العدد 1581 /27-9-2023
بحري العرفاوي
من مظاهر تلبيس
إبليس على كثير من الناس وخاصة على المتدينين أنه يوهمهم بكونهم ليسوا معنيين بسنن
التاريخ وليسوا مقصودين بخطاب الوعيد الإلهي، إنه يوهمنا بأننا معنيون فقط بآيات
الوعد وخطاب النعيم والثناء لكوننا مؤمنين أو متدينين.
مثل هذا التلبيس
يجعلنا ننظر إلى كل خيبة نقع فيها على أنها امتحان رباني وابتلاء، أو على أنها
نتيجة تآمر الأعداء علينا، فلا نربطها بالأسباب ولا نراجع أنفسنا ولا نقف على
مواطن تقصيرنا وأخطائنا وحتى ظلمنا لأنفسنا ولغيرنا، بل وحتى فسادنا وإفسادنا
لكوننا بشرا يعترينا الضعف والخوف والجهل والتقصير والخطأ والخطيئة، ومثل هذا
الوهم يمنعنا من إصلاح أنفسنا ومن تحمّل مسؤولياتنا ومن الاعتراف للناس بأخطائنا،
في حين نظل ننظر لما يصيب الآخرين من سوء وخيبة بكونه عقابا إلهيا بسبب سوء
علاقتهم بالدين أو بسوء تعاملهم معنا نحن، فلا نربط أيضا بين ما أصابهم وبين أسباب
موضوعية سارية في التاريخ.
التلبيس معيق
للتفكير ومُخرّب للوعي ومنتج للكسل والتواكل، ومعطل لكل عملية نقد ذاتي أو مراجعة
لما سبق منا من فهم ومن فعل في علاقة بأنفسنا وبالآخرين، فلا نظن أننا معنيون
بآيات "الظالمين" وإنما نظنها خاصة بغيرناهذا التلبيس معيق للتفكير
ومُخرّب للوعي ومنتج للكسل والتواكل، ومعطل لكل عملية نقد ذاتي أو مراجعة لما سبق
منا من فهم ومن فعل في علاقة بأنفسنا وبالآخرين، فلا نظن أننا معنيون بآيات
"الظالمين" وإنما نظنها خاصة بغيرنا.
فحين نقرأ قول
الله تعالى "فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر" فإننا كثيرا ما نقرأ الآية خارج
معنى "حسم" التاريخ الذي يحكمه قانون، فنظن أن غيرنا هم المعنيون بها،
ولا نجد أنفسنا معنيين، وذاك هو الخطأ في فهم العدل الإلهي الكامن في قانون
التاريخ، إن ذاك "الأخذ" إنما هو لحظة انتهاء مسار معين إلى نتيجة هي من
جنسه، فذاك هو "الأخذ" وذاك هو العدل.
"وَلَوْ
أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ
مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ
يَكْسِبُونَ" (الأعراف: 96).
فـ"الأخذ"/
"الحسم" هو في علاقة سببية بـ"الكسب"، وهي الأفعال التي
نأتيها بإرادتنا أو بغير إرادتنا، فالتاريخ لا يبرر لنا ولا يفسر إنما يأخذ ويحسم.
"وحين
نقرأ "قُلْ جَاءَ الحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الباطلُ وما يعيد" (سبأ: 49)،
فإن تلبيس إبليس يجعلنا نفهم الآية كونها بُشرى لنا نحن بقرب النصر على
"أعدائنا" سواء من أعدائنا في الدين أو خصومنا في السياسة، وهذا الفهم
يحيد بنا عن الإيمان بالعدل الإلهي الكامن في قانون التاريخ.
المشاريع البشرية
التي لا تمتلك مقومات التأسيس إنما تكون وتستمر طالما ظل الحق غائبا، وهي إذا ما
توفرت شروط قيام الحق تزول آليا ولا تملك مقومات عودتها، فمن عجز عن الاستمرار
إنما هو عن العود أعجز
إن مجيء الحقّ
إنما هو تحقّق لشروط مرحلة الانتصار، فالحق قيمة مطلقة سواء تحقق واقعا أم لم
يتحقق، والمجيء هنا بمعنى التحقق، أي تحوله من قيمة مفارقة إلى حقيقة مرئية في
عالم الناس وفي مسار التاريخ، ولا يكون ذلك إلا بتوفر الشروط الموضوعية والقيمية،
فلسنا إزاء غلبة يُحققها الغالب المقتدر بالقوة، إنما نحن إزاء تحقق العدالة
المستحقة بالسعي وبالقيم في آن. لقد جاء الحق بعد غياب، ولم يغب إلا لكون شروطه
لم تتوفر، وحين يغيب الحق يملأ الباطلُ الفراغ، ويظل الباطل قائما طالما عجز الحق
عن التحقق لعجز أهله،
وإذا جاء الحق
فإن الباطل يزول حتما لأنه لا يملك حظوظ المقاومة ولا حظوظ البقاء، فهو لا
"يُبدئ" ولا "يُعيدُ"، بمعنى أنه لا يملك شروط التأسيس
(البدء) فهو عاجز بذاته وقادر بعجز غيره، وهو يحضر لا لمقومات حضور متوفرة فيه،
إنما يحضر لغياب الحق. وإذا جاء الحق واختفى الباطل فإن حظوظ عود أهل
الباطل مفقودة، فمن كان عاجزا عن البدء فإنه عن العود أعجزُ.
إن المشاريع
البشرية التي لا تمتلك مقومات التأسيس إنما تكون وتستمر طالما ظل الحق غائبا، وهي
إذا ما توفرت شروط قيام الحق تزول آليا ولا تملك مقومات عودتها، فمن عجز عن
الاستمرار إنما هو عن العود أعجز. ليس للتاريخ عاطفة وليس لميزان العدل أهواء،
وإننا نسيء لأنفسنا وللتاريخ ولميزان العدل حين نتوهم أن واقعنا ومستقبلنا في غير
علاقة بالأسباب أي بما كسبت وستكسب أيدينا.