العدد 1695 /24-12-2025
حسام أبو حامد
في سورية ما بعد
سقوط نظام الأسد ثمّة من يكتب ويساجل، ومن يعترض أو يطرح أسئلةً بسقف عالٍ. يوحي
المشهد من بُعد بأن المجال العام امتلأ بأصوات نقدية، لكن الغوص في أعماقه يطرح
السؤال: هل يستمرّ النقد من دون خوف؟ هل له حقّ التنظيم والحماية القانونية؟ فلا
تقاس الحرية بمقال هنا ومنشورٍ هناك، بل بقدرة السوريين على تحويل رأيهم فعلاً
عامّاً من دون أن يتحوّلوا أهدافاً للسلطة. فرغم سنوات من القمع، لم يعدم السوريون
"نقداً" يُسمح له بالمرور، موسمياً وخاضعاً للإدارة، ومحكوماً بسقفٍ
معلوم، فيغلق بابُ النقد حين يقترب من جوهر السلطة. حين تصبح الأصوات النقدية
استثناءاتٍ، هامشاً مؤقّتاً، فلا مُؤشِّرات كافية على فضاءٍ حرّ.
في الحقبة
الجديدة لا يبدأ الاختبار الحقيقي من نصوص دستورية وقانونية واضحة تحمي حرية
التعبير وتُجرِّم تقييدها التعسُّفي، فهذه وحدها لا تعني شيئاً، إذ يمكن لأيّ سلطة
أن تكتب ما تشاء ويظلّ حبراً على ورق، ينبغي توفُّر الضمانات الإجرائية التي تمنع
القوة من أن تتحوّل إلى قانون: لا توقيف بلا مذكّرة قضائية، حقّ توكيل محامٍ، مثول
سريع أمام القضاء، وتجريم الإخفاء القسري ومنعه فعلاً لا قولاً. حرية التعبير
سلسلة إجراءات دقيقة تُغلق الباب أمام العسف، ليأتي سؤال السلوك الفعلي للسلطة: هل
تعاقب خارج القانون؟ هل يعمل الصحافي والناشط والجمعية والنقابة من دون إذنٍ مزاجي
أو تهديد؟ إذا كانت الإجابات سلبيةً، فالحرية في أفضل أحوالها تصبح
"منحةً" قابلةً للسحب، لا حقّاً قابلاً للحماية.
وللانتقال من مناخ
تُقاس فيه الحرية بما تسمح به السلطة إلى فضاء القانون، لا بدّ من توفُّر قانون
لحرية التعبير والإعلام يضيّق دائرة الاستثناءات إلى الحدّ الأدنى، فالمساحات
الرمادية التي يُفسَّر فيها النصّ على هوى السلطة هي مذابح للحرية؛ مراجعة مواد
قانون العقوبات الموروثة من العهد البائد، التي تتيح تجريم الرأي بعبارات فضفاضة
وعناوين مطّاطة، لتكون الاستثناءات ضيّقةً ومحدّدةً بدقّة: تحريض مباشر على العنف،
أو تشهير قابل للإثبات، فليس من الحرية تجريم موقف أو رأي أو توصيف سياسي.
ولا يكفي القانون
وحده إن ضلّت الشكوى طريقها، فالحاجة ملحّة إلى جهة مستقلّة تتلقّى شكاوى
الانتهاكات (خصوصاً ما ترتكبه أجهزة السلطة)، لها صلاحيات تحقيق وإحالة على
القضاء، مع حماية للمبلّغين والشهود. فالمساءلة بنية مؤسّساتية تمنح مساراً واضحاً
للإنصاف، وفي مقدمه استقلال القضاء.
هل توجد قواعد
شفّافة للتظاهر والاجتماع والتنظيم تقوم على الإخطار لا على الترخيص؟ وعلى معايير
محدّدة للتدخّل، ومساءلة واضحة لاستخدام القوة؟ تكتمل حرية التعبير في الشارع
والنقابة والجمعية، وبالقدرة على الاجتماع والضغط السلمي، وبمجتمع مدني (عادةً فوق
دستوري) فعّال لا يحتاج إلى أكثر من شفافية التمويل ومراقبته، لا نظام أذونات
يخنقه. هل يحق للصحافيين والناشطين الوصول إلى المعلومات؟ هل تُصان معدّاتهم من
المصادرة؟ هل يُجرّم الاعتداء عليهم؟ فالخوف من الاعتداء أو التضييق الإداري يحوّل
الحرية إلى مغامرة شخصية، فلا تكون حقّاً عاماً. والحرية ثقافةٌ ممارسةٌ لا تخلط
بين النقد والتخوين، ولا تختزل المجال العام في "مع أو ضد"، وإلا بقيت
الحرية هشّةً حتى من دون تدخّل السلطة.
تبقى الاعتقالات
التعسفية المعيار الفاصل، فالاعتقال بسبب رأي أو منشور أو نشاط سلمي يعني أن سقف
الحرية ما زال في يد السلطة لا في يد القانون. لا نحتاج إلى أرقام كبيرة كي نقول
إن الفضاء ليس حرّاً؛ يكفي أن يبقى التوقيف على الرأي ممكناً، إذ يجب أن تصبح
الاعتقالات مستحيلةً إجرائياً أو مكلفة سياسياً وقضائياً.
من دون مزيد من
التنظير، تختزل المسألة برمّتها في اختبار يومي: هل يستطيع المواطن انتقاد مسؤول
أو قائد فصيل مسلّح من دون أن يخاف العواقب؟ هل يستطيع صحافي فتح ملفّ فساد
والاستمرار فيه؟ هل يستطيع الناس تنظيم حملة أو حزب أو نقابة أو تظاهرة بالإخطار
من دون إذلال أو تهديد؟ هل يُعامل الموقوف وفق قانون واضح أم وفق مزاج القوة؟ وهل
توجد قضايا يربحها المواطن ضدّ الدولة والأجهزة وتُنفَّذ أحكامها؟... إذا كانت
الإجابة عن معظم ما سبق بـ"نعم" فنحن أمام بداية فضاء حرّ. إذا كانت
"أحياناً" فنحن في منطقة رمادية، هامش نقد بلا ضمان. وإذا كانت
"لا" مع استمرار الاعتقال التعسفي، الأصوات النقدية ليست دليلاً على
حرية، بل على مشهدٍ تجميلي أو استثناءات فردية.
لا تعني الحرية
رفع الصوت بقدر ما تعني تلاشي الخوف، وتقاس بعدد المرّات التي تنتصر فيها دولة
القانون على دولة القوة، فالامتحان الحقيقي ليس أن تسمح السلطة بالكلام، بل حين
ينشأ بناء سياسي يجعل من الكلام حقّاً لا مغامرة.