العدد 1656 /19-3-2025

ضياء الصحناوي

تفتح الاعتداءات الإسرائيلية والتدخل والاستفزاز الإسرائيلي الذي لم ينقطع في جنوب سورية، المشهد في هذه المنطقة على احتمالات عدة، ولا سيما أن دولة الاحتلال تبدو ماضيةً في سياسة معلنة لفرض واقع عسكري وميداني جديد بالقوة، يقوم على تحويل الجنوب السوري برمته إلى منطقة نفوذ لها، بهدف الحيلولة دون عودة الجيش السوري الوليد إلى مواقع كان ينتشر فيها جيش النظام السابق في المنطقة قبل سقوطه في الثامن من ديسمبر/كانون الأول الماضي.

وأعلن الجيش الإسرائيلي، الثلاثاء، أنه هاجم مدافع شكّلت تهديداً بحسب زعمه، في منطقة خان أرنبة بجنوب سورية، وأنه "لن يسمح بوجود تهديد عسكري في منطقة جنوب سورية وسيعمل ضده". وجاء ذلك بعد يوم من غارات إسرائيلية استهدفت غربي مدينة درعا، وتوغل برّي في ريف درعا الغربي.

كذلك شنّ الطيران الحربي الإسرائيلي، مساء أمس الثلاثاء، غارتين جويتين استهدفتا موقعين في ريف محافظة حمص الجنوبي وسط سورية.

الاعتداءات الإسرائيلية متواصلة

وبحسب "تجمّع أحرار حوران" الذي يرصد أوضاع الجنوب السوري، فإن مجموعة من جنود الاحتلال، تراجعت صباح أمس الثلاثاء عن منطقة كانت قد توغلت فيها لساعات عدة سيراً على الأقدام جنوبي بلدة معرية في منطقة حوض اليرموك في ريف درعا الغربي. وجاء التوغل بعد ساعات قليلة من شنّ الاحتلال غارات جوية مساء الاثنين، استهدفت المنطقة بين اللواء 132 وحيّ مساكن الضاحية غربي مدينة درعا. وقتل في هذه الغارات 3 أشخاص وأصيب 19 آخرون، بينهم أطفال ومتطوعون في الدفاع المدني السوري. كذلك شنّت الطائرات الإسرائيلية عشرات الغارات على مواقع عسكرية في محيط مدينة إزرع شمالي درعا، وفق التجمع، الذي أوضح أن القصف استهدف الفوج 175 بـ15 غارة جوية، والمساكن العسكرية بثلاث غارات، فضلاً عن غارتين على اللواء الـ12، وجميعها في إزرع. وزعم الجيش الإسرائيلي أنه استهدف "أهدافاً عسكرية" في جنوب سورية، "بينها مراكز قيادة ومواقع عسكرية تحوي أسلحة وآليات عائدة إلى نظام الأسد".

ودأب جيش الاحتلال الإسرائيلي على التوغل في ريفي درعا والقنيطرة جنوبيّ سورية بعد احتلاله المنطقة العازلة بين سورية وهضبة الجولان المحتلة، منذ سقوط نظام الأسد. وتؤكد الاعتداءات المتكررة قلق إسرائيل من إسقاط نظام الأسد الذي حافظ على هدوء الجبهة معها على مدى 50 عاماً، عمر اتفاقية "فكّ الاشتباك" الدولية (1974) التي أطاحتها إسرائيل عقب سقوط هذا النظام.

درعا... مهد الثورة السورية تتطلع لمرحلة ما بعد الأسد

في السياق، أوضح الناشط الإعلامي يوسف المصلح، في حديث مع "العربي الجديد"، أن القوة الإسرائيلية التي توغلت صباح أمس جنوبيّ بلدة معرية "جرفت سواتر وفجّرت دشماً، ثم انسحبت إلى ثكنة الجزيرة الواقعة بالقرب من معرية في منطقة حوض اليرموك". وبيّن المصلح أن الجيش الإسرائيلي كان قد احتل هذه الثكنة القريبة من الحدود في اليوم الثاني لسقوط نظام الأسد، واتخذ منها مركزاً له بعدما فتح إليها طرقات وأمدّها بالتيار الكهربائي. وأوضح أن الجيش الإسرائيلي نفّذ العديد من التوغلات في ريف درعا منذ سقوط نظام الأسد، أعمقها ذاك الذي وصل إلى منطقة تل المال في ريف درعا الشمالي.

إلى ذلك، أكد المواطن عمر الحريري، الذي يقيم بالقرب من المواقع التي استهدفها الطيران الإسرائيلي، أن تل أبيب تعمدت استهداف المدنيين، معرباً عن اعتقاده في حديث مع "العربي الجديد"، أن القصف بمثابة "رسالة" للإدارة في دمشق، كي لا تعزز مواقعها العسكرية في المنطقة.

غليان في الجنوب السوري

وتنبع أهمية محافظة درعا من كونها تقع على حدود هضبة الجولان المحتل، ما يعني أنها في قلب الجنوب السوري الذي تعبث به تل أبيب منذ 8 ديسمبر الماضي. وتفتح الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة المشهد في جنوب سورية على كل الاحتمالات، بما فيها ظهور مقاومة شعبية، وهو ما أكده مصدر في فصائل الجنوب السوري العسكرية في حديث مع "العربي الجديد". وأكد المصدر أن أي اعتداء مبالغ فيه سيؤدي إلى مقاومة شعبية شرسة بغضّ النظر عن الإمكانات العسكرية. وتابع: "في ريف درعا الغربي، هناك تجمع سكاني كبير يتجاوز الـ600 ألف نسمة، اعتمادهم على الزراعة، ومن ثم فإن الاقتراب الإسرائيلي من مصدر رزقهم سيفجر غضباً كبيراً". ولفت إلى "وجود احتقان شعبي تجاه تل أبيب، ولا سيما في ظلّ المجازر التي ترتكبها في غزة". وتابع: "عندما تستدعي المواجهة مع إسرائيل سنواجهها بالإمكانات العسكرية التي نملكها. السلاح متوافر بكثرة في درعا، وسنتلقى مساعدة من كل السوريين. أعتقد لو وصلت إسرائيل إلى مدن وبلدات مثل طفس، فستبدأ المواجهة".

وتأتي التحركات الإسرائيلية في ريفي درعا والقنيطرة في سياق خطة تل أبيب المعلنة بعدم السماح للجيش السوري الجديد الذي يجري تشكيله بالعودة إلى المواقع التي كان يوجد فيها جيش النظام السابق. ويبدو أن إسرائيل بصدد تشكيل واقع عسكري جديد في جنوب سورية يقوم على تحويله كلّه إلى منطقة أمنية عازلة خالية من السلاح تحت ذرائع أمنية. ولهذه الغاية، عمد جيش الاحتلال إلى تدمير أغلب الترسانة العسكرية السورية بعد سقوط نظام الأسد، قبل أن تحتل قواته المنطقة العازلة وأعلى قمة في جبل الشيخ، فضلاً عن مواقع أخرى، مستغلاً عدم قدرة سورية على الدفاع عن أراضيها في الوقت الراهن، فالصدام مع تل أبيب لا يعد أولوية لدى الإدارة الجديدة في دمشق التي تضع فرض الاستقرار وتحسين الاقتصاد هدفاً رئيسياً لها في المدى المنظور.

وتعليقاً على الاعتداءات الإسرائيلية على درعا، رأى الباحث العسكري ضياء قدور، في حديث مع "العربي الجديد"، أن إسرائيل "تهدف إلى القضاء على كل القدرات العسكرية السورية، وخصوصاً في الجنوب، والحيلولة دون تمركز الجيش السوري الجديد جنوب دمشق"، مضيفاً أن دولة الاحتلال "تعتبر ذلك تهديداً استراتيجياً لها". وأعرب قدور عن اعتقاده بأن "ما تقوم به إسرائيل مغامرة عسكرية خرقاء لا مبررات أمنية لها"، مضيفاً أنه "باستثناء جبل الشيخ لا يمكن لإسرائيل الاستمرار في السيطرة على المواقع التي احتلتها أخبراً، وهي تريد أن تثبت توحّشها وامتلاكها فائض قوة".

وفي السياق، رأى المحلل العسكري العميد فايز الأسمر، في حديث ، أن التحرك الإسرائيلي الذي أعقب سقوط الأسد هدفه "تحييد الدولة السورية وإبقاؤها بلا أنياب، أي دولة فاشلة لعقود"، معرباً عن اعتقاده بأن الاعتداءات الإسرائيلية تهدف أيضاً إلى الضغط على الحكومة السورية الجديدة "من أجل خلق واقع جديد بتعديل اتفاقية 1974 لزيادة عمق المنطقة العازلة وتحديد نوعية الأسلحة والقوات المسموح بوجودها بالقرب من هذه المنطقة".

وتتزامن الاعتداءات الإسرائيلية في جنوب سورية مع محاولات تل أبيب لطرح نفسها "حامية" للأقليات في سورية، وخصوصاً الدروز، لتكريس حضورها ونفوذها في هذا الجنوب الذي يتشكل من ثلاث محافظات: القنيطرة غرباً، ودرعا في الوسط، والسويداء شرقاً.

وعن هدف تل أبيب من العبث في جنوب سورية، رأى الباحث السياسي حازم نهار، المتحدر من الجولان المحتل، في حديث مع "العربي الجديد"، أن إسرائيل "تدرك جيداً طبيعة الوضع في سورية وطبيعة المرحلة الانتقالية التي تمرّ فيها البلاد بعد سقوط الأسد". وتابع أن "سورية اليوم بلد مهشَّم عسكرياً ومدمَّر اقتصادياً، وليس هناك بالنسبة إليها (إسرائيل) ما هو أفضل من هذه المرحلة لتفرض قواعد اشتباك جديدة، ولا سيما بعد إنجازاتها العسكرية خلال عام 2024 بتهديم غزة في فلسطين، وتقزيم حزب الله في لبنان، وحصر النفوذ الإيراني في المنطقة". وبرأيه، فإن إسرائيل "تريد سلاماً من دون إعادة الجولان إلى سورية، وتطمح من العمل العسكري الذي تقوم به إلى أن يصبح أعظم أحلامنا هو العودة إلى اتفاقية فصل القوات في عام 1974". وأشار إلى أن الاعتداءات المتكررة تؤكد أن إسرائيل "لا تطمئن لطبيعة السلطة القائمة في دمشق بحكم أيديولوجيتها المعادية لإسرائيل، كما لا يغيب عنها أيضاً التراث السوري عموماً الرافض لإسرائيل، ولذلك يدخل عملها في سياق العمل الاستباقي لأي مخاطر يمكن أن تأتيها من جهة الحدود السورية".

ورأى نهار أن إسرائيل تطمح إلى أن تؤدي تدخلاتها العسكرية إلى خلخلة النسيج السوري بما قد يؤدي إلى حالة مستمرة من عدم الاستقرار في سورية أو إلى تقسيم سورية بما يلغي أي خطر سوري عليها مستقبلاً، ويسمح لها بالدخول في تحالفات سياسية وعسكرية مع قوى سورية متبلورة أو قابلة للتبلور. ولم يستبعد نهار أهدافاً كامنة خلف الاعتداءات الإسرائيلية "والمتمثلة بقطع الطريق على عودة إيران إلى سورية، أو تمكن تركيا من تقوية نفوذها في سورية بطريقة قد تشكل خطراً في مراحل لاحقة".