العدد 1688 /5-11-2025

امطانس شحادة

تُعدّ مسألة إعفاء طلاب المعاهد الدينية اليهودية من الخدمة العسكرية في إسرائيل، من أبرز القضايا التي أثّرت بعمق في مفهوم "تقاسم العبء" والمساواة في الخدمة العسكرية منذ تأسيس الدولة وحتى اليوم. تعود جذور هذه المسألة إلى عام 1948، حين أُبرم اتفاق بين الدولة والمجتمع الحريدي، منح بموجبه طلّاب المعاهد الذين يكرّسون حياتهم للدراسة الدينية تأجيلاً أو إعفاءً من الخدمة العسكرية، إلى جانب تمويل حكومي للمنح الدراسية المخصّصة لهم، وذلك مقابل دعم الأحزاب الحريدية لمساعي إقامة دولة إسرائيل.

غير أن الأحزاب الحريدية باتت تتعامل مع أزمة إعفاء طلاب المعاهد الدينية من الخدمة العسكرية بوصفها رمزاً لقضية أوسع، تتعلق بمكانتها في الساحة السياسية الإسرائيلية وبقدرتها على التأثير في سياسات الائتلافات الحكومية، وكذلك بمكانة الدين في الدولة وعلاقة الدين بالدولة. ومن هذا المنطلق، فإن أي تراجع أو مساس بقضية الإعفاء من التجنيد يُنظر إليه باعتباره تهديداً لمجمل التوازنات التي تسعى تلك الأحزاب إلى الحفاظ عليها، وهذا ما يفسّر إصرارها على تثبيت الإعفاء بقانون رسمي، إلى جانب الحفاظ على الميزانيات المخصّصة للمعاهد الدينية والمجتمع الحريدي بأسره.

تفاقم الأزمة بعد 7 أكتوبر 2023

سعت الحكومات الإسرائيلية، على مدى عقود، خصوصاً منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي، إلى تنظيم مسألة إعفاء طلاب المعاهد الدينية من الخدمة العسكرية بالتنسيق مع الأحزاب الحريدية. غير أن معظم الترتيبات التي طُرحت في هذا الشأن، قوبلت برفضٍ من المحكمة العليا ومن قطاعاتٍ واسعة في المجتمع الإسرائيلي التي تطالب بتغيير الوضع القائم ورفع نسبة الشباب الحريدي المنخرط في الخدمة العسكرية.

ورغم ذلك، استطاعت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، على اختلاف تركيبتها السياسية، أن تؤجّل الحسم في هذا الملف، وأن تلتفّ على قرارات المحكمة العليا ومواقفها، متجنّبةً مواجهةً مباشرة في هذه القضية. ويُعزى ذلك إلى أن هذه المسألة لم تشكّل في السابق أزمةً سياسية جوهرية داخل المجتمع الإسرائيلي، كما أن المؤسسة العسكرية لم تمارس ضغطاً حقيقياً لتجنيد الشباب الحريدي، إذ لم يكن الوضع الأمني يتطلّب ذلك، خصوصاً خلال العقدين الأخيرين.

تغيّر هذا الواقع منذ أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، إذ وجد الجيش الإسرائيلي نفسه في حاجةٍ ماسّة إلى تعزيز قوّاته البشرية بسبب النقص الحاد في القوى العاملة العسكرية. ولم يعد مقبولاً لدى قطاعات واسعة من المجتمع الإسرائيلي أن يستمرّ إعفاء معظم الشباب الحريدي من الخدمة العسكرية، في وقتٍ لا يشاركون فيه أيضاً مشاركة فعّالة في سوق العمل ولا في تحمّل العبء الضريبي، بينما تُموَّل مخصصاتهم وميزانيات مؤسساتهم الدينية من أموال دافعي الضرائب.

في المقابل، تواصل الأحزاب الحريدية رفضها أيّ تعديل في الوضع القائم، وتعارض بشدّة تجنيد طلاب المعاهد الدينية، مطالبةً في الوقت نفسه باستمرار التمويل الحكومي الموجّه للمعاهد الدينية وللمجتمع الحريدي بأسره. وتستند هذه الأحزاب في موقفها إلى كونها عنصراً محورياً في الائتلاف الحكومي الحالي، وترى في الظرف السياسي الراهن فرصةً ذهبية لسنّ قانون دائم يُرسّخ إعفاء طلاب المعاهد الدينية من الخدمة العسكرية.

وبذلك تحوّلت قضية تجنيد الشباب الحريدي إلى إحدى القضايا المركزية في المشهد السياسي الإسرائيلي الحالي، بما تحمله من أبعادٍ تتجاوز المجال العسكري لتطاول جوهر العلاقة بين الدين والدولة ومفهوم المواطنة والمساواة في تحمّل الأعباء الوطنية.

ازدادت الأزمة تعقيداً عقب قرار المحكمة العليا في يونيو/حزيران 2024، الذي قضى بأن إعفاء طلاب المعاهد الدينية من الخدمة العسكرية يفتقر إلى أساسٍ قانوني. وقد أدّت إجراءات الاعتقال وفرض العقوبات على المتخلّفين عن الخدمة إلى اندلاع احتجاجات واسعة في أوساط المجتمع الحريدي، تجسّدت في تظاهراتٍ متكرّرة شارك فيها عشرات الآلاف، وكان آخرها التظاهرة الحاشدة التي جرت يوم الخميس، 30 أكتوبر 2025، عند مداخل مدينة القدس، وأدّت إلى تعطيل حركة السير لساعاتٍ طويلة، في مشهدٍ يعكس عمق التوتر بين الدولة والمؤسسة الحريدية حول مسألة التجنيد الإلزامي.

محاولات متجدّدة لسنّ قانون الإعفاء

في شهر يونيو الماضي، حاول رئيس لجنة الخارجية والأمن الأسبق في الكنسيت يولي إدلشتاين التوصّل إلى تسويةٍ مع الأحزاب الحريدية من خلال طرح اقتراح قانون جديد للتجنيد، غير أن هذه الأحزاب رفضت المقترح. وقد أدّى هذا الرفض، في أعقاب انتهاء الحرب على إيران، إلى انسحابها من الائتلاف الحكومي. غير أن هذا الانسحاب لم يترافق مع تصويتٍ إلى جانب المعارضة البرلمانية في اقتراحات حلّ الكنيست، إذ اختارت الأحزاب الحريدية الامتناع عن إسقاط حكومة بنيامين نتنياهو أو دعم خطواتٍ قد تؤدي إلى تفكّك الائتلاف القائم.

في أعقاب ذلك، قام نتنياهو بعزل إدلشتاين من رئاسة اللجنة وتعيين عضو الكنيست بوعز بَسْموت، المعروف بولائه الكامل لنتنياهو، بهدف دفع عملية سنّ قانونٍ جديد يكون مقبولاً من الأحزاب الحريدية.

وبالنسبة لنتنياهو، فإن الأولوية في هذه المرحلة هي إرضاء الأحزاب الحريدية وإقناعها بأنه جاد في تمرير قانونٍ يلبّي مطالبها، حتى لو أبطلت المحكمة العليا القانون لاحقاً. فهذه بالنسبة له "لعبة رابح - رابح"، إذ يضمن من جهة استمرار دعم الأحزاب الحريدية لبقائه في الحكم، ومن جهةٍ أخرى يستطيع، في حال تدخّلت المحكمة لإلغاء القانون، أن يهاجم المحكمة العليا ويتهمها بالتدخّل في صلاحيات السلطتين التشريعية والتنفيذية، ما يتيح له تعزيز مكانته داخل معسكر اليمين واليمين المتطرّف الذي يرى في الصراع مع المحكمة العليا أحد رموز المعركة على هوية الدولة.

في الأسابيع الأخيرة، طرح بوعز بَسْموت، رئيس لجنة الخارجية والأمن في الكنيست، مسودة أولية لاقتراح قانون التجنيد الجديد، ويبدو أنه عمل بتنسيقٍ وثيق مع الأحزاب الحريدية بهدف تلبية مطالبها وضمان دعمها السياسي. تنصّ المسودة على إعفاءٍ واسعٍ لطلاب المعاهد الدينية حتى سنّ السادسة والعشرين، إلى جانب رفع الهدف السنوي لعدد المجنّدين الحريديم إلى نحو 4800 مجنّد في السنة الأولى، مع زيادةٍ تدريجية في الأعداد حتى عام 2030.

ومع ذلك، تُعدّ هذه الأرقام منخفضة جداً مقارنةً بالحجم الفعلي للشباب الحريدي في سنّ التجنيد، والذي يُقدَّر بنحو 100 ألف شاب، ما يجعل من الصعب اعتبارها خطوة جوهرية نحو المساواة في "تقاسم العبء". في المقابل، ينصّ المقترح أيضاً على إلغاء معظم العقوبات التي فُرضت على طلاب المعاهد الدينية المتخلّفين عن الخدمة عقب قرار المحكمة العليا عام 2024، وكذلك استئناف تحويل الميزانيات الحكومية إلى المعاهد الدينية التي جُمّدت إثر ذلك القرار.

أثارت الصيغة المقترحة لقانون إعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية، التي يعتزم بَسْموت طرحها، موجةً من الانتقادات داخل صفوف الائتلاف والمعارضة على حدٍّ سواء، وقد وُصفت المسودة بأنها "مخزية وتكرّس التهرّب الجماعي من الخدمة العسكرية". ومع ذلك، يبدو أن المقترح لن يحظى أيضاً برضى الأحزاب الحريدية نفسها، التي تراجعت ثقتها برئيس الحكومة بصورة ملحوظة، وباتت على قناعة بأنه غير قادرٍ على تمرير قانون يلبي مطالبها. وقد انعكس استياء أجزاء من أحزاب التحالف والأحزاب الحريدية في التأجيلات المتكرّرة لاجتماعات لجنة الخارجية والأمن المخصّصة لمناقشة مشروع القانون خلال الأسابيع الأخيرة.

في تحليلٍ لمقترح قانون التجنيد نشره المعهد الإسرائيلي للديمقراطية بتاريخ 29 أكتوبر 2025، أوضحت المحامية شلوميت رفيتسكي تور - باز أن المقترح لا يعالج بصورةٍ كافية مسألة عدم المساواة بين المواطنين، وأنه لا يشكّل استجابة حقيقية لأزمة التجنيد، بل يُعدّ محاولةً لإدارة الأزمة سياسياً أكثر من كونه إصلاحاً جوهرياً للنظام القائم.

حسابات نتنياهو

يُدرك بنيامين نتنياهو تماماً أن تمرير قانون لا يلبّي مطالب جمعيات جنود الاحتياط وغالبية المجتمع الإسرائيلي قد يترتّب عليه ثمنٌ سياسي وانتخابي. ومن هذا المنطلق، يمكن القول إن جميع محاولاته للالتفاف على أزمة تجنيد طلاب المعاهد الدينية، عبر مناوراتٍ سياسية وتشريعاتٍ غير مقبولة على المحكمة العليا، لن تُفضي إلى حلٍّ حقيقي للأزمة، بل ستُسهم في تفاقمها وتعميق الانقسام الداخلي.

كما أن هذه السياسات قد تجعل من عودة الأحزاب الحريدية إلى التحالف الحكومي أمراً أكثر صعوبة، وتُهدّد في الوقت ذاته بشللٍ تشريعيّ داخل الكنيست، في حال استمرت الأحزاب الحريدية في مقاطعة التصويت أو الامتناع عن دعم مشاريع القوانين التي يقدّمها الائتلاف. وهكذا، فإن محاولات نتنياهو لإدارة الأزمة، بدل حلّها، قد تفتح الباب أمام مرحلة جديدة من عدم الاستقرار السياسي.

يبقى الاختبار الحقيقي للتحالف الحكومي والأحزاب الحريدية في موعد طرح مشروع ميزانية الدولة لعام 2026 مطلع العام المقبل. فإذا لم تُحلّ معضلة إعفاء طلاب المعاهد الدينية من الخدمة العسكرية قبل ذلك الموعد، فإن الائتلاف الحاكم سيجد صعوبة في تمرير قانون الميزانية، وهو ما يعني تفكّك الحكومة تلقائياً وفقاً للقانون الإسرائيلي.

وفي حال تعذّر إقرار الميزانية، فستُحدَّد الانتخابات العامة المبكرة خلال فترة أقصاها ستون يوماً من نهاية مارس/آذار 2026، حتى نهاية أيار/مايو 2026، ما لم يتوصّل الائتلاف والمعارضة إلى اتفاقٍ على موعدٍ آخر، لا يتجاوز تسعين إلى 120 يوماً بعد نهاية مارس. وبذلك يُرجَّح أن تُجرى الانتخابات البرلمانية الإسرائيلية المقبلة في النصف الأول من 2026.

ويرى بعض المراقبين أن هذا السيناريو قد يكون في الواقع ما يسعى إليه نتنياهو نفسه؛ إذ يمكن أن يستفيد من حلّ الكنيست والذهاب إلى انتخابات مبكرة لإعادة ترتيب التحالفات السياسية من موقع المبادِر، ولتحويل أزمة التجنيد وتدخل المحكمة العليا، من عبء حكومي إلى ورقة انتخابية في معركته المقبلة على البقاء السياسي.