوطني، على الرغم من قيادة البعثة الأممية خلال عامي 2017 و2018 مشاورات بين مجلسي النواب والدولة لتفكيك نقاط الخلاف في اتفاق الصخيرات.

وأدى تمسك مجلس النواب بموقفه إلى ترحيل موعد انتهاء المرحلة الانتقالية الذي كان محدداً في نهاية العام 2016 وإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية. وفي مطلع 2019، نجحت البعثة الأممية في الترتيب لعقد ملتقى جامع لليبيين، كان يفترض أن ينعقد في إبريل/نيسان من العام ذاته للاتفاق على صياغة وثيقة وطنية تنهي الخلافات السياسية، إلا أن حفتر شنّ حملته العسكرية على طرابلس قبيل انعقاد الملتقى بأيام. هذا الهجوم على طرابلس لم يكن السبب الوحيد برأي الماجري لعدم انعقاد الملتقى، لافتاً إلى أن القادة في مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، الذي تشكل بموجب اتفاق الصخيرات من أعضاء المؤتمر الوطني العام بما هوشريك مجلس النواب في العملية السياسية، كانت مداولاتهم السياسية للتقارب يطبعها نهج العرقلة والإقصاء، وارتبط كل منهما بواقع السلاح: فمجلس النواب كان يشرعن حروب حفتر التوسعية خارج بنغازي في اتجاه مناطق النفط، ومجلس الدولة يتسلح بشرعية حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دولياً (ترأسها فائز السراج) ليصف حفتر ومجلس النواب بالخارجين عن الشرعية.

وأدخلت الحرب التي شهدتها طرابلس بين مليشيات حفتر ومليشيات طرابلس وغرب ليبيا، البلاد في أزمة أخرى متمثلة بالتدخل الخارجي، فخلال تلك الحرب وقفت دول عدة إلى جانب حفتر مثل مصر والإمارات وفرنسا وأيضاً روسيا عبر مرتزقة شركة فاغنر، وأخرى إلى جانب قوات حكومة الوفاق الوطني مثل تركيا. ورغم انسحاب بعضها، لا سيما الداعمة لحفتر بعد انكسار حملته، إلا أن بعضها ترسخ وجوده العسكري في البلاد: روسيا إلى جانب حفتر بدءاً بانتشار مرتزقة فاغنر في قواعد عسكرية تقع ضمن أراضي سيطرته وانتهاء بالفيلق الأفريقي الذي تسعى موسكو حالياً إلى بنائه في ليبيا بدلاً عن "فاغنر" التي تمرد قائدها يفغيني بريغوجين وقتل قرب موسكو (بتحطم طائرة) في أغسطس/آب 2023، وتركيا في غرب البلاد من خلال اتفاق أمني وقته مع حكومة طرابلس.

ورغم نجاح البعثة الأممية في إطلاق حوار مصغر من 75 ممثلاً سياسياً واجتماعياً خلال عام 2020 ضمن ملتقى الحوار السياسي، والذي ظهرت أولى نتائجه في توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في أكتوبر/تشرين الأول من العام ذاته مع انكسار حملة حفتر، ثم توحيد السلطة السياسية المنقسمة في المجلس الرئاسي الحالي وحكومة الوحدة الوطنية التي يرأسها الدبيبة، إلا أن أبو شعالة أكد أن تأثيرات التدخل الخارجي صارت عميقة "ولم يعد بالإمكان تجاوزها، فحتى الانتخابات الرئاسية والبرلمانية بعد الاتفاق على إجرائها انهارت بسبب مواقف دول كانت ترفض ترشح بعض الشخصيات التي وصفت يومها بالجدلية"، في إشارة إلى موقف العواصم الغربية من ترشح سيف الإسلام القذافي للانتخابات الرئاسية التي كان مقرراً إجراؤها في ديسمبر/كانون الأول 2021.

وأنتج انهيار إجراء استحقاق الانتخابات إعلان مجلس النواب تكليف حكومة موازية في بنغازي، في سياق خلافاته المتصاعدة مع الحكومة في طرابلس المعترف بها دولياً. ورغم تأثيرات التقارب بين مصر وتركيا على العلاقة التركية بمعسكر مجلس النواب وحفتر في الشرق، إلا أن الاتصالات بين أنقرة ومعسكر الشرق لم يترتب عليها أي تقارب بين الحكومة في طرابلس، المقربة من تركيا، ومجلس النواب وحكومته وحفتر في الشرق.

وشدّد نص الميثاق على القيم الأساسية للمصالحة، وهي نبذ العنف والكراهية، وأحقية جميع الليبيين في ثرواتهم، وربط المصالحة بالوفاق السياسي، بالإضافة إلى عدد من الأهداف مثل جبر الضرر وإعادة الحقوق، وتحقيق التنمية في كل مناطق البلاد، وإعادة كتابة تاريخ ليبيا السياسي. وأكد نص الميثاق "ضرورة الإسراع في الإعداد للانتخابات العامة على الصعيد السياسي، والقانوني، والأمني، واللوجستي، مع وقف أي إجراءات تشكل إقصاءً أو استبعاداً سياسياً من المشاركة في الانتخابات"، وكذلك "رفض الإقصاء بكل أشكاله سواء كان سياسياً، أو اجتماعياً، أو اقتصادياً، أو ثقافياً، ورفض أي ممارسات أو تصريحات تتبنّى خطاب الكراهية".

ودخل استحقاق المصالحة الوطنية منذ شهرين حيز الخلافات بين المجلس الرئاسي (برئاسة محمد المنفي) الذي يقع ملف المصالحة الوطنية ضمن اختصاصاته، وبين مجلس النواب الذي اعتبر المجلس الرئاسي منتهي الشرعية، وقرر نقل صلاحياته إليه. ورغم إعلان مجلس النواب إصدار قانون للمصالحة الوطنية مطلع يناير الماضي، مضى المجلس الرئاسي في أعماله الخاصة بالمصالحة، معلناً نهاية يناير انتهاء الترتيبات النهائية لعقد المؤتمر الجامع للمصالحة الوطنية من دون أن يحدّد موعده.

وتواجه المبادرة الأممية عوامل تطور الانقسام والصراع، فعلى الرغم من تبنيها لمرحلة فنية تزيل تعقيدات القوانين الانتخابية تفضي إلى مرحلة حوار سياسي، إلا أن الخلافات لم تعد بين شركاء العملية السياسية، مجلسي النواب والدولة، فالأخير تراجع حضوره السياسي بسبب انقسامه الحاد حول شرعية من يترأسه (بين محمد تكالة وخالد المشري) وصار الخلاف منحصراً في حكومتي البلاد، حكومة الوحدة وحكومة مجلس النواب الخاضعة لحفتر.