العدد 1678 /27-8-2025

بين ركام المدارس المهدمة والمستشفيات التي أنهكها النزاع تتوسّع مساحات الأمل في سورية عبر مبادرات محلية وخيرية يقودها الأهالي ومنظمات مدنية تحاول ردم الفجوات التي خلّفتها سنوات الحرب والعقوبات، في ظل غياب شبه كامل لمؤسسات الدولة عن تلبية الاحتياجات الأساسية.

في الجنوب أطلقت درعا حملة "أبشري حوران" التي وضعت خطة واسعة لإعادة ترميم المدارس ودعم المراكز الصحية، وإصلاح شبكات مياه الشرب. وبحسب الأرقام المعلنة تحتاج المحافظة إلى 32.7 مليون دولار لتنفيذ مشاريعها تشمل ترميم 529 مدرسة بدرجات متفاوتة، وتوفير تجهيزات لـ8 مستشفيات و105 مراكز طبية.

وفي الشمال، ظهرت مبادرات، مثل "مدارس العودة" في إدلب التي أعادت فتح صفوف دراسية بتمويل من مغتربين وأهالٍ محليين، إلى جانب مبادرة "عودة الأمل" التي ساهمت في تشغيل مدارس رسمية مثل "أسامة بن زيد" في سراقب. وفي ريف حماة الشمالي، سمحت الجهود المحلية بإعادة مئات الطلاب إلى مقاعدهم في مدارس أُعيد ترميمها بعد سنوات من الإغلاق.

وفي ريف دمشق، ساهمت المبادرات المحلية في ترميم 23 مدرسة في مدينة دوما وحدها، بتمويل مشترك بين الأهالي والمنظمات الخيرية، أما في ريف حلب، فاعتمد المتطوعون على دمج الفن بالتعليم، حيث جُددت المدارس بالغرافيتي والرسومات الملونة لخلق بيئة جذابة للطلاب.

وفي الشرق، نفذت مبادرات غذائية في الرقة، مثل "مطبخ باب بغداد" و"صنائع المعروف"، التي وفرت وجبات يومية ومواد أساسية للنازحين. وفي ريف دير الزور، ساهمت برامج "العودة إلى التعلم" في فتح تسعة مراكز غير رسمية استفاد منها نحو ألفي طفل، مع توفير لوازم مدرسية وبيئة آمنة للعودة التدريجية إلى التعليم النظامي.

ولم تخرج حمص من دائرة هذه الجهود، إذ ساهمت منظمات أهلية في ترميم مدارس بأحياء مثل الوعر والقصير، بالتوازي مع مبادرة "مدينتنا تقرأ" التي زودت مكتبات مدرسية بأكثر من عشرة آلاف كتاب لتعزيز الثقافة والتعليم في جزء من مسار التعافي. كذلك أُعيد ترميم شبكات مياه الشرب في الريف، خصوصاً في الرستن وتلبيسة.

ورغم محدودية الإمكانات، تترك المبادرات المحلية أثراً مضاعفاً عبر تعزيز التماسك الاجتماعي وتخفيف الاعتماد على المساعدات الدولية، فضلاً عن تحريك الأسواق المحلية من خلال توفير فرص عمل مؤقتة وزيادة الطلب على مواد البناء والتجهيزات. وقال الخبير في التنمية المجتمعية الدكتور مازن الحمصي لـ"العربي الجديد" إن "هذه المبادرات تكشف قوة الاقتصاد التضامني في المجتمع السوري، حيث يلتقي العمل الخيري مع الاحتياجات اليومية للناس، ما يشكل بديلاً عملياً لغياب مؤسسات الدولة. وما يميز هذه المشاريع ليس فقط قدرتها على سد الثغرات في القطاعات التعليمية أو الصحية، بل قدرتها على إعادة بناء شبكات الثقة بين الأفراد، وإحياء فكرة أن المجتمع قادر على إدارة نفسه بموارده المحدودة. وهكذا تشكل هذه المشاريع حجراً أساساً لإعادة ترميم النسيج الاجتماعي، وتمنح المجتمعات المحلية خبرة عملية في الإدارة والتمويل، وهذا رصيد مهم لأي عملية إعادة إعمار مستقبلية".

من جهته، أوضح أستاذ الاقتصاد في جامعة حلب، الدكتور بسام الناشد، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن الأثر الاقتصادي لهذه المبادرات يتجاوز الأرقام المعلنة، وقال: "صحيح أن جمع عشرات الملايين من الدولارات قد يبدو محدوداً مقارنة بحجم الخسائر، لكن العبرة في ديناميكية السوق المحلي. فكل مشروع ترميم مدرسة أو تجهيز مركز صحي يعني تحريك قطاعات صغيرة من الاقتصاد، من عمال البناء والنجارين إلى أصحاب المحلات والورش". أضاف: "يتمثل الأثر الأهم بترسيخ الثقة. كل مشروع محلي ناجح يزيد جاذبية المنطقة للاستثمار الداخلي والخارجي، ويبعث رسالة تفيد بأن المجتمع لم يستسلم للانهيار، وأن هناك طاقات يمكن البناء عليها في المستقبل القريب".

ورغم أهمية هذه الجهود، لكنها تكشف أيضاً هشاشة وضع المؤسسات سورية استمرار الدور المحدود للدولة في إعادة الإعمار أو تقديم الخدمات الأساسية، بينما لا تزال المساعدات الدولية مقيدة بآليات رسمية وبروتوكولات قد لا تصل إلى كل المناطق المتضررة. وفي السياق، تشكل المبادرات المحلية واللجان المجتمعية البديل شبه الوحيد الذي يربط بين احتياجات المواطنين وإمكاناتهم الذاتية، من تعليم وصحة وبنية تحتية وخدمات أساسية.

ورأى خبراء أن هذا النموذج قد يكون مستداماً على المدى القصير، لكنه يحتاج إلى دعم مؤسساتي، ولو جزئياً، من الدولة أو المنظمات الدولية لضمان استمرار تأثيره وتحقيق نتائج ملموسة على المدى الطويل. كذلك إن نجاح هذه المبادرات يعكس قدرة المجتمع السوري على التنظيم الذاتي والتكيف مع أزمات متعددة، ويؤكد أن أي خطة لإعادة الإعمار الشامل يجب أن تبدأ من دعم هذه القوى المجتمعية المحلية، وتعزيز دورها شريكاً أساسياً في بناء المستقبل.