العدد 1688 /5-11-2025

في وقت يجتاح فيه الدمار الناجم عن القصف الإسرائيلي قطاع غزة بمختلف مناطقه، ولا سيّما في الشمال، يرى متخصصون أنّ إزالة الركام تُمثّل خطوة أولى في عملية إعادة الإعمار المرجوّة.

خلّفت الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة دماراً هائلاً، وقد استحالت أحياء بكاملها ومساحات واسعة من مدن القطاع ركاماً، وذلك على خلفية إلقاء قوات الاحتلال أكثر من 200 ألف طنّ من المتفجّرات على مدى أكثر من عامَين من الإبادة. وقد قُدّر حجم الركام الناجم عن هذه الحرب بنحو 70 مليون طنّ، ليكون شاهداً على واحدة من أبشع جرائم الإبادة، بحقّ البشر والحجر، التي ارتُكبت في التاريخ، والتي هُدم في خلالها نحو 90% من القطاع، وفقاً لتقديرات المكتب الإعلامي الحكومي في غزة.

وتواجه تحدياتٌ كثيرةٌ عمليةَ التعامل مع ركام غزة، ولا سيّما في ظلّ عدم توفّر معدات وآليات ثقيلة لإزالته، إلى جانب توقّف مصانع الإنشاءات وتدميرها. ومن ثم يمثّل الركام عائقاً أمام تنقّل الفلسطينيين أو محاولتهم إعادة الحياة إلى منازلهم وكذلك المناطق المدمّرة، بالإضافة إلى أنّ الوضع القائم يمثّل تهديدات صحية وبيئية بسبب انتشار القوارض في تلك المناطق. وفي حين لم تبدأ بعد عملية إزالة الركام بسبب منع الاحتلال إدخال المعدّات، تبدو واضحة للعيان حركة آليات الاحتلال وشاحناته التي تنقل الركام من مناطق في شرق قطاع غزة، ما زالت تسيطر عليها القوات الإسرائيلية، إلى الداخل الفلسطيني المحتل.

عند مدخل أحد الشوارع المتفرعة من شارع الصحابة بمدينة غزة (شمال) الذي تحوّل إلى سوق شعبي في خلال الحرب الأخيرة، يتكوّم ركام مبنى سكني قصفته قوات الاحتلال فيغلق الشارع. وهكذا لم يعد أهالي المنطقة قادرين على الدخول والخروج من الشارع إلا من خلال تسلّق الركام أو الالتفاف من خلال التحوّل إلى شوارع أخرى، علماً أنّ هذا يتطلّب منهم السير لمسافة 400 متر تقريباً. وما يُسجّل في هذه النقطة أمر يتكرّر في أحياء عديدة من مدينة غزة.

بخطى حذرة، كان محمد أبو عاصي يتسلّق التلّ الذي شكّله الركام، في محاولة للوصول إلى الجانب الآخر من الطريق. يقول الشاب الفلسطيني لـ"العربي الجديد": "نعاني كثيراً بسبب هذا الركام الذي يغلق الطريق. وبعدما كنت أستطيع بلوغ محلّنا بالسوق في ثوانٍ، أحتاج اليوم إلى الالتفاف واجتياز مسافة طويلة حتى أصل إلى المكان". يضيف أنّ "ثمّة أشخاصاً متقدّمين في السنّ ونساء لا يستطيعون تسلّق الركام فيضطرون بدورهم إلى الالتفاف"، مشيراً إلى أنّ "عائلات كثيرة تراجعت حركتها بسبب هذه المشكلة". ويتابع أبو عاصي: "كنت أذهب إلى البيت وأعود إلى المحلّ ما بين أربع مرّات وخمس يومياً، أمّا الآن فلا أستطيع القيام بذلك إلا مرّة واحدة"، لافتاً إلى أنّ هذه الالتفافات تجعل عملية توفير المياه صعبة جداً.

بالقرب من مفرق السرايا في مدينة غزة، تجد مجموعة من السكان نفسها معزولة خلف ركام برج "وطن" الذي دمّرته قوات الاحتلال. فهذا البرج الذي كان يتألّف من أكثر من عشر طبقات، سقطت الواحدة فوق الأخرى، أغلق الشارع الفرعي بالكامل بعد انهياره، وصار لزاماً على أهالي هذه المنطقة إمّا تسلّق جبل الركام الهائل، وهو أمر غير ممكن عند كثيرين، وإمّا تحويل طريقهم إلى شوارع أخرى عبر مسارات طويلة.

في مشهد آخر من المأساة نفسها، أغلق الركام المداخل الأربعة من مربّع سكني في شارع النفق، على مقربة من بركة الشيخ رضوان بمدينة غزة. ويؤكد مصعب العمري، من سكان المربّع، أنّ الدمار الكبير خلّف ركاماً هائلاً وأغلق الشوارع وحدّ من عودة الأهالي إلى المنطقة. ووسط ضعف الإمكانات وعدم توفّر معدات ثقيلة، لجأ العمري مع شبّان آخرين من الحيّ إلى المقدح أو المثقاب لتكسير سقف مبنى يغلق الطريق الواصل بين المربّع السكني وشارع النفق. ويعمل أبناء الحيّ يومياً لساعات طويلة، من أجل إحداث ثقوب صغيرة تساعدهم على تفتيت السقف من أجل التمكّن من فتح الطريق.

ويخبر العمري "العربي الجديد" أنّ "الدمار أغلق كلّ الشوارع المؤدية إلى المربّع السكني حيث أعيش"، مشيراً إلى أنّ "ثمّة مبانيَ مدمّرة ضخمة كانت تتألّف من سبع طبقات. وقد اجتمعنا، نحن شبّان الحيّ، ورحنا نحاول فتح الشارع حيث كميات الركام الأقلّ، وحيث يغلق سقف المبنى المدخل". وبيّن أنّهم استعانوا بـ"أدوات بدائية لتكسيره (السقف) وفتح الطريق، مع استمرار الاحتلال في منع إدخال المعدات الثقيلة إلى قطاع غزة". يُذكر أنّ الركام المشار إليه يعلو عن سطح الطريق نحو خمسة أمتار، الأمر الذي يعرقل الحركة، ويحول دون عودة عائلة العمري التي سبق أن نزحت إلى جنوبي القطاع. ويوضح الشاب: "حتى لو أحضرتهم (أفراد العائلة) في ظلّ هذا الواقع، فإنّ الأمر لن يكون ميسّراً. الحافلات غير قادرة على دخول الأحياء التي يملؤها الركام، بالتالي سوف يضطرّ العائدون إلى الترجّل من الحافلة في منطقة بعيدة، وسوف يُضطرون إلى نقل الأمتعة فوق الركام. وهو أمر مرهق، كذلك قد يتسبّب في سقوط عابرين كثيرين".

وفي مواقع أخرى، سُجّل تدمير شبه كامل للأحياء، كما هي الحال في جباليا البلد والنزلة في محافظة شمال غزة، التي تمثّل مع محافظة غزة المنطقة الشمالية من القطاع المنكوب. وقد أدّى ذلك إلى إغلاق مداخل الشوارع بمعظمها بواسطة الركام، ولا سيّما أنّ أنقاض المباني المهدّمة بعضُها يلاصق بعضاً، الأمر الذي يصعّب مهمة إزالة هذا الركام وعودة الحياة. ويصف محمد الحرتاني "الدمار في منطقة جباليا البلد بالهائل"، شارحاً لـ"العربي الجديد" أنّ الشوارع اختفت تحت ركام مبانيها المنهارة". ويلفت إلى أنّ "الركام يغلق الشوارع بصمرة كبيرة ويعيق حركة السكان وشاحنات المياه"، شاكياً من "عدم توفّر المساعدة للناس، حتى يتمكّنوا من إزالة الأنقاض وما تبقّى من منازلهم بهدف فتح الطريق".

وهكذا، تحوّلت بلدات محافظة شمال غزة إلى أكوام من الركام، فخلت من السكان، ومن ثم من الحياة. وتعمل جرّافات البلديات لإزالة الركام من الشوارع في بقاع لم تشهد تدميراً كاملاً، بهدف فتح الطرقات. وفيما يوضع هذا الركام على جوانب الطرقات في الغالب، يعمد الأهالي بدورهم إلى تكديس ما تبقّى من منازلهم بالطريقة نفسها، الأمر الذي يؤدي إلى تضييق الشوارع ومن ثم جعل الحركة أكثر صعوبة.

ومنذ بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، ونتيجة تعطّل المعدّات الثقيلة التي تعرّضت للقصف، لم تتمكّن الجرافات من التعامل مع الركام الثقيل، ولا سيّما المكوّن من أعمدة وأحزمة إسمنتية تتطلّب تكسيراً بواسطة آليات الحفر قبل رفعها، علماً أنّ قوات الاحتلال دمّرت معظم هذه الآليات في قطاع غزة ولم يتبقَّ سوى واحدة أو اثنتَين ملك شركات خاصة. وفي الوقت الراهن، من غير الممكن الاستفادة من الركام بأيّ شكل من الأشكال، وثمّة صعوبة بالغة في عمليات إزالته ونقله إلى مواقع أخرى. ومن ثم، راحت تتركّز كلّ جهود البلديات على إزاحته إلى جوانب الطرقات من أجل شقّ ممرّات لعبور الأهالي والمركبات.

وتقدّر بيانات المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة حجم الركام بما بين 65 مليون طنّ و70 مليوناً، ناجماً عن آلاف المنازل والمنشآت والمرافق الحيوية التي تعمّد الاحتلال تدميرها في خلال حربه الأخيرة، الأمر الذي حوّل القطاع إلى منطقة منكوبة بيئياً وإنشائياً. وقد توقّع المكتب الإعلامي أن تواجه عملية إزالة الركام معيقات جسيمة، أبرزها عدم توفّر المعدّات والآليات الثقيلة التي يمنع الاحتلال الإسرائيلي إدخالها في إطار حصاره غزة.

من جهتها، تقدّر الأمم المتحدة تكلفة إعادة الإعمار بنحو 70 مليار دولار أميركي، فيما تتوقّع أن تتطلّب هذه العملية سنوات طويلة، نظراً إلى حجم الدمار الذي طاول كلّ قطاعات غزة. وتوضح مصادر هندسية في قطاع غزة لـ"العربي الجديد" أنّ كميات الركام تُعَدّ في الوقت الراهن "مكرهة صحية"، مضيفةً أنّ في حال توفّرت إدارة شاملة وآليات وأراضٍ لنقل الركام إليها ومخطّطات وعملية فرز وتصنيف، فإنّ من شأن ذلك كلّه أن يتيح الاستفادة من الركام في عملية الإعمار، بوصفه مادة خاماً في غياب الصخر، وفي صناعة الحجارة وصناعات هندسية أخرى لا تكون عناصر أساسية.