العدد 1658 /9-4-2025

يقظان التقي

يُستهدف الصحافيون في غزّة بشكل متكرّر، في محاولة إسرائيلية ممنهجة لإسكات أصحاب السترات الصحافية، الشهود على المجازر والدمار، ما يعني استهداف الحقيقة نفسها، وفي انتهاك صارخ للمواثيق الدولية كلّها، التي تحمي عمل الصحافيين في مناطق النزاع. وقد ارتفع عدد الشهداء الصحافيين ٳلى 209 في حرب الٳبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل منذ 7 أكتوبر (2023)، بعد ٳعلان استشهاد الصحافي، محمد صالح البردويل. هذا عدد غير مسبوق في أيّ نزاع حديث، ما يعكس جريمةً وحشيةً، ولا سيّما حين يُضمّ العدد إلى ما يتعرّض له السكّان المُنهكون في كارثة إنسانية في حرب مستمرّة منذ نحو 18 شهراً. ليس الصحافيون مجرّد ناقلي أخبار وصور، والاحتلال لا يملك حجّةً لاستهدافهم.

لم يعد هناك وقت للحزن في غزّة، ولا لدى السكّان الوقت الكافي للتعافي من صداماتهم وجروحهم من التكلفة البشرية وحجم الدمار طوال أشهر العدوان، وما كان يمكن للصحافيين تغطية الحرب من بُعدٍ، بعدَ أن منعت سلطات الاحتلال الصحافة الأجنبية من دخول القطاع عقب "طوفان الأقصى"، وسمحت لعدد قليل منهم بالدخول (تحت ٳشراف الجيش) ٳلى المستوطنات المدمّرة في "غلاف غزّة" فقط، بشروط عمل مثل التقاء عائلات الضحايا الٳسرائيليين والرهائن، وأولئك الهاربين من الجبهة الشمالية الحدودية مع لبنان، وإجراء مقابلات مع القادة السياسيين والعسكريين في المجتمع الإسرائيلي وفي الضفة الغربية، في حين رفضت ٳعطاء ضمانات أمنية للانتقال ٳلى غزّة، للصحافيين وللعاملين الٳنسانيين، وكذلك لمراكز الصليب الأحمر والهلال الأحمر الفلسطيني.

لدى كثيرين من الصحافيين الغربيين شعور بالأسى من عدم قدرتهم على مواكبة مأساة ذات حجم كبير في القطاع، وتراجعهم في مواجهة التضليل الذي يقوم به الجيش الٳسرائيلي، ومنعهم من المساواة في التغطية، وممارسة خياراتهم في مناقشة الحرب والمساعدة في وقفها. لم يكن لديهم الخيار، فالخيار لٳسرائيل، الجهة الوحيدة التي تقرّر في الحرب، التي أطلقت سلسلة من الرؤى في بداية الحرب تقلب الصورة رأساً على عقب في سرد الصراع، في تضليل للحقيقة. بذل صحافيو الخدمة الدولية جهوداً لوقف الحرب، ومنع تفاقم العنف وتمدّده، رغم الآثار المترتبة من ظروف العمل، وما فرض عليهم من خدماتٍ أخرى عبر الإشراف على الصور والفيديوهات والمعلومات والمكالمات الهاتفية والرسائل. وهو عملٌ صعبٌ مع فوضى المصادر المتاحة. مع ذلك، تقدّم "مراسلون بلا حدود" بأربع دعاوى إلى المحكمة الجنائية الدولية بشأن جرائم الحرب المرتكبة ضدّ الصحافيين في غزّة.

ساعد منع العمل في الأرض الدبلوماسية العالمية في التهرّب من تطبيق العدالة الدولية، وقلّل من حجم دعم الفلسطينيين، والتعبئة لصالح حقوقهم. ومرّة أخرى، يعاني الٳعلام الغربي سوء تفاهم كبيراً في معرفة حقيقة الصراع الفلسطيني الٳسرائيلي. في المقابل، قُتل عديدون من الصحافيين المحلّيين في قطاع غزّة والضفة الغربية، على الرغم من أنه كان من الممكن التعرّف عليهم بشكل كامل في المواقع التي مُنعت وسائل الٳعلام الغربية من تغطيتها. ٳنه صراع مختلف في حجمه وعنفه وقساوته وآثاره، وتستخدم ٳسرائيل القوة المزعزعة لعمل الصحافيين المعتمدين في غزّة، كأن المطلوب أن يظلّ القطاع معزولاً عن العالم بلا شهود، بلا صوت، بلا صورة.

أن يضطرّ الصحافيون إلى خلع ستراتهم المفترض أن تحميهم يعني أنهم أدركوا أنها باتت علامةً تُعرّضهم للموت. ٳنهم يعرفون أن العالم يرى لكنّه لا يتحرّك، فيكتبون شهاداتهم الأخيرة، لا على الأحداث فقط، بل على حيواتهم نفسها المحاصرة بمعدّات فارغة مع سوء التغذية وفرض الحصار على المواد الغذائية والأدوية، وتحدّيات أخرى. لم يتبقَّ ٳلا القليل منهم، يقصفون يومياً، وهم في عزلةٍ في غياب وسائل الٳعلام الأجنبية الكُبرى، غير قادرين على البحث عن الطعام أو الماء أو الإنترنت أو المأوى، حتى لو كان مصنوعاً من القماش أو من" بطانية". اتهامهم بأنهم أعضاء في "حماس" أو "الجهاد الإسلامي" كذبة مخزية جدّاً، ويحاول الاحتلال تبرير حقيقة استهدافهم في ادّعاءاتٍ زائفة بأنهم مقاتلون، فيما يواصلون عملهم لنشر حقيقة ما يفعله الاحتلال من قصص فظيعة جدّاً، والبحث عن طرق المساعدة في حماية الأطفال والعائلات.

كأنّ العالم يريد أن يطفئ الكاميرات قبل أن يطفئ الحياة. شعارات وقف المجازر والحرب تتلاشى في الشوارع ذات اللون الرمادي مع الغبار، بين هياكل المباني المدمّرة في القطاع، وتختلط مع صرخات أخرى. غزّة اليوم ليست مجرّد مدينة تحت القصف، بل هي شهادة على ما يمكن أن يصل إليه العالم من خذلانٍ وتواطؤ. لم يعد الموت احتمالاً، بل حقيقة، والتفسير لما يجري يصير مجرّد رفاهية، إذ لا يُسمح بالحفاظ على القدرة على التحليل مع الحجم الصارخ للقتل والدمار. لعلها التجربة الأكثر قتامة في الشرق الأوسط. الصحافيون ينعون أنفسهم في الحرب. تجربة لم تسمح لهم أن يستبعدوا الخوف من المخاطر الناجمة عن تغطية الأحداث، ليس لجهة صعوبة الوجود جسدياً في غزّة، بل في ٳضفاء الطابع الٳنساني على معاناة السكّان المدنيين الأكثر وضوحاً من أيّ خطاب.

هذا القتل الجماعي للصحافيين والمدنيين، زلزالٌ أخلاقي كافٍ لزعزعة اليقين، وكشف نفاق من يدّعي الليبرالية والديمقراطية (سواء في الغرب أو داخل ٳسرائيل نفسها)، فكيف يمكن الحديث عن حقوق الإنسان، بينما يُقصف من يوثّق جرائم من يصطاد الناس أشياءَ وأعداداً وفرائسَ، أو أن البراغماتية والتواطؤ أقوى من أيّ مبدأ، والقتل هو الشكل الأكثر تطرّفاً مع الشرّ الكامن في جوهره، وأوسع نطاقاً من الاحتلال؟... لم يعد يملك العالم الليبرالي تلك القيم التي يرفعها الغرب: حقوق الٳنسان، حرية الصحافة، الديمقراطية، فتنهار الحسابات السياسية مع صعوبة "الٳنسانية"، وتتحوّل فوضىً وخيانةً أخلاقيةً وٳعلاميةً، حين لا يكون الصحافيون في مأمن. لا يُقتل الصحافيون في غزّة بالصواريخ فقط، أو بالرصاص، بل أيضاً بالتجاهل والتبرير. هم يجسّدون قصّة فلسطين في وجه الحصار السردي للقتل الذي تمثّله القوة والسيطرة. أولئك الذين قُتِلوا، سواء في غزّة، أو أي مكان آخر، هم جزء من ذاكرة الشعوب، وتاريخ يجب أن يُكتب، ويتذكّر العالم أن هناك من سعى إلى الحقيقة عندما كانت حياته ثمناً لها.