العدد 1691 /19-11-2025
عبد الباسط سيدا
نحتفي، بعد أيام،
بالذكرى الأولى لخلاص الشعب السوري من استبداد سلطة آل الأسد وفسادها، ففي 8
ديسمبر/ كانون الأول وصلت قوات هيئة تحرير الشام والفصائل المتحالفة معها إلى
دمشق، وكان بشّار الأسد قد هرب قبل وصولها مع أعوانه المقرّبين، وكان ذلك مصدر فرح
غامر لا يُوصف لغالبية السوريين الذين ضحّوا وتحمّلوا وصبروا، ليجدوا أنفسهم
أحراراً بعد أعوام طويلة من المعاناة القاسية بكل الأشكال. وفي هذه المناسبة،
يتساءل كثيرون، والسوريون في مقدّمتهم، عن حجم ما تحقّق وأهميته حتى اللحظة، وعمّا
إذا كان يرتقي إلى مستوى التضحيات والتوقّعات، كما يسعى هؤلاء إلى معرفة طبيعة
التحدّيات والهواجس التي تعرقل، وتستوجب المعالجة.
ملاحظ أن النهج
الذي تعتمده إدارة الرئيس أحمد الشرع (حتّى الآن) يتمحور حول الحرص على تأمين
الشرعية الدولية، لتكون المدخل إلى الشرعنة المحلية الداخلية وسنداً لها. وهذه
معادلة ملتبسة، مختلّة في معظم الأحيان، قد تؤدّي إلى تقوية السلطة وتعزيزها،
ولكنّها لن تؤدي إلى بناء الدولة المتوازنة المُحصَّنة العادلة. دولة مؤهّلة
لمقاربة المشكلات، ولديها الرغبة والقدرة على إيجاد الحلول لصالح الجميع. دولة
قادرة على طمأنة السوريين عبر تبديد الهواجس بالأفعال، وليس بالأقوال والمجاملات
العامة غير المُلزِمة، التي تعني كل شيء في عالم الكلام، ولكن لا تقدّم شيئاً
ملموساً في عالم الواقع. لدى السوريين بصورة عامة هواجس وتوجّسات بشأن المستقبل.
لديهم خوف من المجهول المنتظر إذا ما استمرّت الأمور في منحاها الحالي. يخشون من
عودة الدكتاتورية بلون آخر، أو تحت مسمّى مُغاير، فما يرونه من تحكّم الشيخ
بقرارات الوزير والمدير العام ومسؤول الدائرة، يذكّرهم بضابط الأمن أو عناصره في
السلطة البائدة، الذي كان الآمر الناهي في المؤسّسة المكلّف بضبطها، بموجب أوامر
غير خاضعة للتراتبية الوظيفية.
ما يسمعه
السوريون اليوم عن صلاحيات الهيئة السياسية وتشعّباتها يذكّرهم بتغلغل الأجهزة
الحزبية والأمنية في مختلف زوايا دوائر حكم السلطة الأسدية ومفاصلها، أما الحديث
عن غياب الشفافية في موضوع الصفقات والمشاريع الاقتصادية، وعدم وجود التشريعات
الواضحة المُعلَنة التي تبيّن الحدود والحقوق الخاصة بالأطراف المعنية، فيثير
كثيراً من القيل والقال، ويدفع السوريين نحو التحسّب لحالات فساد متوقّعة، هذا ما
لم تكن هناك آليات واضحة شفّافة صارمة للمساءلة والمحاسبة. ولكن الأمر الذي يستوقف
أكثر من غيره غياب مؤشّرات توحي بوجود خطة متكاملة لترميم النسيج المجتمعي الوطني
السوري. هذا النسيج الذي أفسدته السلطات العسكرية، خصوصاً سلطة آل الأسد وبطانتها
التي أخذت البلاد والعباد رهينةً أكثر من نصف قرن، وتعرّض هذا النسيج بعد سقوط
السلطة الباغية، المجرمة، لمزيد من التمزّق بعد الحوادث والانتهاكات العنيفة
المؤسفة التي شهدتها منطقتا الساحل والسويداء، وتسبّبت في سقوط ضحايا من مختلف
الأطراف، وأدّت إلى جروح عميقة في الجسد السوري، لن تكون معالجتها سهلة من دون
ركائز تؤكّد حضور إرادة فعلية للمعالجة.
الذاكرة السورية
الجمعية متخمة بكل ما هو مأساوي جرّاء اقترافات السلطات الثورويّة، وهي السلطات
التي فرضت نفسها بقوة السلاح والأجهزة القمعية والصفقات مع القوى الدولية، ورفعت
شعارات كبرى لدغدغة المشاعر والتجييش الشعبوي لصالح المشروع السلطوي. أما السلطة
الأسدية فقد اعتمدت تكتيكات استهدفت، في المقام الأول، القضاء على أيّ احتمالية أو
إمكانية لتشكّل بديل أفضل. لذلك اعتمدت أسلوب فرض التدجين على الأحزاب السياسية
بمختلف الوسائل، ومارست سياسةً قمعيةً دمويةً وجوديةً مع الأطراف التي تمرّدت على
التدجين، واستغلّت الحساسيات والنزعات الطائفية والقومية والمناطقية لتشغل
السوريين بالهواجس المصطنعة، لتتفرّغ هي للتحكّم الشمولي بالدولة، وبالمجتمع
ومصائر الأفراد. وكانت ثورة السوريين، من مختلف الانتماءات والتوجّهات وفي سائر
الجهات، النتيجة الطبيعية لتراكمات استبداد سلطة آل الأسد وفسادها. واليوم، لا
يمكننا أن نقول إن أهداف تلك الثورة قد تحقّقت ما لم يجرِ القطع النهائي مع سياسات
السلطة الأسدية وممارساتها، عبر طمأنة السوريين جميعاً من دون أيّ تمييز، وتعزيز
ثقتهم بمستقبل أفضل لهم ولأجيالهم المقبلة.
السوريون اليوم
بأمسّ الحاجة إلى الأمن والأمان، وإلى الحدّ الأدنى الممكن من مقوّمات العيش
الكريم. ولكن الذي يشغل بالهم أكثر من غيره مستقبل العلاقة بين المكوّنات
المجتمعية السورية، لأنّ ما جرى على صعيد الممارسات والخطاب لم يؤدِّ سوى إلى
الكوارث. ولن تجري معالجة هذا الوضع بالجمل الإنشائية الخالية من أيّ مضمون واقعي،
ولا بأشباه الحلول، وإنما بتدابير فعلية ملموسة على أرض الواقع تنمّ عن نيّة
صادقة، وإرادة جادّة، وخطة متكاملة، لتعزيز الثقة عبر معالجة الأخطاء معالجةً
جذريةً، تسدّ الطريق أمام أيّ احتمالية لحدوثها مرّة ثانية.
هناك خوف مُركَّب
ثلاثي الأبعاد يهيمن على السوريين. خوف عام يتمحور حول مصير البلد في ظلّ
المتغيّرات الإقليمية العنيفة والصراعات المفتوحة والمبطنة بين القوى الإقليمية
التي تريد ضبط المعادلات الجديدة التي تلوح في الأفق لصالحها. هذا إلى جانب
الصراعات بين القوى الدولية الكبرى التي تدرك أنها على أبواب مرحلة جديدة على
مستوى الأدوار والعلاقات الدولية. ولذلك تحاول كل واحدة منها أن تحسّن مواقعها
التفاوضية بامتلاك الأوراق القوية على صعيد المواقع والإمكانات. وليس سرّاً أن
سورية هي في قلب الصراعات الإقليمية والدولية لأسباب كثيرة، في مقدّمتها الموقع
والتركيب السكّاني. ولكن إلى جانب هذا الخوف العام هناك خوف جمعي يخصّ المكوّنات
المجتمعية السورية جميعها، بعيداً من مصطلحَي الأكثرية والأقلية على صعيد الحجم
العددي، فالخطاب الطائفي المقيت، والعنصري البغيض، والاحتكاكات، بل والاشتباكات،
المستمرّة في وسائل التواصل الاجتماعي، وعبر البرامج التلفزيونية المحلية
والعربية، وانتقال العدوى إلى المَهاجر، بالإضافة إلى الحوادث التي جرت، والخشية
من تجدّدها بهذه الصيغة أو تلك... ذلك كلّه يدفع السوريين نحو التمترس بالولاءات
ما قبل الوطنية بعد فقدان الثقة بالشركاء المفروضين في الوطن والمصير. ويبقى الخوف
الفردي الذي يتجلّى في الخشية من ممارسة حقّ التعبير عن الرأي وممارسة النقد، وحقّ
الاجتماع والتنظيم، والمشاركة الفاعلة في نشاطات الفضاء العام، والحريات
الشخصية... وغير ذلك.
ولتحرير السوريين
من مُركَّب الخوف ثلاثيّ الأبعاد هذا، بكلّ عقده وترسّباته ومضاعفاته، هناك حاجة
ضرورية إلى تفعيل تواصل حقيقي منتج في ما بينهم. تواصل يقوم على الصدق والثقة
المتبادلة والحرص على وحدة الوطن والشعب والقطع مع عقلية الاحتكار والإبعاد؛
فعملية بناء الدولة الوطنية المتوازنة العادلة الجامعة، في مجتمع متنوّع بطبيعته
كالمجتمع السوري، لا يمكن أن تُنجز من دون مشاركة حقيقية من الجميع، والمشاركة من
خلال فتح الفضاء العام أمام الجميع؛ المنظمات والهيئات والمؤسّسات التي تجمع
السوريين، وتتيح لهم فرصة تبادل الآراء بحرية، ومناقشة مختلف القضايا الوطنية
بصورة تفصيلية بعيداً عن التهويل الشعبوي التمييعي، والإنشائية الخاوية، والتعميم
المدروس؛ والنزعة الاتهامية اللوّامة، واستغلال المظلوميات لحسابات خاصة.
هل ستدعو الإدارة
السورية الجديدة بمناسبة مرور عام على تسلّمها مهامّ إدارة الدولة إلى مؤتمر وطني
عام شامل جامع في بدايات العام المقبل؟ مؤتمر يشارك فيه ممثّلو سائر المكوّنات
المجتمعية والتوجّهات السياسية السورية على مدى أيام وأسابيع، بل وحتى أشهر إذا ما
اقتضى الأمر، لتبادل الآراء والأفكار والمقترحات بشأن ما كان، وما ينبغي أن يكون
ضمن حدود الإمكان على مختلف المستويات؟ أم ستستمر الإدارة في النهج عينه، وستواصل
حملة العلاقات العامة والدبلوماسية مع العالم الخارجي، من دون أن تأخذ بالاعتبار
الواقع السوري الداخلي الذي ينوء تحت ثقل الخوف المُركَّب بأبعاده الثلاثة؟
السوريون في حاجة
إلى تبديد الهواجس، وتعزيز الثقة، ويتحقّق ذلك عبر توافقات وطنية صريحة على شكل
الدولة ونظامها، والعلاقة بين الدولة ومواطنيها؛ والإقرار بالخصوصيات والحقوق،
بعهود مكتوبة تلتزم بوحدة الوطن والشعب. ومن دون هذا ستستمرّ المناكفات، وسنظلّ في
دوّامة الفوضى التي استهلكت حتى الآن كثيراً من الوقت والجهد والمال، وحتى
الأرواح، بكلّ أسف! ولن تتبلور ملامح المطلوب المنتظَر من سائر السوريين، هؤلاء
الذين تحمّلوا كثيراً؛ ومن حقّهم بعد كل ما حصل أن يشعروا بأنهم قد باتوا في أمان،
وفي بلد آمن ترعاه دولة تطمئن الجميع.