العدد 1374 / 21-8-2019
نعرف جميعاً أن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، قد أعلنت
منذ مجيئه إلى البيت الأبيض في كانون الثاني 2017، أنها تملك رؤية خاصة بها لحل
القضية الفلسطينية، وأنها ستعلنها في الوقت المناسب، وأن هذه الرؤية لها عنوان
جامع هو "صفقة القرن" .
وقد نشط غرينبلات منذ وقت مبكر، ومعه جاريد كوشنر مستشار
الرئيس وزوج ابنته، في طريق الترويج للرؤية والصفقة معاً، دون أن يتطوعا ولو مرة
واحدة بالكشف عن شيء من تفاصيل الصفقة، ولا عن السبب الذي دعاهم هناك في واشنطن
إلى إطلاق هذا الاسم عليها، فهي «صفقة القرن» وفقط، أما لماذا القرن، وليس العقد
من الزمان مثلاً؟ فلا إجابة، وأما لماذا هي صفقة وليست مشروعاً، أو عملية من نوع
عملية السلام التي كانت يوماً بين مصر وإسرائيل؟ فلا إجابة أيضاً!
وفي الطريق إلى موعد الإعلان الرسمي عن الصفقة، كانت الإدارة
الأميركية تحدده مرات، وكانت تؤجله في كل مرة، ثم بدا لها أن تعلن مؤخراً أن
الموعد النهائي سيكون قبل الانتخابات الإسرائيلية المقرر لها أن تجري في 17 أيلول
المقبل.
في الطريق إليه، كانت إدارة الرئيس ترمب تتخذ من الخطوات ما
يحكم على الصفقة بالفشل مسبقاً، ولو كانت ستجيء للفلسطينيين بالمنّ والسلوى، وإلا،
فما معنى أن تُقرر هذه الإدارة الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل؟! وما معنى أن تقرر
نقل سفارتها في إسرائيل من تل أبيب إلى القدس؟! وما معنى أن تظل تحرض باقي دول
العالم على المضي إلى اتخاذ الإجراء ذاته؟! وما معنى أن تغلق مكتب منظمة التحرير
الفلسطينية في واشنطن؟! وما معنى أن توقف مساهمتها في ميزانية وكالة غوث اللاجئين
المعروفة بـ«الأونروا»؟! وما معنى... وما معنى؟! إلى آخر الإجراءات التي كانت كلها
في اتجاه واحد.
وكان هذا الاتجاه الواحد هو الانحياز المطلق إلى الطرف
الإسرائيلي، دون الالتفات إلى أن القضية لها طرفان بطبيعتها، وأن هذا هو شأن أي
قضية، وأن تجاهل طرف من الطرفين معناه أنك تريد السعي في الطريق بقدم واحدة، وهو
ما لا يستقيم، ولا يؤدي إلى شيء!
وهذا بالضبط ما قاله غرينبلات مع «بلومبرغ»، وقد قاله بالطبع
بشكل غير مباشر، حين خرج علينا وعلى الطرفين، فأعلن ما أعلنه، وبثّته القناة!
مما قاله، مثلاً، إن الرئيس ترمب لم يقرر بعد موعد الإعلان
عن الصفقة، ولم يحدد ما إذا كان موعد الإعلان عنها سيكون قبل الانتخابات
الإسرائيلية في ايلول المقبل أم لا، وإن الإدارة الأميركية تأمل التوصل إلى اتفاق
مع الفلسطينيين في نهاية المطاف، وإنها لا ترغب في تغيير النظام في السلطة
الفلسطينية التي تحكم الضفة الغربية، وإن الرئيس الفلسطيني محمود عباس هو زعيم
الفلسطينيين، وإنها ترجو أن ينضم الرئيس عباس إلى طاولة المفاوضات، وإنها تؤمن بأن
التفاوض المباشر بين طرفي القضية هو الطريق إلى الحل الصحيح، وإن أي جهة لا تستطيع
فرض شيء عليهما، ولا تستطيع التفاوض بالنيابة عنهما، بما في ذلك الولايات المتحدة
نفسها، والاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة!
والحقيقة أن هذه نبرة جديدة في الكلام عن القضية، ومع أصحاب
القضية، وبالذات مع الطرف الفلسطيني، فلم يسبق من واشنطن أن تحدثت عن القضية بهذه
النبرة، ولا سبق لها أن توجهت بالحديث إلى أبو مازن بهذه اللهجة، وقد كانت تمضي في
طريقها كقطار يسرع إلى غايته بأقصى ما لديه من قوة ، دون توقف، حتى دون فرصة
لالتقاط الأنفاس!
ومن الواضح أن مراجعة أميركية لخطوات الطريق قد جرت، وأن
المسؤولين عن الملف أميركياً تبينوا أن لا بديل عن مثل هذه المراجعة، وأن البيت
الأبيض أصبح على قناعة بعد مراجعته بأن تجاهل الطرف الفلسطيني ليس من السياسة في
شيء، ولا من الحكمة في شيء، وأن وجوده على الطاولة من قبيل البديهيات، وأن القوة
التي يملكها الطرف الإسرائيلي ليست كل شيء، وأنها قد تكون قادرة على فرض أمر واقع،
ولكنها بيقين ليست قادرة على ضمان استمرار هذا الأمر الواقع!
ونحن نذكر أن لهجة غرينبلات الجديدة قد سبقتها تمهيدات سمعنا
بها قبل أيام، وكانت التمهيدات تقول إن الرئيس ترمب معجب بالرئيس عباس، وإنه يريد
العمل معه، وإن أداء أبو مازن منذ أن تسربت أنباء الصفقة إلى الإعلام محل إعجاب في
البيت الأبيض!
والحق أن الرئيس عباس قد أبدى صموداً نادراً في كل مراحل
الترويج للصفقة، وهي مراحل رافقتها ضغوط لم يكن من السهل على أبو مازن مقاومتها،
ولا الوقوف في طريقها، لولا خبرة كانت قد تراكمت عنده من أوسلو ومن غير أوسلو،
ولولا أن العواصم العربية الكبرى كانت إلى جواره في كل المراحل، وكانت ولا تزال
تقول إنها لا تقبل إلا ما يقبله الفلسطينيون!
ولم يكن في مقدور فلسطيني واحد أن يقبل ما راحت إدارة ترمب
تروّج له وتحاول فرضه منذ البداية، ولا كان في إمكان هذه الإدارة نفسها أن تمضي في
طريقها بالوتيرة ذاتها، دون أن تتوقف للحظات، لترى أين على وجه التحديد تقع مواطئ
أقدامها!
عادت الولايات المتحدة تستميل أبو مازن، وتخطب ودّه، بعد أن
جربت كل الطرق، وسوف يتمنع الرئيس عباس في الغالب، ويتدلل بالضرورة!
سليمان جودة