العدد 1651 /12-2-2025
علاء الحلو
تتواصل أزمة السيولة النقدية في قطاع غزة على
الرغم من وقف إطلاق النار وإعلان بعض البنوك بدء فتح أبوابها تدريجيا أمام
العملاء، فيما تلقي الأزمة بظلالها على واقع الأسواق والواقع الاقتصادي، كذلك على
الوضع المعيشي الخاص بالسكان وعلى قدرتهم الشرائية.
وفتحت البنوك بعض فروعها التي استصلحتها بعدما
تعرضت للاستهداف الإسرائيلي طوال الحرب، لكنها لا تعمل في استقبال ولا تسليم
الأموال، وتكتفي بتحديث الحسابات البنكية وإنشاء حسابات وحل الإشكاليات المتعلقة
بالتطبيقات الإلكترونية، ولم يصدر عنها أو عن سلطة النقد الفلسطينية (القائم
بأعمال البنك المركزي) ما يوحي بقرب انتهاء أزمة السيولة في غزة في ظل عدم وضوح
الوضعين الأمني والسياسي داخل القطاع.
ولا تعتبر أزمة السيولة النقدية مسألة اقتصادية
بحتة، بل ترتبط بشكل وثيق بالواقع المعيشي للفلسطينيين، خاصة في ظل الظروف
الإنسانية الصعبة التي يعيشها قطاع غزة نتيجة الحصار المستمر وتأثيرات العدوان
الإسرائيلي والتوترات السياسية والأمنية على السكان، لا سيما على النازحين
العائدين إلى الشمال.
وحسب مراقبين، فإن تشديد الاحتلال الحصار المالي
والاقتصادي على غزة يأتي أيضاً في إطار خطوات تمارسها إسرائيل من أجل التضييق على
سكان القطاع معيشياً بهدف تهجيرهم إلى دول مجاورة.
تصعيد الحصار الاقتصادي والمالي
تعود الأزمة إلى مجموعة من الأسباب، في مقدمتها
استمرار وتصعيد الحصار الإسرائيلي والقيود الاقتصادية التي تحد من حركة الأموال
والبضائع، وتؤثر على تدفق الأموال والتحويلات المالية من الخارج، ثم جاءت القيود
المفروضة على البنوك والمؤسسات المالية منذ بدء حرب الإبادة رداً على طوفان الأقصى
الذي انطلق يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، لتجعل من الصعب إدخال سيولة جديدة
تلبي احتياجات الفلسطينيين.
غزة بين سمساري عقارات... ترامب وهشام طلعت
ويؤثر تراجع الأنشطة الاقتصادية وانخفاض مستوى
النشاط التجاري والصناعي نتيجة الحرب والأوضاع الأمنية والسياسية بشكل وثيق في
الدخل العام ويحد من توفر السيولة النقدية في الأسواق، إلى جانب الاعتماد الكبير
على المعونات والمنح التي تصرف عبر القنوات البنكية أو رصيداً إلكترونياً، ما يزيد
من صعوبة "تكييش" تلك الأرصدة (سحب النقود)، باستثناء بعض الحالات التي
تحاول استغلال الوضع عبر فرض نسبة فائدة تزيد عن 20% من قيمة المبالغ المراد
صرفها.
ويواجه العائدون من النزوح إلى محافظتي غزة
والشمال إشكالية رفض التجار البيع عبر التطبيقات البنكية والمحافظ الإلكترونية على
الرغم من شراء التجار أنفسهم بضائعَهم عبر الدفع الإلكتروني، وذلك خوفاً من
الخسائر المالية نتيجة عدم استقرار قيمة العملات وصعوبة تحويلها إلى نقد حقيقي من
دون تكبد خسائر نتيجة فروقات الأسعار، أو نتيجة محاولة البعض الاستغلال وفرض نسب
مرتفعة مقابل التكييش.
أزمة العائدين إلى شمال غزة
تتسبب هذه الأزمة بعدم قدرة العائدين الذين فقدوا
بيوتهم وممتلكاتهم على شراء الاحتياجات الأساسية مثل الطعام والدواء، مع رفض
التجار قبول المدفوعات عبر التطبيقات البنكية التي تضم مدخراتهم أو الأموال التي
حصلوا عليها عبر المساعدات الإلكترونية، ما يضطرهم للتوجه نحو السوق السوداء وبيع
أرصدتهم الإلكترونية بخصومات كبيرة.
ويقول النازح العائد إلى منزله سامي اللوح إنه
اضطر إلى إنفاق كل مدخراته المالية البنكية لشراء متطلبات أسرته عبر تكييش المبالغ
مقابل نسب مختلفة ومرتفعة، فيما يواجه حاليا أزمة تكييش بعض المساعدات المالية
التي وصلت إليه عبر التطبيقات البنكية.
ويبين اللوحأن التجار لا يقبلون بالبيع عبر الدفع الإلكتروني على الرغم من الحملات
المطالبة بذلك، مشيراً إلى أنه حاول شراء الطعام لأولاده، لكن الجميع يفضل الدفع
النقدي، الأمر الذي أجبره على بيع الرصيد مقابل نسب فائدة 20%.
فيما يوضح الفلسطيني زكي أبو مهادي أهمية توفير
الحكومة أو المؤسسات المصرفية السيولة النقدية أو إجبار التجار على قبول الدفع
الإلكتروني، لتسهيل التعاملات المالية في ظل شح السيولة واهتراء وقدم الأوراق
المالية. ويقول: "نحن تعبنا من اللف والدوران لشراء أبسط الأشياء".
ويشير أبو مهادي إلى الإرهاق المادي والاقتصادي الذي أصاب الفلسطينيين خلال فترة الحرب،
بدءاً من غلاء الأسعار، وعدم توفر السيولة النقدية، واستغلال أصحاب رؤوس الأموال
عبر ابتزاز الناس وشراء أرصدتهم مقابل قرصنة ربع قيمتها.
وعن رفضه التعامل بالبيع عبر التطبيقات، يقول تاجر
المواد الغذائية خالد السكني إنه يفضل البيع نقداً لأنه مضمون وفوري، في ظل تعقيدات
التطبيقات البنكية والأرصدة الإلكترونية، وإمكانية وقف الحساب في حال تكرار
الحركات بشكل كبير، الأمر الذي سيتسبب بتجميد عمله.
ويوضح السكني أنه لا يتمكن من دفع فواتيره أو شراء
بضاعته من التجار إلكترونيا، فيما يفرض بعضهم عمولات ورسوماً على البيع عبر
التحويلات الإلكترونية، وهذا يؤثر على هامش الربح القليل أصلاً، أو يضطره للبيع
بسعر أغلى من السوق، ما يتسبب في نفور الزبائن. ويلفت السكني إلى تجربته السابقة
في التعامل بالبيع عبر التطبيقات البنكية والمشكلة التي واجهته، إذ تعطل عمله بفعل
خلل فني في التطبيق لفترة من الزمن، ما اضطره بعدها إلى بيع رصيده مقابل نسبة
فائدة مرتفعة، والتوقف عن البيع عبر هذه الآلية.
قيود الاحتلال على السيولة في غزة
في هذا الإطار، يتحدث الخبير الاقتصادي محمد صافي
عن تأثير أزمة السيولة على الاقتصاد المحلي وحركة السوق، إذ يحد الاعتماد على
النقد فقط من مرونة الاقتصاد ويزيد من الضغط على العائدين من النزوح، الذين يتلقون
مساعداتهم عبر القنوات البنكية. ويبين صافي لـ"العربي الجديد" أن
الاحتلال بدأ بفرض قيود على دخول السيولة النقدية إلى غزة بشكل تدريجي منذ سيطرة
حركة حماس على القطاع عام 2007، إلى جانب فرض قيود على حركة البضائع وقيود مالية
ومصرفية.
ويقول إنّ القيود على العمليات البنكية
الإلكترونية المتكررة ومخاوف الناس والتجار من وقف حساباتهم البنكية "تسببت
في أزمة اقتصادية خانقة بفعل نقص السيولة في الأسواق ووصول المساعدات من المنظمات
الدولية عبر قنوات إلكترونية أو تحويلات مصرفية، الأمر الذي أنعش السوق السوداء
واستغلال الناس عن طريق فرض رسوم مرتفعة للحصول على النقد".
ويلفت إلى أن المشكلة ليست في نقص السيولة فقط، بل
في ضعف الثقة بين التجار والنظام البنكي، مشددا على أهمية تحسين البنية التحتية
البنكية، وتقديم حوافز للتجار لقبول المدفوعات الإلكترونية، إلى جانب قيام
المؤسسات الدولية بضخ سيولة نقدية لتخفيف الضغط، بجانب برامج توعية لتعزيز الثقة
بالتعاملات الرقمية.
ويفرض الاحتلال الإسرائيلي رقابة شديدة على النظام
المصرفي في فلسطين عموماً، الأمر الذي يعكس تحدياً اقتصادياً يزيد من عمق الأزمة
الإنسانية التي يعيشها الفلسطينيون، في ظل التداعيات الكارثية التي تسببت فيها حرب
الإبادة التي أدت إلى انهيار شبه تام للاقتصاد الفلسطيني في القطاع.