العدد 1681 /17-9-2025

 

الدكتور حسن العاصي

في لحظة تاريخية تتقاطع فيها الجغرافيا مع الذاكرة، والسياسة مع الأخلاق، صوّتت الجمعية العامة للأمم المتحدة على قرار يدعم إقامة دولة فلسطينية ضمن إطار حل الدولتين. وبينما أيّدت الأغلبية الساحقة من دول العالم هذا القرار، برزت مجموعة من الدول التي اختارت الامتناع أو التحفظ، في موقف لا يمكن قراءته بوصفه حياداً بريئاً، بل كتموضع سياسي يعكس توازنات دقيقة، ومصالح متشابكة، وأحياناً صمتاً مريباً أمام قضية عادلة عمرها أكثر من قرن.

إن امتناع هذه الدول لا يُفهم فقط من زاوية التصويت التقني، بل يجب تفكيكه كخطاب دبلوماسي يحمل في طياته دلالات عميقة حول موقع القضية الفلسطينية في الضمير العالمي، وحول حدود التضامن الدولي حين يتعلق الأمر بشعبٍ يعيش تحت الاحتلال، ويكافح من أجل حقه في تقرير المصير. فهل الامتناع هو تعبير عن الحذر السياسي؟ أم هو انعكاس لانحيازات ضمنية؟ أم أنه محاولة للهروب من مواجهة الأسئلة الأخلاقية التي تفرضها فلسطين على العالم؟

هذا المقال لا يكتفي بسرد أسماء الدول الممتنعة، بل يسعى إلى تفكيك دوافعها، وتحليل خلفياتها، وقراءة مواقفها في ضوء التحولات الجيوسياسية، والاصطفافات الجديدة، والرهانات الأخلاقية التي تفرضها القضية الفلسطينية على النظام الدولي المعاصر.

 

دول الرفض الصريح: قراءة في معسكر الإنكار السياسي لفلسطين

الدول التي رفضت قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن إقامة دولة فلسطينية بلغ عددها 10 دول فقط، وهي التي صوتت ضد "إعلان نيويورك" الذي يدعم حل الدولتين ويعترف بحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة. هذه الدول تمثل خليطاً من القوى الكبرى، والدول الصغيرة المرتبطة بتحالفات استراتيجية أو اقتصادية مع الولايات المتحدة أو إسرائيل. بعضها يُعرف بمواقفه الثابتة ضد الاعتراف بالدولة الفلسطينية، والبعض الآخر يتبع سياسات خارجية متأثرة بالمساعدات أو النفوذ الجيوسياسي. وهذه الدول هي:

الولايات المتحدة/ إسرائيل/ الأرجنتين/ المجر/ باراغواي/ ناورو/ ميكرونيسيا/ بالاو/ بابوا غينيا الجديدة/ تونغا.

إسرائيل رفضت القرار بشدة، واعتبرته "مخزياً" ويشجع على استمرار الحرب. الحكومة الإسرائيلية الحالية، بقيادة تيارات دينية وقومية متطرفة، تسعى إلى ضمّ الضفة الغربية رسمياً، وتعتبر الاعتراف الدولي بدولة فلسطين تهديداً مباشراً لمشروعها الاستيطاني.  الخطاب الإسرائيلي يرفض أي تسوية سياسية خارج شروطها الأمنية.

 

الرفض الأميركي ليس مفاجئاً، بل هو امتداد لموقف تاريخي داعم لإسرائيل في المحافل الدولية. الإدارة الحالية تعتبر الاعتراف بالدولة الفلسطينية "تشجيعاً لحماس" و"تقويضاً للسلام". هذا الموقف يعكس تحالفاً استراتيجياً عميقاً، وتوظيفاً سياسياً للقضية الفلسطينية في الداخل الأميركي، حيث يُستخدم الدعم لإسرائيل كورقة انتخابية ودبلوماسية.

موقف الأرجنتين يعكس تحوّلاً في سياستها الخارجية بعد صعود حكومة يمينية محافظة. رغم تاريخها في دعم حقوق الإنسان، فإنها تبنت خطاباً متحفظاً تجاه القضية الفلسطينية، ربما نتيجة تقاربها مع واشنطن أو رغبة في تجنب التوترات مع إسرائيل، التي تربطها بها علاقات اقتصادية وأمنية متزايدة.

والمجر بقيادة حكومة أوربان تتبنى سياسات قومية محافظة، وتُعرف بدعمها القوي لإسرائيل في الاتحاد الأوروبي. رفضها للقرار يأتي في سياق تحالف أيديولوجي مع تل أبيب، خاصة في قضايا الأمن والهجرة، وتعبير عن موقف معادٍ للمؤسسات الدولية التي تنتقد إسرائيل.

أما بالنسبة لباراغواي فهي من الدول التي نقلت سفارتها إلى القدس سابقاً، ما يعكس انحيازاً واضحاً لإسرائيل. موقفها الرافض ينبع من علاقات دبلوماسية وثيقة، ومن رغبة في تعزيز 

والناورو هي دولة صغيرة في المحيط الهادئ، غالباً ما تصوت وفقاً للمساعدات التي تتلقاها من دول كبرى مثل الولايات المتحدة أو أستراليا. رفضها للقرار لا يعكس موقفاً مستقلاً، بل تبعية دبلوماسية واضحة، تُستخدم في التصويتات الحساسة كأداة دعم للتحالفات الغربية.

وميكرونيسيا مثل ناورو، ترتبط ميكرونيسيا باتفاقيات دفاع ومساعدات مع الولايات المتحدة، وتُعرف بتصويتها المتكرر ضد القرارات المؤيدة لفلسطين. موقفها يعكس تبعية سياسية أكثر من موقف مبدئي.

فيما يتعلق بـ بالاو فهي دولة صغيرة أخرى في المحيط الهادئ، تتبع نفس النمط: تصويت متكرر لصالح إسرائيل، مدفوع بتحالفات مالية وأمنية مع واشنطن. لا تمتلك موقفاً مستقلاً في السياسة الخارجية، بل تُستخدم كورقة دعم رمزية.

وبابوا غينيا الجديدة رغم أنها ليست من الدول المؤثرة، فإن موقفها الرافض يعكس تقارباً متزايداً مع الولايات المتحدة وأستراليا، خاصة في ملفات الأمن البحري. تصويتها ضد القرار قد يكون نتيجة ضغوط دبلوماسية أو وعود بمساعدات.

ودولة تونغا مثل باقي دول المحيط الهادئ، تتبع نمط التصويت المرتبط بالمساعدات والتحالفات الغربية. لا توجد تصريحات رسمية واضحة، لكن رفضها للقرار يُقرأ كجزء من كتلة تصويتية صغيرة تدعم الموقف الأميركي الإسرائيلي دون تبرير سياسي مستقل.

الامتناع كأداة استعمارية ناعمة: الحياد المسموم

رغم التصويت الساحق في الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح إقامة دولة فلسطينية، حيث أيّدت القرار 142 دولة، فإن امتناع وتحفظ بعض الدول يطرح أسئلة جوهرية حول طبيعة التحالفات، وموازين القوى، ومفهوم الحياد في القضايا الأخلاقية والإنسانية. هذا المقال يحاول تفكيك دوافع تلك المواقف، ويقرأها في ضوء السياق الدولي الراهن. هذه الدول هي:

ألبانيا/ الكاميرون/ جمهورية التشيك/ الكونغو الديمقراطية/ الإكوادور/ إثيوبيا/ فيجي/ غواتيمالا/ مقدونيا الشمالية/ مولدوفا/ ساموا/ جنوب السودان.

إن الامتناع عن التصويت في قضية فلسطين لا يُقرأ كحياد، بل كاختبار أخلاقي فشلت فيه هذه الدول. بعضها اختار التردد خوفًا من فقدان الدعم، وبعضها اختار الصمت تجنبًا للمواجهة، لكن النتيجة واحدة: غياب الشجاعة السياسية في لحظة كانت تستدعي الوضوح.

بين الرفض والامتناع... خرائط الصمت في وجه العدالة

في لحظة كان يُفترض أن تكون فاصلة في تاريخ العدالة الدولية، اختارت عشر دول أن ترفض الاعتراف بحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم، بينما آثرت اثنتا عشرة دولة أن تلوذ بالصمت، متخفية خلف الامتناع، وكأن الحياد في وجه الاحتلال ليس انحيازاً، بل تواطؤاً مقنّعاً. وبين الرفض الصريح والامتناع المتردد، تتشكل خرائط جديدة للصمت، تُعيد رسم ملامح النظام الدولي، لا بوصفه ساحةً للحقوق، بل كفضاءٍ للمصالح، والموازنات، والرهانات الأخلاقية المؤجلة.

في النهاية، لا يُكتب التاريخ بمن امتنعوا عن التصويت، ولا بمن رفضوا الاعتراف، بل بمن قاوموا النسيان، وكتبوا أسماءهم في الهامش، حيث تبدأ الحكاية الحقيقية. ونحن إذ نرصد هذه اللحظة، لا نسعى إلى توثيقها فقط، بل إلى مساءلتها، وتفكيك بنيتها، وإعادة تشكيلها بوصفها مرآةً للعالم، لا مجرد قرارٍ أممي عابر.

بقي أن نقول إنه في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي عُقد يوم الجمعة 12 سبتمبر/أيلول 2025 بشأن اعتماد "إعلان نيويورك" لدعم إقامة دولة فلسطينية، شاركت 164 دولة في التصويت، حيث أيّدت القرار 142 دولة، ورفضته 10 دول، وامتنعت عن التصويت 12 دولة. وبالتالي، فإن عدد الدول التي غابت عن الاجتماع أو لم تشارك في التصويت بلغ  29 دولة وهي الدول الأعضاء التي لم تُسجّل حضوراً رسمياً أو لم تُدلِ بصوتها خلال الجلسة.