العدد 1436 / 11-11-2020
بقلم
: سيف الدين عبد الفتاح
حمل
عبد الرحمن الكواكبي في مشروعه الفكري هَم أمته، وتشخيص أسباب ضعفها ووهنها،
وتدهور حالها ومكانتها. وهو يعرض، في مؤلفه الأول، "أم القرى"، نموذج
محاكاة للأمة، في اجتماع يضمّ مُمثلي الأمَّة الإسلاميَّة في مكة المكرمة، (ومن
كُناها أمّ القُرى وهو اسم الكتاب)، تحت لواء الكواكبيّ نفسه الذي كنَّى نفسه
"السيِّد الفُراتي". ونرى في الكتاب تمثيلًا لاجتماع حقيقي، وقد أرَّخ
الاجتماع الأول منه لسنة 1316 هـ. وغرض الكتاب هو الوصول إلى حقيقة داء الأمة. وقد
قسَّم المشكلات والتحدّيات التي رآها في الأمة الإسلاميَّة إلى نمطَيْن من
المشكلات والتحديات: نمط يشير الى النفسية الجماعية، وهي "حالة فتور الأمّة
الإسلاميَّة"، وهي في نظره الأشدّ خفاءً. ولعلّ إدراك مثل هذه المشكلة
الدقيقة هو ما يميّز الكواكبي من بين جيل المُصلحين. ونمط يشير الى مظاهر
الاستبداد وشبكة علاقاته؛ ومن الممكن أن تقول عن هذين النمطين إنَّهما نظريتان في
رؤية الجانب المُعضِل المُشكِل في الأمّة، وربما نؤكّد أن الكواكبي جمع، في رؤيته،
بين الجانبين، من حيث عملية الاستطراق والتأثير المتبادل فيما بينهما؛ فحالة
الفتور واللامبالاة إنما تنتج في النهاية حالة الاستبداد.
ويُركِّز
كلّ الباحثين في تجربة الكواكبي على مناقشته مسألة الاستبداد السياسي، والتي اشتهر
بها، ويغفل الغالب منهم رؤيته لإشكالات فتور الأمة الإسلاميَّة وأزمتها وتمحيصها
من بين كل المفكّرين من أبناء جيله وغيره من الأجيال من المثقفين والمفكرين، فإن
غالبهم يركّزون جهدهم على العوامل الفكريّة، لا النفسيّة الجمعية، حتى مَنْ قال
بهذا الجانب النفسي، أو لمح إليه من المفكرين لم يجعله أساسا، إنما أشار إلى تضمين
كلامه عن الأفكار الخاطئة المسيطرة على المسلمين. ويعبر الكواكبي عن منهجه
الاستقصائي في التحليل والتحقيق، مشيرا إلى تحفظه على رد أزمة الأمة إلى أسبابٍ لا
تستوعب معاني فتور الأمة في أشكالها المختلفة، رابطا إياها بجرثومة النظر الزائف
إلى الدين، وأن ذلك النظر ليس بعيدا عن المسألة الاستبدادية، حينما يسوغ للاستبداد
وعبادة الظالمين.. "إني نشأت وشبت، وأنا أفكِّر في شأننا الاجتماعي، عسى
أهتدي لتشخيص دائنا، فكنتُ أتقصّى السبب بعد السبب، حتى إذا وقعتُ على ما أظنُّه
عاماً، أقول: لعلَّ هذا هو جرثومة الدّاء، فأتعمَّق فيه تمحيصاً وأحلِّله تحليلاً،
وطالما أمسيتُ وأصبحتُ أجهد الفكر في الاستقصاء، وكثيراً ما سعيتُ وسافرتُ لأستطلع
آراء ذوي الآراء، عسى أهتدي إلى ما يشفي صدري من آلام بحثٍ أتعبني به ربِّي. وآخر
ما استقرَّت عليه سفينة فكري هو أنَّ جرثومة دائنا هي خروج ديننا عن كونه دين
الفطرة والحكمة، دين النظام والنشاط، دين القرآن الصريح البيان، إلى صيغة أنَّا
جعلناه دين الخيال والخبال، دين الخلل والتشويش، دين البِدَع والتشديد، دين
الإجهاد. وقد دبَّ فينا هذا المرض منذ ألف عام، فتمكَّن فينا وأثَّر في كلِّ
شؤوننا، حتى بلغ فينا استحكام الخلل في الفكر والعمل أننا لا نرى في الخالق جلَّ
شأنه- نظاماً فيما اتَّصف، نظاماً فيما قضى، نظاماً فيما أمر، ولا نطالب أنفسنا
فضلاً عن آمرنا أو مأمورنا بنظامٍ وترتيبٍ واطِّراد ومثابرة".
يجب
تفعيل الرقابة والمحاسبة ضمن فاعليات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومقاومة كل
مسالك الظلم والعدوان على حرمة النفس وحقوق الإنسان.
هذه
الأمور المرتبطة بالزيف الديني والتدين المغشوش قد أثرت على الاعتقاد والفكر
والسياسة ومناحي الحياة المختلفة؛ هذا التشوش العام والشامل أدّى إلى ضياع الدين
والدنيا معا من الساسة وعلماء النفاق، من دون أي ممارسة حقيقية لإعمال أسس
الفاعلية والانخراط في فاعلية عمليات المشاركة الحقيقية في الرقابة والمحاسبة ضمن
فاعليات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومقاومة كل مسالك الظلم والعدوان على
حرمة النفس وحقوق الإنسان. "وهكذا أصبحنا واعتقادنا مشوَّش، وفكرنا مشوَّش،
وسياستنا مشوَّشة، ومعيشتنا مشوَّشة. فأين منا والحالة هذه؛ الحياة الفكرية،
الحياة العملية، الحياة العائلية، الحياة الاجتماعية، الحياة السياسية؟!"؛
"يا قومُ: قد ضيَّع دينكم ودنياكم ساستكم الأولون وعلماؤكم المنافقون، وإنّي
أرشدكم إلى عملٍ إفراديٍّ لا حرج فيه علماً ولا عملاً: أليس بين جنبي كلِّ فردٍ
منكم وجدان يميز الخير من الشرّ، والمعروف من المنكر ولو تمييزاً إجمالياً؟ أما
بلغكم قول معلِّم الخير نبيكم الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم: "لتأمرنَّ
بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر أو ليسلِّطنَّ الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا
يستجاب لهم”، وقوله: "من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده، وإن لم يستطع
فبلسانه، وإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"؟!، "وأنتم تعلمون
إجماع أئمة مذاهبكم كلِّها على أنَّ أنكر المنكرات بعد الكفر هو الظُّلم الذي فشا
فيكم، ثمَّ قتل النَّفس، ثمَّ، وثمَّ، .. منظومة الفاعلية في الممارسة في سياق
الممارسة الواعية والمؤثرة بالعمل من خلال الفهم الحقيقي للهمة، والاهتمام بما
يفرضه فرض الكفاية، وهو ما يعني عمل الأفراد والمجتمعات ما عليهم فعله من غير
انتظار فعل الغير، ضمن حالة من الفاعلية في مواجهة حالات الفتور واللامبالاة
"بناءً عليه؛ فالدين يكلِّفكم إن كنتم مسلمين، والحكمة تُلزِمكم إن كنتم
عاقلين: أن تأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر جهدكم، ولا أقلّ في هذا الباب من
إبطانكم البغضاء للظالمين والفاسقين، وأظنّكم إذا تأمَّلتم قليلاً ترون هذا الدواء
السهل المقدور لكلِّ إنسانٍ منكم، يكفي لإنقاذكم مما تشكون. والقيام بهذا الواجب
متعيّن على كلِّ فرد منكم بنفسه، ولو أهمله كافّة المسلمين. ولو أنَّ أجدادكم
الأولين قاموا به لما وصلتم إلى ما أنتم عليه من الهوان. فهذا دينكم، والدّين ما
يدين به الفرد لا ما يدين به الجمع، والدين يقينٌ وعمل، لا علمٌ وحِفظٌ في
الأذهان. أليس من قواعد دينكم فرض الكفاية وهو أن يعمل المسلم ما عليه غير منتظرٍ
غيره؟".
فهم
مقتضى الفاعلية هو الذي يطرد وهم الفاعلية ومسالك التواكل، والوعي بمقتضيات كلمة
التوحيد من حرية واختيار وعدل واعتدال ومساواة من غير عنصرية أو تمييز، وإلا سقطت
الأمة في خبل عبادة الظالمين من دون الله والخنوع الذليل قبل المستبدّين "..
لا يغرَّكم دين لا تعملون به، وإن كان خير دين، ولا تغرنَّكم أنفسكم بأنَّكم أمّة
خير أو خير أمّة، وأنتم المتواكلون المقتصرون على شعار: لا حول ولا قوّة إلا بالله
العلي العظيم. ونِعْمَ الشِّعار، شعار المؤمنين، ولكن؛ أين هم؟ إني لا أرى أمامي
أمَّةً تعرف حقاً معنى لا إله إلا الله، بل أرى أمَّةً خبلتها عبادة
الظالمين!". إنه بيان الكواكبي لالتزام أصول الترقي في مواجهة طبائع
الاستبداد ومصارع الاستعباد.