العدد 1373 / 7-8-2019
بقلم : رضوان زيادة
بغض النظر عن موقعها على الخريطة، أصبحت سورية بلدا مقسما،
بفعل عدة عوامل رئيسية. ولا يبدو أن تغيرها سيؤدي إلى تغيير الحقائق على الأرض.
العامل الأهم هو الانقسام المجتمعي الخطير، فالسوريون الذين يقبعون في الشمال
السوري كما أصبح يطلق عليه، وهي المناطق التي تقع خارج سيطرة نظام الأسد، متمركزون
في إدلب ومحيطها وريف حماة وأجزاء من الريف الحلبي، لا يرغبون بأي شكل العودة إلى
الموت تحت حكم الأسد، فقد أثبتت معارك الجيش السوري الحر وفصائل أخرى في الشمال
السوري أخيرا أن هؤلاء مستعدّون للقتال حتى الرمق الأخير، ويفضلون هذا على العودة
إلى حكم الأسد، فنتائج المصالحات في درعا والغوطة الشرقية بدت بادية للعيان، حيث
الأسد لا يقبل سوى الطاعة العمياء، ويترك مخابراته تعتقل من تشاء، وتقتل من تشاء
دون أي أمل في تحسين خدمات الدولة هناك، حيث لا ماء ولا كهرباء ولا قدرة للأسد على
تأمينهما ، فضلا عن السياسة العلنية المتبعة في معاقبة هذه المناطق لثورتها على
نظام الأسد. وعليه، السوريون يبدون اليوم منقسمين بشكل لا حل له بالوحدة ،
السوريون في الشمال السوري ومنهم ملايين اللاجئين في بلدان الجوار يفضلون الموت
على الموت تحت التعذيب أو في أقبية المخابرات السورية، وهؤلاء يبلغ عددهم أكثر من
ثمانية ملايين سوري، لهم حضورهم الفاعل في بلدان اللجوء الآن، ولهم صوتهم على
منصات التواصل الاجتماعي تعبيرا عن غضبهم من أية سياسات قد تقودهم إلى العودة إلى
حضن النظام.
أما السوريون تحت حكم الأسد، فأكثر من 90% منهم يقبلون
بوجودهم هناك تحت حكم الأمر الواقع، وقناعتهم بفشلهم في قدرتهم على تغيير الأسد
الذي لا يمانع في استخدام كل المحرّمات من حصار وبراميل وتعذيب تحت الموت للبقاء
في الحكم، وتبقى العشرة بالمائة التي تحصل على امتيازات خاصة بها من الحكم، والتي
استفادت من سياسات "التعفيش"، أي سرقة ممتلكات النازحين والمهجّرين
واللاجئين وعفشهم وبيعها بأسعار بخسة، وتستفيد اليوم من فرض أتاوات ضخمة لابتزاز
الأهالي الذين لديهم معتقلون سياسيون تفوق أعدادهم مئات الألوف. وفوق ذلك تستفيد
من بدلات الإيجارات الضخمة للنازحين السوريين في مناطق الساحل السوري، أو العاصمة
دمشق، حيث يستملك معظمها عقارات ضخمة، تم الاستيلاء عليها أو تملكها خلال سنوات
الحرب.
لا مجال للمصالحة بين سوريي الشمال وسوريي النظام، فالواقع
الحالي امتداد لحربٍ لم تنته، وحتى لو انتهت عسكريا ستبقى الكتلة البشرية الرافضة
للأسد، وهي الأكبر كميا بما لا يقاس، تبحث عن وسائل، بكل الطرق الممكنة، لإبقاء
اللااستقرار في مناطق الأسد، فهي عاشت ويلات الحرب، وتعيش اليوم عذابات اللجوء،
فليس هناك الكثير مما تخسره، ولكن لديها الكثير مما تفعله. وعليه، الوحدة الوطنية
الجامعة التي تجمع سكان كل شعب على أرض جغرافية محدّدة انتهت إلى غير رجعة بالنسبة
للسوريين. وما دام الأسد في الحكم لن تكون هناك مصالحة أو عودة إلى مفهوم الوحدة
المجتمعية التي بدونها ستدخل سورية في حرب أهلية كامدة، تتنظر شرارة لتشتعل مرة
أخرى وأخرى.
العامل الآخر فيما تشهده سورية من انقسام حقيقي وواقعي هو
النزعات الانفصالية لمجموعات داخل المجتمع السوري، والتي بدأت تعبر عن حالها بوضوح
وقوة. وليس الكرد وحدهم في ذلك، وإنما الأصوات المتصاعدة داخل الطائفة العلوية
المطالبة بفرض الحكم بالعنف والقوة على السوريين، وبأي شكل كان، وعدم الاكتراث بما
يعيشه الملايين من السوريين وبأي طريقة يفهمون سورية اليوم، "فيجب أن لا
نكترث لمعاناتهم، أو أن لا نستمع لشكواهم، طالما أنهم ليسوا من مناطقنا
وطائفتنا". تزداد هذه الأصوات تأثيرا وقوة. وواضح أن الأسد يستمع لها أكثر
مما يستمع لأي صوت آخر، فلها التأثير الأكبر على طريقة إدارة حرب النظام على
السوريين، بوصفها حرب إبادة للآخر مهما كانت التكلفة. إنها أشبه بحرب البقاء
والإلغاء، وهو ما حول نظام الأسد إلى نظام مليشياوي أقلوي صرف، لا يختلف كثيرا عن
نظام الخمير الحمر في كمبوديا في السبعينيات، سوى أن الأخير كانت تحكمه أيديولوجيا
متطرّفة، مشى فيها حتى النهاية، عبر إعادة كمبوديا إلى مجتمع زراعي، تذوب فيه
الطبقات. وهنا في الحالة السورية، يبدو نظام الأسد كعصبة طائفية إيديولوجية، لا
تكترث باستخدام السلاح الكيميائي لقتل السوريين المدنيين، لا يتورّع عن إسقاط
البراميل المتفجرة على المراكز الصحية والمدارس، بحجة أن الذين يُقتلون هم من
الإرهابيين. وتجد خطابا داعما بقوة لذلك داخل المجتمع العلوي، كما يعبر عنه في
وسائل التواصل الاجتماعي. وفي اللافتات التي ترفع تعبيرا عن تأييد نظام الأسد في
حربه ضد السوريين.
بدت النزعة الانفصالية عند الكرد أيضا أكثر وضوحا مع دخول
حزب العمال الكردستاني إلى سورية، بدعم من الأسد بهدف تحييد المجلس الوطني الكردي
الذي دعم المعارضة السورية، ولإخافة تركيا عبر توجهها الداعم للثورة. وبالتالي،
يشكل التحالف الأقلياتي اليوم في سورية ممثلاً بالكرد الانفصاليين والعلويين
المؤيدين للأسد خطرا حقيقيا على سورية أولا، وعلى المنطقة برمتها، فتحالف الأقليات
يشكل تهديداً لموقع سورية، ولدورها التاريخي في الاستقرار الدائم والمستدام في
المنطقة العربية، والأهم أنه يعزّز نزعات التطرّف والعصبية التي وجدنا وجهها
الأبشع والأقذر في ظهور "داعش" وفي نظام الأسد، حيث التعذيب والقتل بكل
الطرق الممكنة الوسيلة الوحيدة للبقاء. وهو ما سيدفع الأكثريات، على اختلافها
الطائفي أو الاثني أو اللغوي، إلى أن تنظر إلى هذه الأقليات بوصفها مركز التهديد
الدائم والثابت، وهو ما يعني وصفة مستدامة لحربٍ أهلية، كما هو الحال في لبنان حيث
لا تتوقف الحرب الأهلية، حتى تستعر من جديد، ولو بشكل مختلف، وحيث لا يجمع
اللبنانيون بينهم أي قالبٍ وطني، بحكم المرجعيات الخارجية التي يستندون لها،
وخصوصا فيما يتعلق بإيران في دعمها حزب الله، وهو ما يبدو أن يتكرّر اليوم في دعم
إيران التمثيلات العسكرية من خلفية طائفية علوية، مثل قوات النمر التي يقودها سهيل
الحسن، وغيرها التي تمثل تطييفا للمجتمع السوري، بوصفة مجتمعا مصنفا طائفيا، ولا
جامع وطنيا بين طوائفه المختلفة.
تلعب هذه العوامل دورا فيما يمكن القبول به اليوم أن سورية
لم تعد وطنا لكل السوريين، وأن تقسيمها أصبح حقيقة واقعة، وإعادة حدودها المجتمعية
والجغرافية يبدو صعب المنال، إن لم يكن مستحيلاً. هذا إذا كانت لدى الأطراف كلها
الرغبة في العودة إلى سورية الخمسينيات، حيث كانت قلعة الإشعاع العلمي والنهوض
الفكري والاقتصادي والسياسي.