العدد 1653 /26-2-2025

خبَّاب بن مروان الحمد

حدَّثني أحد الإخوة الدعاة الفضلاء عن قصَّة شاب لم يبلغ السابعة عشرة من عمره، وكان يجري همُّ الدعوة في قلبه في كل وقت، وحين يقدم شهر رمضان كان يتهيَّأ له بالصالحات والبر والطاعات، ومن ذلك أنَّه كان يقف في نهار رمضان قبل أن يفطر الناس بربع ساعة على جانب الطريق، ثمَّ يذهب إلى مكان اصطفاف الناس وازدحامهم بسياراتهم عند الإشارات المروريَّة المتوقفة بضع دقائق، ويقوم بتوزيع الإفطار على أولئك الصائمين في سياراتهم مما تيسَّر من الرطب والكعك، ويرفق ذلك بمطويات دعويَّة ونشرات توجيهيَّة تحث على نشر الدين والفضيلة ومكارم الأخلاق، بابتسامة مشرقة، ووجه مضيء بالإيمان، نحسبه كذلك، وقد بقي على ذلك عدَّة سنوات يقوم بهذا العمل الفضيل.

وأثناء قيامه بهذا العمل كعادته في أحد الأيَّام، جاءت سيَّارة مسرعة عند تلك الإشارة، وقد كان واقفًا قربها فاصطدمت به فأرْدَتْه قتيلاً مضرَّجًا بدمائه، وهو صائم لله عزَّ وجل، يقوم بتفطير الصُّوَّم، وإدخال السرور عليهم وعلى أولادهم، ويدعوهم إلى الله تعالى فهنيئًا له عمله ذلك، وتقبَّله الله تعالى في جنانه.

لقد أثَّرت هذه القصَّة في نفسي كثيرًا، وتذكَّرت حين سمعتها ذلك الحديث الذي رواه الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعًا إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "إذا أراد الله بعبد خيرًا استعمله"؛ فقيل: كيف يستعمله يا رسول الله؟ قال: "يوفقه لعمل صالح قبل الموت" (أخرجه الترمذي برقم: 2142، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح).

ولو قارنَّا بين ذلك الشاب الداعية رحمة الله عليه وكثير من المسلمين في شتَّى البقاع الذين يمر عليهم رمضان تلو رمضان دون أن يغتنموا فيه تلك الفرص الجليلة التي قلَّما أن تجتمع بشهر كما اجتمعت في هذا الشهر، لوجدنا بينه وبينهم بونًا شاسعًا وفرقًا هائلاً فيمن يغتنم وقته بالطاعات ومن يغتنمه بالموبقات!.

ولو أردنا أن نحرِّك أفكارنا، ونستخدم أذهاننا لالتقاط تلك الفرص والمغانم والمكاسب والثروات التي نستطيع أن نجنيَها أو أن نبذرها في هذا الشهر لطال بنا المقام، ولأدركنا قيمة هذا الشهر العظيم وما فيه من خيرات وبركات تنهال علينا ونحن عنها غافلون.

ففي هذا الشهر نستطيع أن نفعِّل الكثير من المشاريع الدعوية والأفكار الإصلاحيَّة، ونبذر الأعمال الصالحة، وننتهج سبل أهل الخير والسبق في استغلال الأوقات الفضيلة بما يفيد أمَّتنا ومجتمعنا.

لماذا رمضان فرصة؟

لو تفكَّر كل واحد منَّا في طبيعة حياته ومسيرة أوقاته، فسيدرك أنَّنا نعيش كل ثانية وكل دقيقة بفرصٍ وأنفاسٍ لن تعود، وأنَّ هذه الأيام التي نقطعها ونفرح بها لبلوغ غاية أو لنيل مقصدٍ محبَّبٍ للنفس؛ ستئول في النهاية إلى النقصان من العمر، سواءٌ شعرنا أو لم نشعر، وحينها لا مناص ولا فرار من الله إلاَّ إليه لاغتنام هذه الأوقات بالنافع المفيد وترك اللهو واللعب والأوقات الفارغة التي لا تسمن ولا تغني من جوع؛ بل قد تجلب الحسرة والمرارة التي تعتصر قلب المرء، يوم أن يقول لربه: ﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ... (100)﴾ (المؤمنون).

إنَّ من أعظم الفرص، بل هي الجامعة لكل الفرص التي نجتنيها ونكتسبها في شهر رمضان؛ فرصة العبوديَّة لله والقيام بحقِّه، والتوجه والافتقار إليه والانطراح بين يديه؛ فهي الحقيقة الكبرى في الكون والحياة، وجميع الفرص الأخرى متفرِّعة عن هذا الأصل العظيم الذي تندرج وتصب فيه كل أعمالنا وعباداتنا ومعاملاتنا.

اغتنم فرصك واكتسبها

يختلف الذين يستقبلون شهر رمضان، ولهم في ذلك طرق مختلفة ومتنوعة؛ فمنهم من يستقبله باللهو واللعب، ومنهم من يستقبله بالأكل والشرب، ومنهم من يستقبله بالنوم، ومنهم من يستقبله ببرمجة وقته لمشاهدة البرامج والمسلسلات عبر شاشة الرائي (التلفاز)، إلى غير ذلك من أنواع الاستقبال.. وذلك هو استقبال المفرِّطين الذين لم يدركوا حقيقة فضائل هذا الشهر، ومنافع أيامه، وفوائد لياليه، وعظمة شعيرته.

غير أنَّ المؤمن السبَّاق لعمل الصالحات يستقبله بالمسارعة إلى عمل الخيرات، وتجنُّب المنكرات، متمثِّلاً قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (آل عمران: 133).

والمسابق لعمل الخيرات واقتناص الفرص شيمتُه التطلُّع والترقب لكل فرص الخير وغنائم البر ومعارج القبول؛ ليتقرب بها إلى ربِّ العالمين؛ ابتغاءَ مرضاة الله تعالى، وخوفًا من أليم عقابه.

والمسابق لعمل الخيرات يعلم يقينًا أنَّ الله تعالى حثَّ عباده على المسارعة والمسابقة لعمل الخيرات، كما قال عز وجل: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ (المائدة: من الآية 48) وقال عزَّ وجل: ﴿إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ﴾ (الجمعة: من الآية 9)، ولكنه في أمور الدنيا يعلم أنَّ مسارعته فيها والمسابقة لطلبها تخالف المنهج القرآني الذي قال: ﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ﴾ (الملك: من الآية 15) وقال: ﴿وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا﴾ (القصص: من الآية 77) فهو يلحظ أنَّ الأمر أتى بالمسارعة في عمل الخير وطلب البر لنيل ثواب الآخرة، وأمَّا الدنيا فلا مسارعة في ابتغائها ولا مسابقة في طلب متعها الزائلة، ولهذا نجده سبحانه وتعالى حث على المسارعة في الآخرة، والسعي لذكر الله تعالى، وأمَّا في الدنيا فقال: ﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا﴾، وفرقٌ كبير بين المسارعة والمسابقة وبين المشي، ولهذا جعل سبحانه وتعالى أصل عمل العبد في نيل ثواب الآخرة والسعي لطلب الأجر من الله، ولكن في أمور الدنيا قال تعالى: ﴿وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا﴾.

وحين نرجع البصر متأمِّلين في هذه الآيات نجد أنَّ طلب الدنيا استخدم معه المشي، لأنَّ طلب الإنسان للدنيا غريزة في النفس؛ والغرائز لا تحتاج لتكليف أو تشويف، بينما السعي للآخرة تكليف فاقتضى طلب المسارعة، فالإنسان لا يحتاج لدفع كي يحرص على طلب الدنيا بخلاف العمل الصالح.

فما أجدرنا بالقيام بحق الله تعالى لاغتنام هذه الفرص الرمضانية، والمنح الربانيَّة، والعطايا السخيَّة التي اجتمعت لنا لكي نقوم بها في هذا الشهر العظيم.