العدد 1662 /7-5-2025
يعيش الاقتصاد الفلسطيني في قطاع غزة
وضعاً كارثياً غير مسبوق من ناحية الأرقام والمؤشرات السلبية، بعد عام ونصف من حرب
الإبادة. ولعل الفارق أن تدمير الاقتصاد لم يكن وليد الحرب على غزة التي بدأت في
السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، بل نتيجة مسار طويل من الحصار والتجويع
والسياسات الاقتصادية الخانقة التي هدفت لسلب الفلسطينيين أي قدرة على بناء اقتصاد
حقيقي قادر على الاستمرارية والتنمية.
وبعد هذه السنوات العجاف التي عاشها
الاقتصاد الفلسطيني، جاءت الضربة القاضية التي تلقاها خلال الحرب، ليدخل رسمياً في
مرحلة موت سريري، بالتزامن مع استمرارية الحرب وحالة عدم اليقين التي يعيشها سكان
قطاع غزة. ويعيش قطاع غزة حصاراً شاملاً منذ عام 2006، فرضه الاحتلال الإسرائيلي،
كان أبرز ملامحه محو أي رفعة للاقتصاد عبر منع إدخال المواد الخام للمصانع،
والقيود الصارمة على حركة البضائع والأفراد، وتدمير ممنهج للقطاعات الاقتصادية
المحلية.
وخلال سنوات الحصار عملت إسرائيل على شل
جميع القطاعات الإنتاجية في قطاعي الصناعة والزراعة، بمنع إدخال المواد الخام وقطع
الغيار والمعدات ومواد البناء والأسمدة والوقود وغيرها، ليصبح قطاع غزة مجتمعاً
استهلاكياً يعتمد على المساعدات الخارجية دون أي بنية اقتصادية مستدامة.
في زقاقٍ صغير في شمال غزة، كان صوت
ماكينات الخياطة لا ينقطع داخل مصنع نضال الخالدي، صاحب المشروع الصغير الذي كان
يعجّ بالحياة والطموح. لأكثر من 10 سنوات، قاوم نضال ظروف الحصار، وعاند الأزمات،
مؤمنًا بأن العمل والإنتاج هما السبيل الوحيد للبقاء، لكن الحرب الأخيرة لم تترك
له شيئاً ليقاوم به.
قال نضال في حديث لـ"العربي
الجديد": "حاولنا الصمود خلال سنوات الحصار، ولكن كل شيء توقف نهائياً
مع بدء الحرب، ووقف إدخال المواد الخام وقطع الكهرباء بالكامل، لينتهي الأمر
بتحوّل مصنعي إلى كومة ركام". وأضاف: "توقف العمل وتوقفت معه أجور 13
عاملاً لم يعد لديهم دخل، ولا حتى أمل في عودة قريبة للعمل في ظل الوضع
الراهن". وتابع: "كنت أضخ ما نصنعه من ملابس في السوق المحلي، وخططت
للتوسع، لكن القصف دمر المصنع بالكامل ودمر معه أحلامنا في الارتقاء بالصناعة
والتصدير".
ومع نهاية عام 2024، شهد قطاع غزة
انكماشاً حاداً في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تجاوزت 82%، ما أدى إلى ارتفاع
معدل البطالة لأكثر من 80%. ووفق تقديرات أولية، فإن الأنشطة الاقتصادية في قطاع
غزة شهدت هبوطاً كارثياً، حيث انخفضت الإنشاءات بنسبة 98%، لتصل قيمتها إلى 332
مليون دولار، مع تراجع الصناعة بنسبة 90%، لتبلغ 1,038 مليون دولار.
وقدّر تقرير للأمم المتحدة في فبراير/شباط
2025، تكلفة إعادة إعمار قطاع غزة بـ 53 مليار دولار، مع تخصيص أكثر من 20 مليار
دولار للسنوات الثلاث الأولى. بدوره، حذّر المختص في الشأن الاقتصادي، محمد بربخ،
من استمرارية الوضع الاقتصادي الراهن وتأثيره بمستقبل الاقتصاد الفلسطيني في
القطاع، داعياً إلى تحرك فوري وشامل لإنقاذ ما تبقى.
وقال بربخ في حديث لـ"العربي
الجديد": "دمار واسع طاول أكثر من 85% من البنية التحتية الاقتصادية في
قطاع غزة، وتوقف نحو 90% من المصانع والمنشآت الصغيرة والمتوسطة عن العمل،
وبالتالي ما لم تكن هناك يد حقيقية للفلسطينيين وضمان ممرات آمنة لإدخال السلع
والمواد الخام، فإن الاقتصاد الغزي يتجه نحو الانهيار الكامل".
وأضاف: "الحل لا يكمن فقط في الدعم
الإنساني المؤقت، بل في تبنّي خطة حكومية شاملة للتنمية المستدامة، يشارك فيها
الجميع من مؤسسات حكومية ومجتمع مدني، بهدف إعادة بناء ما دمره الاحتلال وخلق فرص
حقيقية للنهوض".
وأشار بربخ إلى أهمية تفعيل قوانين طارئة
تتماشى مع الوضع الراهن، وعمل وزارة الاقتصاد عليها لضمان سير عمل حماية المستهلك
بشكل سليم، بما يحمي المواطنين من استغلال الأسعار في ظل تراجع القدرة الشرائية.
وأضاف: "نحن بحاجة إلى خطة تشغيل جديدة تُعنى بإعادة تأهيل السوق، وتقلل من
معدلات البطالة التي وصلت إلى مستويات قياسية، بعد أن فقد عشرات الآلاف من العمال
وظائفهم".
ومع شلل القطاعات الإنتاجية ومنع السلطات
الإسرائيلية إدخال الأموال والسيولة النقدية، باتت الأسواق الغزية تعاني من تراجع
خطير في القدرة الشرائية، ما ينذر بكارثة اقتصادية قد تمتد آثارها لسنوات إذا لم
يحصل التدخل سريعاً.
أستاذ الاقتصاد في جامعة الأقصى، عماد
لبد، أكد أن ما يحدث في غزة نموذج واضح لاستخدام الاقتصاد سلاحاً، حيث لا تكتفي
إسرائيل بالهجوم العسكري، بل تسعى لإبادة الحياة الاقتصادية وتجويع السكان حتى
الاستسلام".
وقال لبد "الحرب الحقيقية لا تقتصر
على قصف المباني، بل تطاول قوت الناس وأدوات إنتاجهم، حيث نجحت إسرائيل خلال سنوات
الحصار في تحويل اقتصاد غزة من منتج إلى مستهلك بامتياز، لتعدم أي حديث عن تنمية
حقيقية، في ظل ارتفاع نسب البطالة والفقر، والاعتماد المتزايد على المساعدات
الدولية عامًا بعد آخر".
وأوضح أن الخروج من هذا النفق الاقتصادي
المظلم يبدأ بخطوات جادة وعاجلة، تتمثل برفع كامل للحصار الاقتصادي عن غزة، وفتح
جميع المعابر لضمان حرية الحركة وإدخال المواد الخام دون قيود، وتمويل دولي فوري
لبرامج الإنعاش وإعادة الإعمار، ودعم مباشر للقطاع الخاص، خصوصاً الصناعات الصغيرة
والمتوسطة". وأشار إلى أنه ما دام الوضع الحالي قائماً، فإن الحديث عن أي
عمليات تنمية في قطاع غزة يعتبر أوهاماً، مؤكداً أن ما يجري ليس فقط حرباً على
البنية التحتية، بل هدم ممنهج لكل مقومات البقاء الاقتصادي والمعيشي في قطاع غزة".