العدد 1662 /7-5-2025
رانيا مصطفى
كلُّ المشكلات معقَّدة ومركَّبة ومتداخلة في سورية، وهي تمرّ
في مرحلة انتقالية شديدة الخطورة، فهناك الدمار والتقسيم الجغرافي، واستنزافٌ بشري
وفقر، وملايين المهجّرين في الداخل ودول الجوار، وانقسام مجتمعي حادّ طوال سنوات
الصراع وعلى أساس هُويَّاتي، إذ وصلت إلى الحكم جماعةٌ لها ماضٍ جهادي تتعثّر في
خطواتها الأولى للسيطرة على الحكم، وعقوباتٌ أميركية ودولية، والأخطر، تدخَّلاتٌ
خارجية بالجملة، واعتداءات إسرائيلية مستمرّة بقصف كلّ المواقع العسكرية، وتدمير
ما تبقّى من عتاد، واحتلال شريط عريض في المناطق الحدودية يتجاوز خطوط فضّ
الاشتباك لعام 1974، وقصف مستمرّ بحجّة حماية الدروز، شمل يوم الجمعة الماضي محيط
دمشق، وبالقرب من قصر الشعب، في انتهاكٍ فاضحٍ للسيادة الوطنية.
في ظلّ هذا التعقيد، تضيع سردية التجييش الطائفي أخيراً ضدّ
الدروز، والتصعيد العُنفي المرافق له، بين أن يكون المُسبّب ظهور تسجيل صوتي مجهول
المصدر يسيء لمقام النبي محمد عليه الصلاة والسلام، نُسب إلى أبناء السويداء،
ومطالباتٍ للدروز بتسليم سلاحهم الخارج عن القانون وتخوينهم. وجاءت الاعتداءات
الإسرائيلية أخيراً بغرض تعقيد هذا المشهد الطائفي. نشرت حساباتٌ في مواقع التواصل
الاجتماعي، مقرّبة من الحكومة، التسجيل الصوتي المسيء، بقصد التحريض الطائفي على
الدروز، بعد الاعتداء على طلاب من السويداء في جامعة حمص وإجلائهم، ثمّ جاء الهجوم
على شكل غزواتٍ وفزعاتٍ على الحواجز الأمنية في جرمانا، المؤلّفة من مقاتلين دروز
منضمّين إلى جهاز الأمن العام، فسقط شهداء، وانتقل التصعيد بالطريقة نفسها إلى
صحنايا ثمّ السويداء. جرت التهدئة في جرمانا وصحنايا والسويداء، وتوقّف التصعيد
ضدّ الدروز في صفحات التواصل الاجتماعي بعد خسارة كبيرة ومجّانية في الأرواح. وهذا
يحيل إلى التساؤل عما إذا كان المقطع الصوتي المسيء حجّة للضغط على الدروز في
المناطق كلّها للخضوع الكامل وتسليم السلاح، خاصّة في السويداء، حيث ينشط حزب
اللواء، وما يعرف بالمجلس العسكري، اللذان يطرحان إدارةً ذاتيةً للمحافظة، رغم أن
هذه القوى لا تسيطر على المشهد المسلّح في السويداء، تُضاف إلى ذلك محاولة شيخ
العقل حكمت الهجري تصدّر المشهديْن السياسي والاجتماعي، وتصعيد شروطه تجاه
الحكومة، وصولاً إلى طلبه الحماية الدولية.
رغم مكانة الهجري الاجتماعية الكبيرة كأبرز شيوخ الطائفة، لا
يصطفّ كلّ الدروز وراءه، ولا وراء أحدٍ آخر، كما أنّ التوجّهات الانفصالية مرفوضة
عموماً، وبالتأكيد من المعيب تبنّي أيّ خطاب تخويني تجاه أبناء الطائفة، وتجاه أيّ
طائفة أخرى. طوال السنة ونصف السنة من انتفاضتها ضدّ نظام الأسد، لم تنزلق
السويداء إلى منزلقات طائفية أو انفصالية، ورفضت مشاريع الإدارة الذاتية، وأيّ
مشاريع تدخّلات خارجية، رغم وجود تلك الطروحات كلّها، وظلّت تتظاهر ضمن خطاب وطني
عام، مع وجود قوى وتوجّهات مختلفة، وهذا طبيعي، وكلّها مدنيّة الطابع، وظلّت مهمّة
السلاح حماية أمن المحافظة، ولم يحصل أن استُخدم في انتهاكات فاضحة ضدّ مناطق
أخرى، وهذا لا ينفي إمكانية حصول تجاوزات. وبعد سقوط نظام الأسد، كان التوجُّه
العام ضمّ سلاح الفصائل إلى الدولة، وجرى اتفاقٌ بهذا الخصوص، وكانت هناك أصواتٌ
وازنةٌ من المحافظة تُطالب بحصر السلاح بيد الدولة. تراجعت هذه المطالب بعد مجازر
الإبادة بحقّ السوريين العلويين في بعض قرى الساحل، بعد استخدام الحلّ الأمني،
بطريقة الفزعات والغزوات ذاتها، انتقاماً لحوادث التمرّد التي قام بها فلول النظام
البائد.
واليوم، بعد استخدام طريقة المعالجة الأمنية الطائفية نفسها
تجاه الدروز (انتهاكات لفصائل خارجة عن القانون، برّرها البيان الصحافي لوزارة
الداخلية بحجّة التسجيل الصوتي المسيء)، صار تسليم السلاح يعني استباحة الدروز تحت
أيّ حجّةٍ واهيةٍ، وصار من الطبيعي اللجوء إلى العصبيّات الدينية لحماية وجودهم،
في غياب خطّة واضحة لضبط كلّ السلاح المنفلت، وغياب رؤية سياسية وطنية تشرك كلّ
السوريات والسوريين في بناء دولتهم، وهنا بيت القصيد.
لم تتشكّل هُويَّة وطنية سورية، وما زلنا نعيش إرث النظام
البائد الذي استغلّ تناقضات المجتمع لمصلحة إدامة حكمه، وكانت خلاصة 14 سنة من
الثورة، التي انتهت إلى حروب، ظهور قوى أمرٍ واقعٍ متعدِّدة في كلّ مناطق النفوذ،
وتتشكّل على أسس عشائرية وعائلية ومناطقية، ولها مصالح مرتبطة بالسلطة والثروة
واقتصاديات النزاع، وبعضها تعمل ضمن الأجندة التركية، وأخرى تأخُذ مسافةً منها،
وتتنوّع في درجة تشدّدها الديني، وكانت كثيراً ما تنشب بينها معارك على تلك
المصالح في المعابر في الشمال السوري، ويقابلها مستفيدون من اقتصاد الحرب
والمخدّرات في مناطق النظام البائد، ولهم ارتباطاتهم العشائرية والطائفية، فضلاً
عن مشروع الإدراة الذاتية شمال شرقي سورية، حيث تستفيد منه بالآلية نفسها فئة
مرتبطة بــ"قوات سوريا الديمقراطية" (قسد).
من الاستسهال بمكان القول إن سبب المشكلة الأمنية والوطنية
في سورية الأقلّيات الدينية والعرقية. هي أزمة مركّبة ومعقّدة، ترتبط في جزءٍ منها
بأن شرعية الرئيس الشرع جاءت عبر مؤتمرٍ ذكوريّ لفصائلَ امتهنت العنف سبيلاً
للعيش، ويسعى قادتها إلى الحصول على حصصهم من الدولة السورية، وهناك فصائل
متشدّدة، بعضها من الأجانب، هم ضمن وزارة الدفاع، جنّدوا آلاف المقاتلين
المؤدلجين، ولهم مصالحهم، وطامحون إلى سيطرة جناحهم على القرار في السلطة، وهذه
الصراعات لا تخفى على أحد، في ظلّ ميل الشرع إلى التفرّد بالحكم عبر الخطوات
السياسية التي اتخذها. وربّما يأتي التجييش المدبّر ضدّ الأقليات في وسائل التواصل
الاجتماعي في ظلّ تأخّر الإعلام الرسمي، بقصد خلق عدو، وتفريغ عنف تلك الفصائل
بحروب الغزوات الدونكيشوتية.
بناء هُويَّة وطنية غير ممكن بالحلّ الأمني الطائفي، وقد
جرّبه نظام الأسد وفشل، وحتى لو ترافق مع قنوات تواصل سياسية للتهدئة وتطبيق
الاتفاقات. ما يحتاجه السوريون خطّة سياسية وطنية، وتوسيع المشاركة السياسية التي
ستقوّي شرعية الرئيس الداخلية، وتحصّن الدولة السورية من تقديم تنازلات كبيرة أمام
المجتمع الدولي مقابل الاعتراف بالحكم الجديد ورفع العقوبات، والتفكير جدّياً في
إخراج المقاتلين من دوائر اقتصاديات العنف، عبر شعورهم بأن الدولة الجديدة
ستنصفهم؛ خاصّة أن أغلب الشبّان المتطوعين في الفصائل وقوى الأمن العام هم من
أبناء المخيّمات أو المناطق التي دُمّرت، وهم الأكثر تضرّراً. هذا يحتاج إلى
الإسراع في تطبيق العدالة الانتقالية، وإلى أن تهدف السياسات الاقتصادية بوضوح إلى
تحقيق العدالة الاجتماعية، وأن تعطى الأولوية للمتضرّرين.