العدد 1622 /24-7-2024

لم تستطع إسرائيل استيعاب ضربة الطائرة المسيّرة التي أطلقها أنصار الله (الحوثيين) على تل أبيب بما أحدثته من حالة صدمة وجدل واتهامات متبادلة داخل الحكومة والجيش، وردت بشكل مباشر، محاوِلة تحقيق ما فشل فيه "تحالف حارس الازدهار" طوال أشهر في محاولة إسكات الصواريخ والمسيّرات التي يطلقها الحوثيون لضرب إسرائيل، دون أفق واضح لجبهة بلا قواعد اشتباك.

ونفذت المقاتلات الإسرائيلية سلسلة غارات على ميناء مدينة الحديدة غربي اليمن بعد يوم واحد من هجوم لجماعة أنصار الله (الحوثيين) على تل أبيب بطائرة مسيّرة ثقيلة من نوع "يافا"، قالوا إنه خفية على الرادارات، فيما ذكر الإسرائيليون أنه تم رصدها ومرت نتيجة خطأ بشري.

وتعد هذه هي المرة الأولى التي تضرب فيها إسرائيل اليمن، بعد أن تركت الرد العسكري على هجمات الحوثيين السابقة عليها للولايات المتحدة والتحالف الدولي الذي تقوده في البحر الأحمر (تحالف حارس الازدهار).

فتحت إسرائيل جبهة اليمن بعمل عسكري مباشر استهدف محطة توليد للكهرباء ومنشآت لتخزين النفط ومستودعات أسلحة مزعومة بالقرب من ميناء الحديدة، ولكن بالنسبة لجماعة أنصار الله (الحوثيين) فهذه الحرب كانت مفتوحة فعليا منذ بداية العدوان الإسرائيلي على غزة.

ومنذ 31 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بدأ الحوثيون عملياتهم التي تشمل قصف إسرائيل والسفن التي "لها ارتباط بالكيان الصهيوني" في البحر الأحمر، عندما أعلنوا انخراطهم في الحرب ضد إسرائيل "انتصارا للمظلومية التاريخية للشعب الفلسطيني"، حسب تصريح المتحدث العسكري باسم الحوثيين العميد يحيى سريع آنذاك.

وتبدو الضربات التي ينفذها الحوثيون بشكل متواتر نحو إسرائيل أو مهاجمة السفن الإسرائيلية أو سفن الشركات والدول المتعاملة معها المتجهة إلى الموانئ الإسرائيلية أكبر من جبهة مشاغلة، وهي "أكثر من معركة وأقل من حرب" وفق محللين وخبراء.

فالتقديرات والتصريحات الإسرائيلية تشير إلى أن الدفاعات الجوية اعترضت أكثر من 220 طائرة مسيّرة وصاروخا تم إطلاقها من قبل الحوثيين، بينما نفذوا أكثر من 190 هجوما على سفن في البحر الأحمر، فيما اعترضت الولايات المتحدة والتحالف الذي تقوده عشرات الصواريخ والمسيّرات الأخرى سواء الموجهة ضد السفن أو المتجهة لإسرائيل.

ورغم أن معظم الصواريخ والمسيّرات التي أطلقها الحوثيون تم إسقاطها فيما ضرب بعضها إيلات (جنوبي إسرائيل)، تبقى تأثيراتها العسكرية المهمة في إشغال جزء من الجيش الإسرائيلي الذي يعاني على عدة جبهات، وتشتيت عمل منظوماته الدفاعية بما يربك فعاليتها في مواجهة تهديدات أخرى.

ومع تزايد قدرات المسيّرات التي يطلقها الحوثيون- كما يتضح من عملية تل أبيب- وتوعدهم بمفاجآت أخرى كبرى، تتزايد مخاوف الجيش الإسرائيلي من هجمات مماثلة، خصوصا إذا نفذت بشكل مكثف ومتزامن وعلى مراكز حضرية أو منشآت صناعية واقتصادية، ويتزايد الاستنفار الذي يؤثر في بنية المجتمع الإسرائيلي وروحه المعنوية.

وتوعد المتحدث باسم جماعة الحوثيين محمد عبد السلام بعمليات "تقضّ مضاجع" تل أبيب، مؤكدا أن الهجوم الإسرائيلي على محافظة الحديدة (غرب اليمن) لن يزيد الجماعة إلا إصرارا وثباتا في مساندة قطاع غزة، وفق تعبيره.

على الصعيد المعنوي، أحدثت ضربات الحوثيين- خصوصا ضربة تل أبيب- حالة من الهلع والصدمة في المجتمع، وعمّقت الشكوك حول قدرات الجيش الإسرائيلي والخلافات بين قيادته خصوصا مع الارتباك في التعامل مع مجريات الحرب في غزة وجبهة الشمال (مع حزب الله).

ويؤكد موقع "والا" الإسرائيلي أن ما حدث، فجر الجمعة في تل أبيب، هو فشل لسلاح الجو في الدفاع عن الجبهة الداخلية، متسائلا: ما التهديد الذي تمّ بناء سلاح الجو من أجله في العقد الماضي؟".

من جهته، قال زعيم المعارضة الإسرائيلية يائير لبيد إن "انفجار المسيّرة دليل آخر على أن الحكومة لا تعرف ولا تستطيع توفير الأمن لمواطنيها، في حين أكد زعيم حزب "إسرائيل بيتنا" أفيغدور ليبرمان أن "من لا يمنع الصواريخ على كريات شمونة وإيلات يجب ألا يتفاجأ بتلقيها في تل أبيب".

وتعني مشاركة الحوثيين في الحرب على إسرائيل -بقطع النظر عن حجمها وتأثيرها العسكري- مزيدا من الضغط على الجيش الإسرائيلي وتشتيت جهوده، وهو جيش غير معد أصلا لحروب طويلة ومعارك استنزاف، فضلا عن مواجهة جبهات متعددة مع تعبئة عامة متواصلة وخسائر يومية.

من ناحية أخرى فإن ضربات الحوثيين في البحر الأحمر، كلّفت إسرائيل خسائر اقتصادية فادحة، حيث بات ميناء إيلات (على البحر الأحمر) مغلقا عمليا، وتم تسريح آلاف العمال، في قطاعات عدة وتراجعت إمدادات السلع أو تأخرت بفعل مقاطعة عدة شركات شحن الموانئ الإسرائيلية أو تغيير مساراتها.

ويمكن فهم تأثيرات الهجمات الحوثية المتصاعدة في سياق الحرب الشاملة التي تواجه إسرائيل من جبهات متعددة ومنسقة بشكل ما، ويعي الإسرائيليون أن هجمات الحوثيين، في علاقتها بـ"محور المقاومة" تشكل ضغطا كبيرا ومتواصلا، فيما يرى المُحلّل العسكري أمير بوخبوط في مقال بصحيفة هآرتس (21 يوليو/تموز) أن "هجوم المُسيّرة اليمنية غيرت قواعد اللعبة في الحرب التي تخوضها إسرائيل على عدّة جبهاتٍ"، واعتبر أنها "علامة فارقة فيما يسمى عسكريا بالمعارك بين الحروب".

من خلال هجومها على ميناء الحديدة -الذي يعتمد عليه اليمنيون في توفير أكثر من 70% من حاجياتهم- وجّهت إسرائيل رسائل متعددة، وقد عبّر وزير الدفاع يوآف غالانت عن ذلك صراحة بقوله: "إن النيران المشتعلة حاليا في الحديدة يمكن رؤيتها في جميع أنحاء الشرق الأوسط والمغزى واضح". وتشمل هذه الرسائل اليمنيين وإيران وأطراف محور "المقاومة".

ويرى محللون أن حجم الهجوم على الحديدة -بـ20 طائرة- رغم طابعه "الاستعراضي"- وفق زعيم أنصار الله عبد الملك الحوثي- يعوّض بشكل ما عن الرد "الضعيف" على الهجمات الإيرانية في 14 أبريل/نيسان 2024، لكن إسرائيل تتحسب أيضا لمفاجآت عسكرية واردة، وتصعيد من الحوثيين، قد يضاعف من حجم مشاكلها في هذه الجبهة المفتوحة، والتي تختلف عن الجبهات الأخرى.

فالمعركة مع حزب الله ما زالت ضمن قواعد الاشتباك المرسومة رغم التصعيد الحاصل أحيانا، كما تخضع لوسائل ردع متبادلة تبقيها نسبيا ضمن هذه القواعد، بينما لا يخضع الحوثيون لأي قواعد اشتباك، كما لا توجد عمليا وسائل ردع فعالة عسكرية أو اقتصادية أو حتى قانونية.

وإذا كانت إسرائيل تقصف باستمرار ما تقول إنها أهداف معادية في سوريا نظرا لقرب المسافة وسهولة الرصد والتحرك، تصعب الاستجابة المباشرة في حالة الحوثيين، ولا يمكن لمقاتلاتها أن تركز باستمرار على جبهة تبعد نحو ألفي كيلومتر، بما يعنيه ذلك من تعبئة لوجستية واستعداد دائم وخسائر اقتصادية وتعقيدات عبور المجال الجوي لدول أخرى وغيرها.

تدرك إسرائيل أيضا أن طيران "تحالف الازدهار" بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا فشل خلال 9 أشهر من القصف في ردع الحوثيين أو وقف هجماتهم، رغم توفر قدرات وظروف لوجستية أفضل، وهو ما يجعلها عمليا جبهة غير قابلة للحسم.

ويتساءل المحلل العسكري في صحيفة "هآرتس" عاموس هرئيل في هذا السياق عن "القيمة المضافة لخطوات إسرائيلية كهذه (ضرب الحديدة) بعد الهجمات التي نفذها الحلف الغربي بقيادة الولايات المتحدة".

ويتخوف الإسرائيليون من تصعيد حوثي يبدو غير قابل للردع، والذي قد يستهدف تل أبيب ومدنا أخرى، أو منشآت حيوية بعشرات الطائرات المسيّرة والصواريخ التي قد تمر من منظومات الدفاع الجوي التي أثبتت ضعفها في مواجهة هجوم تل أبيب الأخير.

وفي تعليقه على الفشل في رصد وتدمير المسيرة الحوثية، يتساءل موقع "إنتل تايمز" عن مدى "قدرة إسرائيل على ردع اختراقاتٍ مماثلة مستقبلا، وهو الشيء الذي فشلت فيه ائتلافات عربية وغربية".

من جهته يرى محلل الشؤون العسكرية في موقع "والاه" أمير بوحبوط "أن التهديد الحقيقي، الذي يتراكم أمام أعين الجميع، هو الحرب الكبرى"، والتي سيكون الحوثيون طرفا فيها.

ويشير بوخبوط في تحليله أن تقديرات الخبراء تشير إلى نحو 5 آلاف طائرة مسيّرة وصاروخ من أنواع مختلفة ستسقط على منطقة "غوش دان -وهي مركز تل أبيب الحيوي- من مناطق متعددة في الشرق الأوسط".

وفي غياب حل نهائي لهجمات الحوثيين، ودون وجود قواعد اشتباك يمضي الحوثيون في حربهم المفتوحة منذ أشهر على إسرائيل، فيما تبحث تل أبيب عن معادلة صعبة للردع أو الاستعداد لمفاجآت قد تكون أقسى من ضربة "يافا".