العدد 1640 /27-11-2024

لا يتوقف الاحتلال عن ممارسة شتى أنواع الإبادة ضدّ السكان المدنيين في قطاع غزّة، فهو لا يكتفي بقصفهم بأطنانٍ من الصواريخ والقذائف، ولا تثنيه المجازر، التي باتت سلوكًا يوميًا يمارسه وقتما شاء وكيفما شاء، من دون رقيبٍ أو حسيبٍ، بل يمتد الأمر الآن إلى فرض سياسات تجويعٍ وحرمانٍ من أبسط المطالب/الحاجات الآدمية، من طعامٍ وغذاءٍ، ضاربًا، كعادته، عرض الحائط الاتّفاقات الدولية والإنسانية كلّها، وكلّ ما نصت عليه قوانين جنيف في حالات الحروب وغيرها.

ليست العملية الممنهجة هذه وليدة الصدفة، بل هي ناتجةٌ عن قراراتٍ سابقةٍ، بدأت تظهر نتائجها على أرض الواقع في شمال غزّة وجنوبها على حدٍّ سواء، مئات الشاحنات المتكدسة على طول المعابر، لا يدخل منها غير العشرات منذ شهورٍ، وهو عددٌ لا يكاد يروي ظمأ المدينة، التي يعلم الاحتلال جيدًا أنّ احتياجاتها اليومية تتطلّب 400 شاحنةٍ على الأقلّ، حسب تقديرات الأمم المتّحدة. لكن تغلق إسرائيل المعابر في أيّامٍ كثيرةٍ، ما يتسبب، على المدى البعيد، بحالةٍ من الجوع، بدأ صوتها يعلو شيئًا فشيئًا في الأيّام الجارية، هنا يكاد الكاتب يجزم أنّ هدف سياسة التقطير، التي يتبعها الاحتلال في عمله الممنهج هذا، كسر إرادة الشعب أولًا، ومن ثمّ استخدامها ورقةً للضغط من أجل الوصول إلى تسويةٍ، أو توقيع اتّفاقٍ لاحقًا.

أدت سياسة التجويع المتعمدة إلى تفاقم الحالة الإنسانية في قطاع غزّة، خصوصًا بعد تدمير القطاع الزراعي تدميرًا كاملًا، فالأسواق في قطاع غزة خاويةٌ على عروشها، لا تكاد تجد بها شيئًا تأكله، فإذا ما أخذت جولةً في أسواق المدينة، المُنهكة، لن ترى أيّ نوعٍ من الخضار أو الفاكهة، ولا يوجد أيّ صنفٍ من أصناف اللحوم منذ ما يقارب الشهرين، وقد بات جل سكان القطاع يعتاشون على المعلبات، من الفاصولياء والبازيلاء والفول فقط لا غير، ولم يقتصر الأمر على ذلك فقط، بل طاول كسرة الخبز في أيدي الأطفال، وذلك بعد نفاذ الطحين من بيوت الناس، وأصبح ثمن الكيس الواحد منه يقارب المئة دولار، هذا إن وجد، ولك أن تتخيل أن عدد المخابز، التي تعمل على تلبية حاجة مليوني مواطن في غزّة هي ثمانية مخابز فقط!.

شيئاً فشئياً جعلت هذه الإجراءات التعسفية، التي يضرب بها الاحتلال الإسرائيلي بسوطه على بطون السكان في غزّة، من صوت الجوع يعلو على صوت الموت، فكما تظهر التقارير يعاني معظم الغزّيين الآن من نقصٍ حادٍ في التغذية، وبعضهم يعيش على وجبةٍ واحدةٍ يوميًا، وأصبح الحصول على الطعام الكافي حلمًا يراود الكثيرين، الأمر الذي انعكس سلبًا على الأطفال، فهم بحاجةٍ إلى تغذيةٍ خاصّةٍ لا يجدونها، ووجباتٍ صحيةٍ لا يمكنهم نيلها، ناهيك عن المرضعات من النساء وكبار السن.

في ظلّ حجم احتياجات القطاع الهائلة، والعقبات التي يفرضها الاحتلال، والصعوبات اللوجستية التي تؤخر وصول المساعدات، والحالة الحرجة التي وصل إليها قطاع غزّة، يحتاج القطاع برأيي الكاتب إلى أكثر من مساعدات طارئة، فهو يحتاج إلى أن يقول العالم كلمته في وجه هذا الظلم البشع، إذا كانت المنظّمات الأمميّة والعالمية لا تستطيع وقف الحرب، فلتقف عند مسؤولياتها، وتنهِ هذه الحالة من البلادة العالمية، فلا يعقل أن يموت الناس من القصف، ومن الجوع أيضًا، فإنّ كانت الغاية من تجويع الغزيين كسر إرادتهم، والتلويح بتجويعهم ورقةً للضغط على طاولة المفاوضات، فإن ذلك لن يجدي نفعًا، وإسرائيل تعلم ذلك جيدًا، أما إنّ كان الهدف منها استمرار مسلسل الإبادة، الذي ينفذه الاحتلال، فنحن هنا لنقول له "بأن محاولاته هذه ستذهب أدراج الرياح، ولن تفلح معنا في شيءٍ"، فلطالما ابتكرت غزّة طرقاً لصمودها، ويمكن أن يرى الاحتلال هذا في عيون الأطفال، الذين يلعبون وسط الخيام، وضحكاتهم التي تتحدى القذائف والموت، وفي محاولة الأمهات طهو الطعام بأبسط الإمكانيات، هذه القدرة المُذهلة على التكيف ليست عاديةً، بل هي دليلٌ صارمٌ على إرادة الحياة، التي تملأ قلوبهم ورغبتهم في الحياة، ودليلٌ على تمسكهم بالأمل رغم الصعاب كلّها، فلطالما كان الغزّي عنيدًا عصيًا على اليأس، متمسكاً بأمله وحقّه في الحياة، فالاستسلام ليس خيارًاً بالنسبة له.