العدد 1651 /12-2-2025
وسام حجار

في كل مرة يعود دونالد ترامب إلى المشهد السياسي الأمريكي، تحمل تصريحاته رسائل صادمة حول قضايا الشرق الأوسط، وخاصة القضية الفلسطينية. فمنذ إعلان ترشحه لانتخابات 2024، لم يخفِ ترامب رؤيته المنحازة بالكامل لإسرائيل، لكن تصريحاته الأخيرة بشأن غزة تجاوزت الخطاب التقليدي إلى ما يمكن وصفه بخطة تهجير قسري مغلفة بلغة "السلام والتنمية". فماذا يريد ترامب لغزة؟ وكيف يمكن مواجهة هذا التوجه الذي يهدد مستقبل الفلسطينيين في القطاع؟

ما الذي يطرحه ترامب؟

ترامب لم يطرح خطة سياسية واضحة المعالم، لكنه قدّم مجموعة من التصريحات التي تكشف عن رؤية خطيرة لمستقبل غزة. ففي نظره، القطاع ليس أكثر من "مكان مهدّم"، وسكانه "سيكونون أكثر سعادة في أماكن أخرى". هذا الخطاب لا يبتعد كثيرًا عن نظريات التهجير التي طُرحت في فترات سابقة لتصفية القضية الفلسطينية، لكنه هذه المرة يأتي في سياق سياسي مختلف، حيث تتغير خارطة التحالفات الدولية وتتصاعد الضغوط على الفلسطينيين لإعادة رسم مستقبلهم وفق أجندات القوى الكبرى.

لاثلاثة محاور خطيرة في خطاب ترامب

1. وقف إطلاق النار وملف الرهائن: ضمانة أمريكية للضغط على الفلسطينيين

يرى ترامب أن دوره في التوصل إلى وقف إطلاق النار في غزة هو "إنجاز تاريخي"، ويقدم نفسه على أنه الشخص الوحيد القادر على ضمان استمرار هذا الاتفاق. لكن الأهم من ذلك هو الطريقة التي يتحدث بها عن الأسرى الفلسطينيين والإسرائيليين، حيث يصف الفلسطينيين المعتقلين في السجون الإسرائيلية بأنهم "إرهابيون"، بينما يعتبر المستوطنين والجنود الإسرائيليين "رهائن". هذا التصنيف ليس مجرد زلة لسان، بل هو تعبير عن رؤية سياسية تنزع الشرعية عن نضال الفلسطينيين، وتكرّس فكرة أن الاحتلال له الحق في فرض شروطه بأي وسيلة.

2. تهجير الفلسطينيين: الحل السحري للأزمة في نظر ترامب

أخطر ما في تصريحات ترامب هو حديثه المتكرر عن ضرورة "إخراج الفلسطينيين من غزة"، واقتراحه أن يتم توطينهم في أماكن أخرى مثل مصر أو الأردن. هذا الطرح يعيدنا إلى نظريات التهجير القسري التي سعت إسرائيل لتنفيذها منذ نكبة 1948. الجديد في خطاب ترامب أنه يسوّق الفكرة بأسلوب أكثر دهاءً، حيث يقدّمها على أنها "حل إنساني" يهدف إلى تحسين حياة الفلسطينيين.

لكن الحقيقة أن هذا التوجه لا يخدم إلا إسرائيل، إذ يسعى إلى تفريغ غزة من سكانها، وتحويلها إلى منطقة خالية من المقاومة، وربما إعادة هيكلتها لتصبح جزءًا من مشروع اقتصادي يخدم الاحتلال، كما لمح ترامب عندما قال إن القطاع يمكن أن يصبح "ريفييرا الشرق الأوسط".

3. غزة تحت النفوذ الأمريكي: وصاية مقنّعة أم احتلال جديد؟

من بين الأفكار التي طرحها ترامب بشكل غير مباشر، هو احتمال تدخل أمريكي مباشر في غزة لضمان "الاستقرار". هذا الطرح يعكس تصوّرًا قديمًا لدى بعض الدوائر السياسية الأمريكية بأن القطاع يمكن أن يكون تحت إدارة دولية أو وصاية أمريكية مباشرة. من هنا، فإن الحديث عن إعادة الإعمار، وإزالة المباني القديمة، وتحويل غزة إلى "مشروع اقتصادي" لا يمكن فصله عن محاولة وضعها تحت سيطرة أمريكية غير مباشرة.

ما الذي يمكن أن يحدث؟ سيناريوهات خطيرة بانتظار غزة

إذا استمر هذا التوجه دون مواجهة جدية، فإن مستقبل غزة قد يكون أمام أحد السيناريوهات التالية:

1 . تحويل التصريحات إلى خطة عمل سياسية: قد تضغط الولايات المتحدة على بعض الدول العربية لقبول فكرة استقبال لاجئين فلسطينيين، تحت غطاء "تسوية سياسية شاملة".

2. تصعيد عسكري إسرائيلي: إذا لم ينجح المخطط الدبلوماسي، فقد تلجأ إسرائيل إلى شن هجمات أوسع على غزة لدفع سكانها إلى الفرار، كما حدث في محطات سابقة.

3. مواجهة داخلية ودولية: من الممكن أن تواجه خطة ترامب معارضة قوية داخل الكونغرس الأمريكي أو من قبل القوى الدولية، خاصة إذا تم تسويقها على أنها انتهاك صارخ للقوانين الدولية.

كيف يمكن مواجهة هذا المخطط؟

أمام هذا التحدي، لا يمكن الاكتفاء بالبيانات السياسية أو الرفض اللفظي، بل لا بد من استراتيجيات عملية لمواجهة التهديد، ومنها:

1. فضح خطاب ترامب وتفكيكه

تصحيح المفاهيم الخاطئة، ورفض استخدام مصطلحات مثل "إعادة التوطين"، والتأكيد على أن ما يطرحه ترامب هو "تهجير قسري".

كشف التناقضات في خطابه، خاصة أنه يروج لفكرة أن إسرائيل دولة صغيرة تحتاج إلى التوسع، بينما يريد إفراغ غزة من سكانها.

إبراز أوجه التشابه بين خطته وسياسات التهجير الاستعمارية في التاريخ، مثل النكبة الفلسطينية أو سياسات الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.

2. تعزيز الرواية الفلسطينية عالميًا

إنتاج محتوى إعلامي مؤثر يوصل الرواية الفلسطينية إلى وسائل الإعلام الغربية، بدلًا من ترك الساحة مفتوحة للرواية الإسرائيلية.

استغلال وسائل التواصل الاجتماعي لنشر قصص الفلسطينيين الذين يرفضون التهجير، وإبراز الجانب الإنساني لمقاومتهم.

مخاطبة الرأي العام الأمريكي والأوروبي بلغة يفهمها، عبر التأكيد على أن ما يطرحه ترامب يتناقض مع القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان.

3 . تحريك المسار القانوني والدبلوماسي

تقديم تصريحات ترامب كأدلة على نوايا تهجيرية يمكن تصنيفها كجرائم حرب وفق القانون الدولي.

تقديم تقارير موثقة إلى الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية تبرز أن تصريحات ترامب تعكس نية واضحة للتهجير القسري، وهو ما يُعد انتهاكًا لاتفاقيات جنيف.

ممارسة الضغوط الدبلوماسية على الدول التي قد تُستخدم كوجهات للمهجرين الفلسطينيين، لضمان عدم دعم أي مخطط لإعادة توطينهم خارج وطنهم.

إشراك الجاليات الفلسطينية والعربية في الخارج في حملات ضغط على الكونغرس الأمريكي ووسائل الإعلام الغربية، لمواجهة أي سياسات أمريكية تدعم تهجير الفلسطينيين.

4. تعزيز الصمود الفلسطيني في غزة

تحفيز الاقتصاد المحلي لمنع خلق بيئة طاردة تدفع الفلسطينيين للبحث عن حلول خارج القطاع.

تعزيز الإعلام المقاوم عبر إنتاج وثائقيات وتقارير تُظهر أن غزة ليست "مكانًا غير صالح للعيش"، بل هي أرض ذات تاريخ وهوية وصمود.

تنظيم حملات توعية داخل القطاع لمواجهة الدعاية التي تروج لفكرة أن "الخروج من غزة هو الحل".

خاتمة: غزة باقية رغم المخططات

ما يطرحه ترامب ليس جديدًا، لكنه يأتي في سياق سياسي قد يجعله أكثر خطورة من محاولات سابقة. فكرة تهجير الفلسطينيين وتحويل غزة إلى "مشروع اقتصادي" تخدم الاحتلال ليست سوى امتداد لمخططات استعمارية فشلت عبر العقود، وستفشل مجددًا إذا كان هناك موقف فلسطيني وعربي قوي في مواجهتها.

التعامل مع هذا التحدي لا يكون بردود الفعل اللحظية، بل ببناء استراتيجية متكاملة تعتمد على الإعلام، والقانون الدولي، والدبلوماسية، وتعزيز الصمود الداخلي. غزة ليست للبيع، وأهلها لن يكونوا لاجئين في أوطان أخرى، مهما حاولت القوى الكبرى إعادة رسم خرائط المنطقة وفق مصالحها.

المعركة القادمة ليست فقط على الأرض، بل أيضًا على الرواية والوعي والقدرة على التصدي لمخططات تطهير عرقي جديدة تحاول التستر خلف شعارات براقة مثل "السلام" و"التنمية".

وسام حجار