العدد 1684 /8-10-2025
يوسف أبو وطفة
أنهت حرب غزة عامها الثاني على التوالي، وسط عدوان
لا يزال مستمراً في مدينة غزة، قلب القطاع ومقره الإداري، بينما يسعى الاحتلال
الإسرائيلي للسيطرة على هذه المدينة بذريعة يقول إنها مرحلة حسم الحرب ضد حركة
حماس. لكن على أرض الواقع يبدو خياره الأول هو التدمير، ما ينعكس بتكثيف قواته
عمليات نسف وتفجير واستهداف المنازل والبنية التحتية. على مدى حرب غزة المتواصلة،
سعى الاحتلال لفرض مجموعة من الخطط والمشاريع التي تعيد ترتيب شكل الإدارة
الداخلية للقطاع، تفكيك النظام السياسي والاجتماعي فيه، بما يضمن القضاء على حكم
حركة حماس. ولعل من أبرز ما طُرح لتنفيذ هذا الهدف، هو ما عرض في بداية حرب
الإبادة على القطاع؛ أي فرض الحكم العسكري على غزة، إلا أن هذه الفكرة لم تلق
رواجاً كبيراً لدى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أو المؤسستين الأمنية
والعسكرية. وبدا الرفض الإسرائيلي الرسمي لهذه الفكرة مرتبطاً بعوامل أبرزها
اقتصادية، كون التكلفة الاقتصادية ستكون مرتفعة للغاية، إلى جانب التداعيات
الأمنية والعسكرية وحالة الاحتكاك الدائم مع السكان في غزة، حال تنفيذ الحكم
العسكري. في أعقاب ذلك طرح الاحتلال مجموعة من الأفكار التي طبق عدداً منها على
أرض الواقع، يرصدها "العربي الجديد" مع تداعياتها، أهمها: الفقاعات
الإنسانية والتهجير وحكم العشائر والعائلات والمليشيات المسلحة.
التهجير: هدف الاحتلال الأساسي
سعى الاحتلال منذ اليوم الأول للحرب على غزة إلى
تهجير سكان القطاع، وهو ما بدأ به في 14 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، من خلال أوامر
إخلاء للسكان ودعوتهم للتوجه إلى مناطق جنوب وادي غزة ومحاولة إقناعهم بأن مناطق
غزة وشمال القطاع خطيرة. مارس الاحتلال خلال هذه العملية كل أساليب الضغط من خلال
وقف إدخال الأدوية والمستلزمات الطبية إلى مناطق غزة وشمالها، فضلاً عن منع وصول
الطعام والتسبب في مجاعة استمرت لفترة طويلة في الفترة ما قبل اتفاق وقف إطلاق النار
في يناير/كانون الثاني 2025. كثيراً ما ردد نتنياهو ووزراء حكومته شعارات تدعو
لتهجير السكان سواء بشكل طوعي أو قسري إلى خارج قطاع غزة، غير أن الفكرة لم تلقِ
قبولاً لدى الكثير من الدول التي تحفظت أو رفضت الفكرة بشكل قاطع.
في هذا الصدد يقول الباحث في الشأن السياسي، محمد
الأخرس، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن "قضية تهجير سكان غزة ليست
هدفاً هامشياً يتبناه عدد محدود من وزراء حكومة نتنياهو، بل تمثل هدفاً إسرائيلياً
يتجاوز الحكومة الحالية للحكومات الإسرائيلية المتعاقبة التي لطالما سعت لتهجير
سكان القطاع بالاعتماد على الأدوات التي كانت متاحة لديها"، موضحاً أن
"هذا ما كشفته وثائق حكومية إسرائيلية أخيراً. ويضيف الأخرس أن حرب غزة
الحالية "تعد مختلفة بكل المقاييس، بسبب طبيعة الاستراتيجية الإسرائيلية التي
اعتمدت القتل الممنهج والتدمير لكل مقومات الحياة"، مبيّناً أن مساعي
الاحتلال "كانت واضحة منذ الأسابيع الأولى للحرب في مسألة التهجير، وهو ما
كشفت عنه وثيقة وزارة الاستخبارات الإسرائيلية".
وفق الأخرس، فإنه طيلة شهور حرب غزة "استهدفت
العمليات العسكرية (الإسرائيلية) تدمير البنية الحضرية في كافة أرجاء القطاع، فيما
تعمّد الاحتلال استهداف المنشآت الطبية والتعليمية والحكومية وكل ما يمكن أن يعزز
الصمود لدى المجتمع الفلسطيني، كما استهدف النسيج الاجتماعي والبنية الحكومية
والأمنية لإشاعة الفوضى". وفي رأيه، حتى إذا فشل الاحتلال بـ"التهجير
القسري"، فإنه لا يزال يسعى للتهجير الطوعي "من خلال دفع الناس للخروج
من القطاع تحت وطأة تفاقم الأزمة الإنسانية"، مشيراً إلى أن "العملية
العسكرية في مدينة غزة تمثل أحد وجوه الجهد الحربي الإسرائيلي لدفع الفلسطينيين
للتمركز في جنوبي القطاع". ويقول إنّ "الجهد الإسرائيلي يمكن أن يتواصل
في حال توسعت العملية للمنطقة الوسطى بعد ذلك".
حكم العشائر: محاولة لنظام محلي
لجأ الاحتلال إلى العشائر في خيار أولي لإقامة
نظام محلي متعاون، وذلك بعد انحساره داخل محددات نتنياهو التي تَمسَّكت برفض أي
حكم وطني فلسطيني، والمُصاغة بصيغة "لا حماس ستان، ولا فتح ستان"، أي
أنه لا يقبل حكماً حمساوياً أو فتحاوياً، بما في ذلك عودة السلطة الفلسطينية للحكم
في قطاع غزة. غير أن الاحتلال فشل طيلة العامين الماضيين من حرب غزة في تحقيق هذا
المخطط، ولم يلقِ أي تعاون من قبل العشائر كما كان يطمح، أي بوتيرة شاملة تؤثر على
شكل الحكم في غزة أو تغيّر الحالة السياسية في القطاع، إذ حظي المشروع برفض شعبي
ورسمي فلسطيني واسع.
يقول مدير مركز عروبة للأبحاث والدراسات
الإستراتيجية، أحمد الطناني، لـ"العربي الجديد"، إن "الاحتلال اتجه
للعمل مع العشائر وفق قاعدتين: الأولى أن هذا التوجّه ينسجم مع رؤية اليمين
الإسرائيلي، وخصوصاً مع طروحات (وزير المالية) بتسلئيل سموتريتش". فقد أشار
سموتريتش، وفق الطناني، في رؤيته لحسم الصراع إلى أن "المسار الأفضل لحكم
الفلسطينيين هو عبر التمثيل العشائري داخل معازل جغرافية تُبدِّد الهوية
الفلسطينية الجامعة، وتُسهِم في السيطرة على الفلسطينيين الرافضين للتهجير".
أما القاعدة الثانية فهي "اللعب على وتر التناقض بين بعض المكوّنات العشائرية
وحكم حركة حماس، على خلفية دور الأخيرة في ضبط السلاح المنفلت لدى بعض العشائر في
السنوات الأولى من حكمها (2007)، وما رافق ذلك من حملات أمنية مكثفة لفرض السيطرة الأمنية".
ويشير إلى أن هذا التوجّه اصطدم خلال حرب غزة
بمجموعة من عوائق رئيسية، مرتبطة "أولاً ببيئة القطاع، وثانياً بالموقف
الوطني للمكوّنات المجتمعية الرافض للتعامل مع الاحتلال، فضلاً عن أن الغالبية
الكبرى من التركيبة السكانية هم من اللاجئين وسكان المخيمات". وبالتالي وفق
الطناني، فإن السكان المستهدفين "منقسمون على حمولات عائلية صغيرة ولا يعيشون
ضمن تكتلات عشائرية واسعة، بل موزّعون على أنحاء القطاع من شماله إلى جنوبه، ما
يجعل المشهد السكاني غير مُهيَّأ لتشكيل توجه عشائري موحّد".
يرى الطناني أن "الوازع الوطني في القطاع
رادع تاريخي أمام أي مكوّن قد يفكِّر في التعاون مع الاحتلال"، موضحاً أن
"التعامل مع المحتل يُعدّ وصمة لا تُمحى تمتد عبر الأجيال، وتُعرّض أبناء
الحمولات العائلية للنبذ الاجتماعي، ما يخلق رادعاً وجدانياً لدى الغالبية العظمى
من مكوّنات المجتمع". ويعتبر أن "محاولات الاحتلال فشلت بإغراء العشائر
الكبيرة بالانخراط في مخططاته عبر بوابة وجوه العائلات، حتى الابتزاز الإنساني لم
يُثمر". ويلفت إلى أنه خلال حرب غزة الحالية "خُيّرت عدّة عشائر في شمال
غزة، إبان اشتداد الحصار والتجويع في الشهور الأولى من الحرب، بين قبول استلام
المساعدات مباشرة من جيش الاحتلال أو الإبقاء على قوتها، فاختارت هذه العشائر
الخيار الأخير ورفضت العرض".
الفقاعات الإنسانية: أصابع شارون
مع فشل الاحتلال في عدة مشاريع سابقة ظهر ما يعرف
بـ"الفقاعات الإنسانية" (مناطق إنسانية معزولة ومنفصلة عن المناطق
الرئيسية في القطاع) أو أصابع شارون بمثابة خيار بديل سعى لتطبيقه في مناطق مثل
شمالي القطاع، تحديداً خلال عملية "خطة الجنرالات" (التهجير والحصار) أو
ما سبقها من عمليات عسكرية في مناطق الشمال. وتعود الخطة إلى ملامح خطة سابقة سعى
رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرئيل شارون لتطبيقها في حقبة زمنية قديمة (1971)،
وتعتمد على عزل المناطق الفلسطينية عن بعضها البعض والسيطرة عليها عسكرياً ومدنياً
بحيث يسهم ذلك في منع تحكم حركة حماس بالسكان.
ويرى الكاتب والمحلل السياسي، إياد القرا، في حديث
لـ"العربي الجديد"، أن هدف خطة "الفقاعات الإنسانية" التي
جاءت ضمن الوسائل التي سعى الاحتلال لاستخدامها خلال حرب غزة "تحقيق هدف
التهجير عبر وضع الفلسطينيين في مناطق مخنوقة ومحاصرة"، بالإضافة إلى
"فرض السيطرة على الفلسطينيين والتحكم بهم إنسانياً واجتماعياً وأمنياً مع
تقديم بعض الخدمات الإنسانية فيها تحت بند إعادة الإعمار". وفي رأيه فإن
"الاحتلال سعى إلى توفير بعض السيطرة على الفقاعات، تحديداً في المناطق
الشرقية من هذه الأماكن (على طول الحدود الشرقية للقطاع)، عبر السيطرة عليها
بواسطة عصابات ومليشيات واستغلال الحاجة الإنسانية للسكان لتحقيق ذلك". ويلفت
إلى أن الخطة الأخيرة للرئيس الأميركي دونالد ترامب، "امتداد لهذه المشاريع
تحت بند إنساني وتحقيق هدف التهجير الذي لا يزال الاحتلال الإسرائيلي يطمح في
تحقيقه"، مؤكداً أن مشروع الفقاعات فشل حتى الآن".
المليشيات والعصابات: نموذج للفوضى والسيطرة
المشروع الآخر الذي سعى الاحتلال لفرضه خلال حرب
غزة كان "المليشيات والعصابات"، كما جرى في منطقة شرق رفح، جنوبي
القطاع، في بداية الأمر حينما استعان بأحد المتعاونين معه وهو ياسر أبو شباب.
وتعمّد أبو شباب استهداف عناصر محسوبة على حركة حماس والمقاومة الفلسطينية إلى
جانب محاولة خلق نموذج محلي تابع له بتغطية وإشراف إسرائيلي على المشروع يستهدف من
خلاله تحقيق نموذج حكم مختلف. وسعى الاحتلال لتشكيل عدة نماذج تركز الكثير منها في
المناطق الشرقية، مثل شرق الشجاعية ومناطق شرق شمالي القطاع، ما قابلته الأجهزة
الأمنية الفلسطينية وفصائل المقاومة بعمليات إعدام للمتعاونين مع هذه المشاريع.
الرؤية الإسرائيلية لحسم حرب غزة
من جهته، يقول الباحث والمختص في الشأن
الإسرائيلي، سليمان بشارات، إن "الاحتلال حينما ذهب نحو الحرب بعد السابع من
أكتوبر 2023، وجد أن هناك بيئة حاضنة للمقاومة الفلسطينية وذهب نحو خطط تستهدف
فكفكة البنية التحتية والبيئة الحاضنة للمقاومة". ويضيف بشارات، في حديث
لـ"العربي الجديد"، أن "الاحتلال عمد إلى استهداف كل مقومات
الحياة، مثل المياه والقطاع الصحي والتعليمي واستهداف الرموز المجتمعية والسياسية
والفكرية من أجل إحداث فجوة في شكل وطبيعة القواعد الأساسية التي تبقي على الحالة
المجتمعية كما هي في القطاع".
اعتقد الاحتلال بعد ذلك، وفق بشارات، أنه يمكن خلق
نموذج وسلوك جديد في المجتمع الفلسطيني والتركيبة السكانية في غزة، سواء على
التركيبة العائلية تارة أو التركيبة الجماعية، لذلك "ظهرت فئة تجار الحرب
وغيرها من الظواهر". ويشير إلى أن "الاحتلال سعى لخلق نمط مساعد ومتعاون
حتى يجعل المواطن الفلسطيني يبدأ بفقد الثقة في نفسه والوثوق في الاحتلال وتحويل
الإنسان غير فرد قادر على استشعار الأمان، وهو ما انعكس من خلال استهداف المجموعات
الشرطية والأمنية".
وبحسب بشارات فإن المنظور الإسرائيلي للمشاريع
والمخططات، يتمثل بأنه استطاع خلق نماذج متعاونة معه، بالرغم من أن هذه النماذج
غير قوية ولم تحقق الهدف المرجو منه، وسعى للترويج لها من خلال تسليط الضوء عليه
مثل "نموذج أبو شباب". ويبيّن أن أحد الأهداف التي سعى الاحتلال
لإيصالها من خلال هذه المشاريع هي إيصال رسائل لجمهور المستوطنين بالقدرة على حسم
الحرب وخلق نماذج جديدة في غزة مخالفة للحالة التي كانت قائمة قبل حرب الإبادة عام
2023.