العدد 1643 /18-12-2024
ربّما
لم يتوقّع أحد أن ينهار ويسقط نظام بشّار الأسد في دمشق بهذه السرعة والطريقة،
ولكنّ المفاجأة كانت صادمة للجميع، خاصة لأولئك الذين كانوا يراهنون على أنّ بقاء
النظام مستمرّ بفعل الغطاء الدولي والتواطؤ الإقليمي الذي أمّن له الاستمرار ومكّنه
من البقاء في الحكم بعد استخدام البراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية وأبشع أنواع
الممارسات الإجرامية دون محاسبة على هذا الإجرام. صُدم هؤلاء لأنّهم اعتقدوا أنّ
الشعب السوري ملّ المواجهة، والغطاء الدولي بات أكثر حاجة للنظام خاصة وقد فرد
سلطته وسيطرته على مناطق واسعة من الجغرافيا السورية حتى راح رأسه (بشّار) ينظّر
على العالم كما حصل في القمّة الإسلامية الأخيرة بالرياض؛ غير أنّهم صُدموا
وفوجئوا أنّ المعارضة استطاعت خلال أيّام قليلة الوصول إلى دمشق وإسقاط النظام،
وهو ما أحدث زلزالاً قويّاً في المنطقة كلّها وليس في سورية فحسب، وهو ما ستظهر
تداعياته ونتائجه مع المقبل من الأسابيع والشهور. فماذا عن لبنان، وهو البلد الذي
لا يملك حدوداً بريّة مفتوحة إلاّ مع سورية، وهو البلد الذي تتداخل فيه العلاقات
الاجتماعية والأسرية والاقتصادية وغيرها مع سورية، وهو البلد الذي يكاد يقال إنّ
اللبنايين والسوريين شعب واحد ولكن في دولتين؟
لقد
مارست سورية وصايتها على لبنان اعتباراً من العام 1990 تاريخ إقرار وثيقة الوفاق
الوطني (اتفاق الطائف) وظلّت طيلة خمسة عشر عاماً مهيمنة على القرار اللبناني حتى
تاريخ انسحاب الجيش السوري من لبنان في نيسان 2005 فتراجعت نسبة هيمنتها قليلاً
ولكن لصالح قوى سياسية وحزبية وشخصيات أنتجها ورعاها النظام السوري خلال فترة
وصايته وتواجده في لبنان، وبالتالي ظلّ التأثير السوري في مجريات الأحداث
اللبنانية، سياسياً وأمنياً وعسكرياً واقتصادياً وغيره قائماً وحاضراً ومؤثّراً،
حتى أنّ بعض القوى اللبنانية انخرطت بشكل كامل في دعم النظام السوري بعد ثورة
الشعب عليه في العام 2011، وأرسلت مقاتلين دافعوا عن النظام كما لو أنّهم يدافعون
عن أنفسهم، وهو ما أحدث شرخاً كبيراً في الحياة اللبنانية، حتى أنّ بعضهم أبدى
استعداداً للذهاب من جديد للدفاع عن النظام في لحظة كان النظام يلفظ أنفاسه
الأخيرة، في مقابل تأييد واسع وعارم من اللبنانيين لمطالب الشعب السوري المحقّة.
اليوم
وبعد أن أُسقِط النظام وهرب رئيسه إلى روسيا، وتشتّت رموزه ومسؤولوه في أصقاع
الأرض، وبعد أن فرضت قوى المعارضة سيطرتها على كامل الجغرافيا السورية تقريباً
(باستثناء شرق الفرات حالياً) وشكّلت حكومة تسيير أعمال وهي تتجه نحو بناء نظام
حكومي جديد مختلف كلّياً عن المخلوع، فإنّ لبنان سيتأثّر بكلّ تأكيد بهذا التطوّر
والمستجد، حتى لو لم يكن في أجندة الحكم الجديد أيّة نيّة للتأثير في لبنان، ولكن
بحكم الجغرافيا والتداخل الاجتماعي والاقتصادي وخلافه.
لعلّ
أول مظهر من مظاهر تأثّر لبنان بالمستجد السوري ستظهر في إرساء حالة من التوازن
الداخلي اللبناني بين مكوّنات الوطن، وإنهاء معادلة الغلبة لفريق كان يحظى بدعم
النظام المخلوع، وبالتالي كان يملك القدرة على تعطيل البلد وشلّها بحسب أهوائه
ومصالحه السياسية، ولعلّ في مسألة تعطيل انتخاب رئيس جديد للجمهورية أبرز مثال على
ذلك، فضلاً عن التحكّم بالكثير من القرارات المصيرية التي تعني اللبنانين كافة،
والتي كانت إلى الأمس مُصادَرَة من قبل حلفاء النظام المخلوع. ولذلك فإنّ فرصة
انتخاب رئيس جديد للجمهورية في لبنان بعد فراغ في سدّة الرئاسة الأولى دخل عامه
ثالث، باتت الآن أكثر حظوظاً من قبل أسبوعين على أقلّ تقدير، لأنّ القوى
المُعطِّلة فقدت عنصراً مهمّاً من عناصر قوتها وقدرتها على التعطيل.
الأمر
الآخر يتعلّق بإمكانية وفرصة بناء دولة
حقيقية يتكافأ فيها اللبنانيون بالحقوق والواجبات، دولة قانون لا تكون فيها الغلبة
لفئة، أو تكون فيها امتيازات لفئة دون فئات أخرى، والجميع في لبنان يدرك ويعرف
الامتيازات التي كانت تحظى بها الفئات المحسوبة على النظام المخلوع، سواء أمام
القانون أو القضاء، أو لناحية احتكار السلاح خارج إطار مؤسسات الدولة. بعد المستجد
السوري سيكون من الصعوبة أن تحافظ تلك الفئات على تلك الامتيازات، ليس لأنّ الحكم
الجديد في سورية سيتدخّل لمنع ذلك، أبداً، ولكنّ لأنّ اللبنانيين أساساً كانوا
يرفضون ذلك ويعملون على تغييره ولكنّهم كانوا يصطدمون دائماً بالدعم الذي كان
يوفّره النظام المخلوع لتلك الفئات، وبالتالي يجعلها تضرب بعرض الحائط كلّ محاولات
بناء دولة مؤسسات حقيقية.
وأمّا
الأمر الثالث فيتعلّق بفرصة منع التهريب وضبط الحدود بشكل جدّي حقيقي، وهو مطلب
لبناني قديم، هناك فرصة حقيقية أمام ذلك في ضوء ما جرى الحديث عنه من رسالة وصلت
من الحكم الجديد في سورية إلى الجانب اللبناني يبدي فيها الحكم الجديد الاستعداد
للتعاون في هذا المجال. كما هناك فرصة أخرى تتصل بعودة اللاجئين السوريين إلى
ديارهم في ضوء استتباب الأمن بشكل تدريجي وعودة الحياة إلى طبيعتها في سورية، وهو
ما سيجعل السوريين يعودون إلى بلداتهم ومدنهم، وهم بدأوا بالعودة فعلاً، وهو مطلب
لبناني في ظلّ الأزمة الاقتصادية التي عصفت بلبنان. كما هناك فرصة حقيقية بعد
الشروع في إعادة إعماء سورية ليكون للبنان نصيب من هذا الإعمار عبر موانئه
وأراضيه.
لبنان
بعد إسقاط نظام الأسد سيكون أفضل حالاً، خاصة إذا تمكّن الحكم الجديد من توحيد
سورية وفرض الأمن والاستقرار وبناء دولة مؤسسات لكلّ السوريين، سينعكس ذلك بشكل
إيجابي كبير على لبنان، وستسقط كلّ دعوات التخويف التي يطلقها الخائفون من بناء
دولة مؤسسات.
د. وائل نجم