العدد 1691 /19-11-2025

غازي العريضي

فور صدور قرار مجلس الأمن المتعلّق بغزّة الأسبوع الماضي، قال الرئيس الأميركي: "القرار يثبت أن الأمم المتحدة منظمة عظيمة"... غريب! هل نحن أمام أكثر من منظّمة أم ثمّة أمم متحدة واحدة؟ لقد أصدرت المنظّمة نفسها قرارات دولية كثيرة، ومنها أخيراً قرار إقامة دولة فلسطينية، وقد انتقدها ترامب كما كلّ المسؤولين الإسرائيليين. ألم تكن عظيمةً يومها؟ أم أنها دائماً عظيمة عندما تتناسب قراراتها مع مصالح أميركا وإسرائيل، وعندما لا تكون كذلك تعمد أميركا إلى منع صدورها باستخدام حقّ النقض (فيتو)؟ فكيف يمكن الركون إلى هذه الاستراتيجية الأميركية الإسرائيلية المشتركة؟

والقرار الذي صدر لا يتحدّث عن دولة فلسطينية وحقّ عودة اللاجئين، إنما اكتفى بالحديث عن مسار نحو تقرير المصير وإقامة الدولة بعد أن تُصلح السلطة الفلسطينية نفسها، وإحراز تقدّم في إعادة تطوير القطاع، والأساس هنا. مشروع التطوير واضح، كتبت عنه في "العربي الجديد" كما فصّله معدّه جوزف بيلزمان. هو عملية استئثار بغزّة واستثمار أراضيها 50 عاماً في مرحلة أولى، تتم فيها عملية "تنظيف عقل الطفل الفلسطيني والتخلّص من النازية العربية"، ثمّ لا بدّ من 50 عاماً أخرى لتثبيت الحالة الجديدة.

اشترط العرب الذين أيّدوا القرار تحديد فترة لإقامة الدولة، فأغرقهم ترامب في مسار مفتوح لن تكون فيه دولة في نهاية المطاف. لو كان ترامب موافقاً على الدولة الفلسطينية، لما اعترض على قرار إقامتها في منظمة الأمم المتحدة "العظيمة"، وعندما يفاخر بأنه قادر على فرض إرادته على نتنياهو، وهو الذي قرّر أكثر من مرّة طلب العفو عنه وعدم محاكمته على الجرائم التي ارتكبها بالفساد، ولو كان حريصاً على أصدقائه العرب "العظماء" أيضاً لكان منَّ على حبيبه "بيبي"، واتُّفق على إطلاق آليات لإقامة الدولة، وبشراكة ذات قيمة ومصداقية مع العرب، تحمي حقوق فلسطين ومستقبل دولهم. ترامب ليس في هذا الوارد. وللتذكير، عندما كان يعلن التحضير للقرار سُئل: "هل أنتم موافقون على إقامة دولة فلسطينية؟"، فأجاب: "ثمّة من يتحدّث عن دولة واحدة، وثمّة من يتحدّث عن دولتَيْن، ونحن هنا لا نتحدّث لا عن هذه ولا عن تلك، نتحدّث عن المشروع المعدّ لغزّة"، الذي أُقِرّ في مجلس الأمن (!)، وفور إقراره صدرت المواقف الإسرائيلية: قال وزير الأمن يسرائيل كاتس: "السياسة الإسرائيلية واضحة، ولن تقوم دولة فلسطينية". وقال وزير الخارجية جدعون ساعر: "لن تقبل إسرائيل بإقامة دولة فلسطينية إرهابية وعلى مسافة صفر من سكّانها". أما إيتمار بن غفير، فأعلن: "لا وجود لما يسمّى شعباً فلسطينياً. هذا مُختلَق. لا أساس له تاريخياً ولا أثرياً ولا واقعياً. ولن نسمح بمكافأة الإرهاب بدولة. الحلّ الحقيقي الوحيد في غزّة هو تشجيع الهجرة". وأضاف: "يجب أن يكون كل رؤساء الإرهابيين في السجون. وأدعو نتنياهو إلى اعتقال أبو مازن، وأنا سأتولى أمره. لقد جُهّزت زنزانة انفرادية خاصة بمحمود عبّاس في سجن كتسيعوت". أهكذا يتم مشروع إصلاح السلطة الفلسطينية؟ أهذه هي بداية المسار الموثوق لتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية؟ أم حركة "همج التلال" والمستوطنين الذين يعيثون قتلاً وفساداً واعتداءً على أملاك الفلسطينيين وحياتهم في الضفة هي المدخل الصحيح لهذا المسار، ولم نر إجراءً واحداً أو تحرّكاً جدّياً لإيقاف هذا المسلسل؟ لقد أعلن رئيس حكومة الاحتلال نتنياهو بوضوح: "لن تقوم دولة فلسطينية لأنها تشكّل تهديداً وجودياً لإسرائيل"، فعن أيّ "حقّ تقرير مصير" يتحدّثون؟ عن حقّ تقرير الفلسطينيين مصيرهم أم عن حقّ نتنياهو وبن غفير وكاتس وساعر...، وغيرهم وغيرهم، تقرير مصير الآخرين؟ إنها خديعة جديدة، وفخّ جديد. ولعبة مفضوحة مكشوفة لا يجوز الرهان عليها والركون إلى نتائجها.

لقد خرج بعض مسوّقي فكرة أن ما أُقِرّ في مجلس الأمن إنجاز وانتصار وضمان لحقّ الشعب الفلسطيني، والجهد العربي كان حاسماً فيه، وتجاوب ترامب معه كان أساسياً. هذه خفّة وتبسيط للأمور، واستخفاف بعقول الناس وبالذاكرة، وانحراف عن الوقائع والحقائق. بعض هؤلاء أراد أن يتشاطر، فقال: "ثمّة جدّية في هذا القرار وأبعاده. إن أميركا هي التي تقدّمت به إلى مجلس الأمن وعملت على تسويقه". إنه أيضاً اعتداء على الذاكرة.

عام 1987 كانت أميركا ضدّ الاجتياح الإسرائيلي للجنوب اللبناني. تجاوزت إسرائيل الموقف الأميركي واجتاحت واحتلت الأرض. تقدّمت أميركا نفسها بمشروع قرار إلى مجلس الأمن يطالب إسرائيل بالانسحاب، وصدر القرار تحت الرقم 425 ورفضت إسرائيل الالتزام به. حاولت أميركا دعم الدولة اللبنانية بإرسال الجيش إلى الجنوب بعد أشهر من الاحتلال، وفي 31 يوليو/ تموز 1987 أعطت الضوء الأخضر للدولة للتحرّك. فأرسل الجيش كتيبة بقيادة المقدّم أديب سعد، وعند وصولها إلى بلدة كوكبا قصف الجيش الإسرائيلي الكتيبة ومنع دخولها إلى الجنوب. عملياً، كان القصف السياسي والعسكري ضدّ الأميركي نفسه. مع ذلك، استمرّ الاحتلال، وشنّت إسرائيل حروباً متتالية، ثمّ كان الاجتياح الأكبر الذي أوصل جيشها إلى العاصمة بيروت، وأيّدتها أميركا، ولم تحدْ عن استراتيجية تغطية إسرائيل والالتزام ببقائها الدولة المتفوّقة استراتيجياً في المنطقة. وهذا ما ظهر في الأشهر السابقة في ظلّ حملة الإبادة التي مارسها الاحتلال ضدّ الشعب الفلسطيني، والحروب المفتوحة التي تخاض في أكثر من جبهة في المنطقة برعاية وحماية وتمويل وتسليح أميركي.

في هذا السياق، يذهب من يراهن على تغيير في السياسة الأميركية، ويسوّق أفكاراً بأن ثمّة تغييراً في المنطقة، وإسرائيل مضطرّة للتراجع. هذا قصر نظر وتحليل أمنيات. بنى أصحابه موقفهم على موافقة ترامب على بيع السعودية طائرات إف 35، وهو أمر لا يتجاوز حدود الصفقة التجارية، أما من الناحية الأمنية والعسكرية والاستراتيجية، فإن لها حدوداً لا يمكن أن تتجاوز تفوّق إسرائيل بعد أن يدفع العرب أثماناً سياسية ومالية كبرى. يكفي هنا أن نقف عند ما قاله نتنياهو: "بعد اللقاء بين الرئيس ترامب وولي العهد السعودي اتصلت بوزير خارجية أميركا ماركو روبيو، وأكّد لي الحفاظ على التفوّق العسكري الإسرائيلي في المنطقة". هل ثمّة وضوح أكثر من ذلك؟

والذين يتحدّثون عن متغيّرات في المنطقة تطلق يد إسرائيل وتؤكّد تفوّقها، ويعتبرون أنه ليس ثمّة خيار سوى الإقدام على التعامل بواقعية مع ميزان القوى الذي يميل إلى مصلحتها، كيف يناقضون أنفسهم عندما يروّجون مواقف معاكسة تعكس محاولة تغطية لما هم مقبلون عليه؟