العدد 1632 /2-10-2024
يجتاح المجتمع
الإسرائيلي، في العقدين الأخيرين تقريبًا، حالة من التفكُّك والتصدُّع الاجتماعي
والسياسي والثقافي، ما دفع كثيرين إلى الجزم بأنّ إسرائيل سائرة حتمًا إلى حرب
أهلية خصوصًا في السنة الأخيرة، أي منذ "طوفان الأقصى" التي قادته حماس
في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الفائت، وما تبعه من حرب إسرائيلية على قطاع غزة،
حتى إنّ بعض الأصوات الإسرائيلية، ومن بينها الإعلام الإسرائيلي المجند لخدمة
الأجندات السياسية لحكومة إسرائيل، قد تبنت هذه التسمية.
لكن يلحظ المتعمِّق في
سير الأمور الداخلية أنّها ليست بهذا الاتجاه، رغم الاتفاق على أنّ التفكك داخل
المجتمع الإسرائيلي حاصل ومستمر وفي اتساع، بفعل الحرب وتطوراتها، ومواقف وسياسات
الحكومة الإسرائيلية التي يرأسها بنيامين نتنياهو، إلى جانب المؤثرات الخارجية،
التي لها دور ومساهمة في زيادة وتيرة التفكُّك، لكن ليس إلى درجة الحرب الأهلية.
طبعا هناك أيضا من زعم أنّ إسرائيل تسير نحو الاختفاء والزوال الكلّي، لكن هذا كله
من باب التمنّي والتشفّي، وليس الواقع لمن يعرف كيف يقرأه.
من الواضح أنّ المجتمع
الإسرائيلي قد دخل منذ أكتوبر الماضي في حالة صدمة، كما مرّ خلالها في مراحل
مختلفة من التحولات والتطورات الداخلية، كان أبرزها، توجيه إصبع الاتهام إلى حكومة
إسرائيل بشأن الإخفاق العسكري والاستخباري، الذي أدّى إلى السابع من أكتوبر،
وأيضًا إلى طريقة إدارة الحرب، وعدم التوصُّل إلى إبرام صفقة تضع حدًّا للحرب
وتعيد الرهائن الإسرائيليين إلى ذويهم.
فإذا كُنّا نتحدث قبل
السابع من أكتوبر عن تفكُّك اجتماعي بصيغة يهود غربيين (أشكناز) ويهود
شرقيين(سفاراد)، فإنّ مثل هذه الصيغة قد تراجعت كليًّا، أو مؤقتًا الآن. إذ يدور
اليوم الحديث عن تفكُّك في الرؤية السياسية للمجتمع الإسرائيلي حول دولته والمشروع
الصهيوني، الذي أفرز هذه الدولة منذ تأسيس الحركة الصهيونية، وانطلاق مؤتمرها
الأوّل، في بازل في سويسرا عام 1897 إلى يوم إعلان قيامها عام 1948.
هنا يكمن مربط الفرس،
فالمجتمع الإسرائيلي مكوَّن من عَلمانيين ومتدينين بمستويات مختلفة (القصد هنا
متدينون معتدلون)، ومتشدِّدين، وصهيونيين، برزت الفئة الأخيرة على الساحة بروزًا
مكثفًا، خصوصًا في العقود الثلاثة الأخيرة، من خلال نشاطهم السياسي والاستيطاني،
وهذا يعني أنّ غالبيتهم من المستوطنين في الضفة الغربية والقدس العربية المحتلة،
وتنامى نشاطهم الاستيطاني تناميًا مُكثّفًا من خلال سيطرتهم على مساحات من الأراضي
الفلسطينية الخاصة، إلى جانب اعتداءاتهم المتواصلة، وغير المنقطعة، على أراضٍ
فلسطينية زراعية، وعلى قرى وحارات في مدن الضفة الغربية، كان أبرزها قرية حوّارة،
هذا كلّه بغطاء حكومي، وحماية جيش الاحتلال الإسرائيلي. كما حظوا منذ تأليف حكومة
نتنياهو بدعم غير مسبوق من وزيري المالية بتسلئيل سموتريتش، والأمن القومي إيتمار
بن غفير، فهم من أتباع حزبيهما في الغالب. إذ صرّح سموتريتش قبل فترة وجيزة عن
رفضه إقامة دولة فلسطينية، بأيّ حال من الأحوال، في الضفة الغربية، زاعمًا أنّها
جزء من أرض الآباء والأجداد، وهذا بحدِّ ذاته بنسجم مع فكر نتنياهو، رئيس الحكومة،
وزعيم حزب الليكود العلماني، الرافض مبدئيًّا لحلّ الدولتين.
إذن، تبلورت داخل
المجتمع الإسرائيلي شريحة واسعة رافضة لأيّ حلّ مع الفلسطينيين، بل لا تعترف
إطلاقًا بوجود الشعب الفلسطيني، وتسعى إلى إقامة دولة يهودية صرفة، منهم من يريدها
دولة دينية تسير بموجب الشريعة، ومنهم من يريدها يهودية وديمقراطية علمانية يحكمها
القانون المدني، مع بعض المؤثرات من الشريعة اليهودية، التي لا تتعارض وروح
العَلمانية والقوانين المدنية.
لكن، كشف هذا التوجه عن
التفكُّك داخل المجتمع في إسرائيل قبل السابع من أكتوبر، حين نهضت حركة معارضة
للإصلاح القضائي، الذي نادت به حكومة نتنياهو الحالية، ونظمت عشرات المظاهرات
الاحتجاجية المعارضة للانقلاب القضائي، وعاش المجتمع الإسرائيلي شهورًا مديدة من
الاحتجاجات المندِّدة بالتغييرات القانونية، التي ستؤدي إلى مزيد من تحكُّم
الدكتاتورية، بدلاً من الديمقراطية، التي تلوّح بها إسرائيل منذ إعلان وثيقة
استقلالها، عشية تأسيسها في مايو/أيّار عام 1948، والمستندة إلى روح الصهيونية،
كما يروّجها الصهاينة، أما نتنياهو فقد دعم هذه الإصلاحات لكونه يعرف جيّدًا أنّها
ستكون خشبة خلاصه من ملفات الفساد، التي تنتظره في دور القضاء الإسرائيلي.
نتج عن الدعوة إلى
الإصلاح القضائي تياران: الأول مؤيد لها، معظمه من اليمين بأنواعه المختلفة
السياسية والدينية، والثاني من الراغبين في الحفاظ على أسس الصهيونية، وروح
الديمقراطية والليبرالية الإسرائيلية، كما وردت في الوثيقة المشار إليها سابقًا.
كان هدف الأحزاب
اليمينية المتطرفة الرئيسية، من علمانية ومتدينة، السيطرة والهيمنة على الجهاز
القضائي، على اعتباره غطاء لتطبيق مشاريعها السياسية في بسط سيادتها، وهيمنتها على
الوزارات الرئيسية، إلى جانب تحقيق المزيد من الإنجازات على صعيد توسيع مساحة
يهودية إسرائيل، من خلال ضم مناطق فلسطينية في الأغوار مثلاً. من هنا حصل التفكُّك
داخل المجتمع، وتراشق التّهم بين الأحزاب والتيارات السياسية المختلفة، ومن ثم كشف
التباين داخل المجتمع الإسرائيلي بين العلمانيين والمتدينين المتطرفين.
لكن ساهم السابع من
أكتوبر في اصطفاف المجتمع الإسرائيلي خلف مقولة رئيسية واحدة هي "الحرب
الوجودية"، إذ نجح نتنياهو في توحيد صفوف هذا المجتمع، ودعوته إلى الاصطفاف،
لأنّ ما جرى في غلاف غزّة يمكن حدوثه على الحدود الشمالية مع لبنان، عبر اجتياح
حزب الله للجليل، وما يمكن أنْ يشكله الخطر الايراني على الوجود الإسرائيلي،
فانطلقت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة بذريعة كونها حربًا وجودية، وتحت غطاء
دولي ونسبيًا إقليمي، لضرورة اجتثاث محور الشرّ "حماس"، لكنها في الأساس
عملية تطهير عرقي للفلسطينيين، وضم المزيد من الأراضي الفلسطينية، وتصفية القضية
الفلسطينية بالكامل، فالفكرة الصهيونية الرئيسية هنا أن مشروعها (دولة إسرائيل) لا
يستطيع التعايش مع الفلسطينيين على مساحة واحدة.
بعد ذلك، طفا تفكُّك
المجتمع الإسرائيلي على السطح من جديد، بنمط آخر مرتبط بقضية صفقة إعادة الرهائن
الإسرائيليين المحتجزين لدى حركة حماس في غزّة، إذ كشفت الشهور التي تلت
"طوفان الأقصى" عن مراوغة نتنياهو، بوجه خاص، في كلّ ما يتعلق بالصفقة،
وسيره المستمر والدؤوب نحو عرقلة إبرامها، ما يطيل حياته السياسية بكلّ تأكيد، لذا
عاد الاصطفاف السياسي والاجتماعي مرة أخرى، وظهر تفكُّك المجتمع في إسرائيل، إذ
كثف المستوطنون انتشارهم ونشاطهم في الضفة الغربية والقدس العربية، على مستويين
هما: الأوّل إنشاء مستوطنات جديدة، وبناء المزيد من الوحدات السكنية الاستيطانية
في المستعمرات القائمة، ضاربين عرض الحائط بكلّ الاتفاقات والتفاهمات المرتبطة
بتجميد الاستيطان. والثاني زيادة سيطرة اليمين على قوى الأمن، خصوصًا على الشرطة،
من خلال وزير الأمن القومي بن غفير، وتوزيعه السلاح على عشرات آلاف المستوطنين، ما
أوحى بأن هناك طلائع لبناء مليشيات منفردة في المستقبل، تعمل على بسط سيطرتها على
الضفة الغربية، وتقمع الفلسطينيين بعنف غير مسبوق، وتمنع أيّ إمكانية لحلّ
الدولتين، ومنهم من ذهب إلى أبعد من ذلك بقوله إن هذه المليشيات ستكون بديل الجيش
الإسرائيلي، الذي يساهم، على حد قولهم، في منع تشكيل دولة يهودية حقيقية.
كما بيّنت استطلاعات
الرأي في إسرائيل أنّ مسألة "حلّ الدولتين" ليست الشغل الشاغل للمجتمع
الإسرائيلي، لدرجة إعلان سموتريتش أنّه أمام الفلسطينيين واحد من ثلاثة خيارات:
الموت، أو الرحيل أو العيش أذلاء تحت حكم الدولة اليهودية.
تبيّن هذه التوجهات إلى
أين يسير المشروع الصهيوني ضمن التحولات الاجتماعية في إسرائيل؟ إذ تتسع حالة الاستقطاب
في المجتمع الإسرائيلي حول شكل الدولة ومضمونها، ولكن ليس إلى درجة الانقسام
والشرخ الاجتماعي الواسع. بمعنى آخر أنّ هذا التفكُّك ليس عميقًا بحسب وجهة نظر
كاتب المقال، لأنّ الحرب توحد المجتمع الإسرائيلي، كما أنّ بناء فكرة تراكم نسيج
محور الأعداء ضد الوجود المشروع لإسرائيل هو عامل مساهم في تعزيز الاصطفاف
المجتمعي. لكن قد تتطور حالة التفكُّك مع مرور الزمن، بارتباطها بمتغيرات داخلية،
من أبرزها:
1. فشل
حكومة نتنياهو في إبرام صفقة وإيقاف الحرب، عِلمًا أنّ نسبةً مرتفعة من الجمهور
الإسرائيلي تؤيد الحرب. وهذا يعني أنّها تؤيد حكومة نتنياهو، وهو يعرف أنّ
الإسرائيليين لا يعارضونه في الحرب، حتى أولئك الذين يتظاهرون من أجل إبرام
الصفقة، وينادون بوقف الحرب، فإنّهم ينادون بوقفها لإتمام الصفقة وليس لوقف الحرب
كاملةً. والأهمية هنا في كيفية تعميق فكرة توقيف الحرب من أجل إنهائها.
2. عند
إدراك هذا المجتمع أنّ الحرب على غزّة خالية من أيّ هدف استراتيجي، وأنّها مكلفة
للمجتمع الإسرائيلي بشريًّا واقتصاديًّا، مع بقاء شريحة واسعة من المجتمع مؤمنة
بأنّ الحرب صادقة بالتمام ويجب استمرارها.
3. زيادة
الضغط الخارجي على حكومة إسرائيل لوقف الحرب، حيث تقبل شريحة به، في حين أنّ شريحة
أخرى ترفض الخضوع له. وحتى الآن، لم تنفع مطلقًا أيّ حالة من جهود الضغط بما فيها
المحكمة العليا الدولية، ومحكمة الجنايات الدولية.
من الواضح هنا حصول
تفكُّك آخر للمنظومة الاجتماعية أمام ضغوط داخلية، وأخرى خارجية، ولكن لا يعني ذلك
أنّ حربًا أهلية، أو صراعًا قويًا وواسعا حاصل في المجتمع الإسرائيلي. وهذا ما
يدعونا إلى التفكير جديًّا بأنّ المادة اللاصقة للمجتمع في إسرائيل هي المشروع
الصهيوني المؤسس على السيطرة على مزيد من الأرض، وطرد/ترحيل سكانها، ونقل المعركة
إلى ساحات أبعد من حدود إسرائيل. والاستمرار في نشر التخويف من حرب وجودية، كما
أطلق عليها غالانت مع السابع من أكتوبر.
هل تدفع احتجاجات إسرائيل نحو اتفاق؟
ما يهمنا هنا؛ هو
الإشارة إلى تصاعد الاحتجاج الداخلي حول قضية الرهائن، من دون أن يبلغ مستوى تشكيل
قوة ضاغطة مؤثِّرة على الحكومة الإسرائيلية عامة، وعلى نتنياهو خصوصًا. فلم تبلغ
الاحتجاجات والتظاهرات، حتى الساعة، مستوى إحداث تغيير، وتحوُّل في توجُّهات
الحكومة، أو الكنيست الإسرائيلي، بل لم تصل إلى نقطة إسقاط الحكومة، وتفكيك
الائتلاف الذي يرأسه نتنياهو، والمكون من خمسة أحزاب يمينية، واحد علماني، وهو
الليكود الذي يتزعمه نتنياهو، وأربعة متدينون متشددون وصهيونيون. لهذا، تُفَضِّل
هذه الأحزاب الإبقاء على الائتلاف القائم، لأنّه مريح ومربح لها من ناحيتين سياسية
ومالية، وأيضًا لأنّ بيدها مفاتيح القرارات السياسية المصيرية للمشروع الاستيطاني
التوسعي في الضفة الغربية، وأيضًا في غزّة. إذ ارتفعت أصوات بعض القيادات
الصهيونية المنادية بضرورة إعادة النشاط الصهيوني في غزّة، والعمل على طرد
الفلسطينيين منها.
ما يمكننا ملاحظته الآن،
تشكُّل ما يشبه دولة في الضفة الغربية، قد يحلو للبعض دعوتها باسم "مملكة
يهودا"، يسيطر عليها المستوطنون، وحزبا الصهيونية الدينية والقوة اليهودية.
في حين أنّ العلمانيين الذين لا يملكون قوة للتغيير، يبقون في دولة إسرائيل، التي
يسميها بعضهم "دولة تل أبيب"، حيث يتجمَّع العلمانيون من بين المجتمع
الإسرائيلي، وهذا شكلٌ من مظاهر التفكُّك الاجتماعي- السياسي في إسرائيل. لكن يبقى
السؤال كيف سيتطور ومن سيتولى زمام القيادة؟ وهل حقيقة سيؤول إلى انتهاء
"دولة إسرائيل" بصيغتها الصهيونية العلمانية لصالح الصهيونية الدينية
السياسية؟ وكيف ستكون ردود الفعل لدى القيادات الصهيونية العالمية، التي لم تقل
كلمتها الفاصلة حتى الآن، حول شكل التطور ومضمونه في المشروع الصيهوني، خصوصًا ما
له علاقة بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني؟