العدد 1631 /25-9-2024
بسمة النسور
في وقت تنشغل فيه
الأمّهات الكادحات، بعد أن تدبَّرن الأقساط، متحمّساتٍ سعيداتٍ بتحضير مستلزمات
أبنائهن من قرطاسية وثياب للعام الدراسي الجديد، وينخرط الناشطون بكلّ حميةٍ
وحماسةٍ في الجدل البيزنطي في مواقع التواصل الاجتماعي، بين أغلبية مُعارِضة
وأقلّية موافقة بشأن جدوى تضمين منهاج الصف الرابع الابتدائي فقرةً عن سميرة
توفيق، وفي تبادل الآراء المتباينة بشأن أغاني المغنّي السوري المعروف
بـ"الشامي"، التي كسّرت الدنيا وحصدت مليار مشاهدة (على ذمّتهم)، وفي
تقييم إطلالات الفنّانات في المهرجانات السينمائية، وفي التحسّر على شباب هيفاء
وهبي، التي لم تعد قادرةً على إخفاء علامات تقدّمها في السنّ... في هذا الوقت
بالذات، تنهمك المرأة الغزّية الوحيدة المخذولة، في جمع أشلاء أحبّتها، ونبش أنقاض
منزلها، بحثاً عمّا يزوّدها بمبرّرات مواصلة حياتها الموحشة القاسية العنيفة، وقد
استولى عليها إحساسها باليأس والإرهاق والأسى والمرارة، بسبب ما عانته من خساراتٍ
جسيمةٍ نالت من روحها أُمّاً وزوجةً وشقيقةً وابنةً، وطفلةً مذعورة هانت الحياة في
نظرها فتساوت في لحظة يأس مطلقة مع الموت، الذي بات لصيقاً بأنفاسها، فاستحالت
كتلةً من مشاعر الحزن والغضب والخوف والخيبة من تنكّر (وتنصّل) أُمَّةٍ عربيةٍ
واحدةٍ صمّاء بكماء.
وما زالت السيّدة
الغزّية العظيمة، رغم كلّ شيء، تبثّ برقيات وجع عزّت بلاغتها على أعتى المنظّرين.
وإزاء قسوة المشهد الدامي ووحشيّته، يبدو الالتفات إلى أيّ مسألةٍ خارج حدود هذه
المعاناة، ذات البعد السوريالي، ضرباً من الترف (كي لا نقول أكثر فنسقط في فخّ
التخوين). الأمر ليس سهلاً علينا نحن الذين نحتلّ منذ ما يقارب العام مقاعدَ
المتفرّجين في بيوت لم تنهَرْ سقوفها فوق رؤوسنا، ولم تداهمنا الحنفيات بذلك
الفحيح الظالم الذي ينذر بظمأ قادم، ولم يكفّ التيّار الكهربائي عن تدفّقه نحو
أجهزتنا الكهربائية، ولم ينفد من بيوتنا الرغيف الأخير (وإذا نفد نبتاع المزيد
بكلّ بساطة)، ولا يعترينا سوى قلق طفيف إذا تأخّر الأولاد خارج البيت، فنحن
مطمئنّون بأنّهم سوف يعودون على أقدامهم في نهاية الأمر، وبأنّ أحداً لن يطرق
بابنا بوجهٍ متجهّمٍ ليخبرنا بعبارات رصينة أنّ علينا أن نطلق الزغاريد (!)
ومع ذلك، يمكن الجزم
بأنّ أصحاب الضمائر الحيّة والحسّ الوطني العالي، جميعاً يعانون القهر والخجل
والإحباط، لعجزهم عن أيّ فعلٍ حقيقيٍّ يحدّ من منسوب الوحشية والبشاعة التي تقترف
بدم بارد ضدّ شعب يسعى إلى ممارسة حقّه في الحياة، ليس أمامهم، والحالة هذه، سوى
التسمّر ساعاتٍ أمام الشاشات، آملين تحقّق معجزةٍ ما من شأنها وقف حصاد الأرواح
غير القابل للتوقّف ولو للحظة.
وإذ ندرك أنّ المواطن
الغزّي يصنع معجزته الخاصّة في ظروف الإبادة الجماعية عاريَ الصدر مكشوفَ الظهر،
باذلاً دماءه المضرّجة بإكسير العزّة والكرامة، علينا من باب إحقاق الحقّ تسليط
الضوء أكثر على الصورة المشرقة للمرأة الغزّية، الضحية الأبرز في هذه المَقتلة،
لأنّها نموذجٌ بلغ درجةَ الاحتراف في التحمّل والمواجهة والصبر والصمود والشجاعة
والتشبّث بالحلم المشروع لصغارها، بحياة حرّة كريمة آمنة وتشوّقها إلى حياة طبيعية
أقلّ انكساراً.
نتأمّل، في هذه اللحظة
العصيبة الثقيلة، بفخر كبير، قدرتها الاستثنائية على مقارعة الحياة غير المُنصِفة،
وسعيها المُبهِر للحيلولة دون نفاد الرغيف الأخير من خيمتها المشرعة لتقلّبات
الطقس غير الرحيم، وحزن عينيها، التي جفّت فيهما المآقي جرّاء تراكم الأحزان،
وصلابة روحها العصيّة على الانهزام، نتأمّل توقها إلى الانعتاق من نير واقع حالك
السواد، وحنينها إلى صباحات أقلّ دموية، وحسدها الخفي للجارة التي لا تجهل مكان
القبور التي تضمّ أحبّتها، وروحها المتعبة المثخنة بجراح عميقة عصيَّة على الشفاء،
وما يتعلّق بسيّدة النساء كلّه. للمرأة الغزّية المنكوبة المُعذَّبة نقدّم
اعتذارنا الخجول لعلّها تَغفِر.