العدد 1630 /18-9-2024
د. وائل نجم

د. وائل نجم

عدوان جديد شنّه العدو الصهيوني على لبنان وهذه المرّة بشكل مختلف كلّياً عن المرّات السابقة، واستهدف فيه بالتفجير أجهزة الاتصال اللاسلكية المعروفة باسم "بييجر" والتي يحملها بشكل أساسي منتسبو حزب الله العاملون في قطاعات مختلفة عسكرية وأمنية ومدنية على أنواعها، وربما يحمله أيضاً مدنيون آخرون سيّما الذين يعملون في الحقل الطبّي وعلى وجه التحديد الأطباء منهم في المستشفيات، حيث يُعتبر الجهاز مثالياً في عمليات التواصل والاتصال بين إدارات المستشفيات والأطباء العاملين معها. وقد أدّى هذا العدوان الجديد والمفاجىء إلى استشهاد عدد من المستهدفين، وإلى جرح قرابة ثلاثة آلاف آخرين منهم، وقد غصّت بهم المستشفيات في أنحاء لبنان كافة.

الحكومة التي كانت مجتمعة أثناء حصول عملية العدوان بتفجير أجهزة الاتصال اتهمت العدو الصهيوني بالوقوف خلفه، وحمّلته المسؤولية الكاملة عن هذا العدوان، واعتبرته مسّاً بالسيادة اللبنانية وتجاوزاً لكلّ الأعراف والمواثيق والقوانين الدولية وفقاً لما أشار إليه وزير الإعلام بعد انتهاء جلسة الحكومة. وكذلك فعل حزب الله، المستهدف الأساسي بالعملية، حيث اتهم العدو الصهيوني بالوقوف خلفها، وتوعّد الحزب بالقصاص من العدو. وجرياً على عادته في الكثير من المرّات، فإنّ العدو الصهيوني لم يعترف بشكل رسمي بالعملية، ولم يكشف ولم يصرّح إذا ما كان هو يقف خلفها، مع إشارته ضمنياً إلى مسؤوليته عنها، لمعرفته الأكيدة أنّ التصريح بالمسؤولية عنها يعني دفع الثمن بشكل عاجل أو غير عاجل.

وعن تنفيذ العملية فإنّ الخبراء في هذا المجال يشيرون إلى احتمالين اثنين في طريقة تنفيذها. الأول وهو أن تكون أجهزة المخابرات التي نفّذت العملية قد علمت مسبقاً باستخدام حزب الله على نطاق واسع لهذه الأجهزة، وعلمت أيضاً بالشحنة التي طلبها حزب الله واستلمها على ما تقول بعض الروايات قبل حوالي خمسة أشهر، وعلمت كذلك المصدر الذي ورّد هذه الشحنة إلى حزب الله، فقامت هذه المخابرات بتفخيخ هذه الأجهزة أثناء التصنيع عبر عملاء لها يعملون في مصانع إنتاج هذه الأجهزة، أو من خلال تنسيق ذلك مع أجهزة مخابرات أخرى صديقة؛ أو ربما عمدت هذه المخابرات إلى استبدال الشحنة المرسلة من الشركة المصنّعة أثناء شحنها إلى لبنان، بشحنة مزيّفة من أجهزة الاتصال المطلوبة والمفحّخة دون معرفة شاحنيها، وقد وصلت الشحنة المزيفة إلى الحزب وتمّ توزيع الأجهزة على العاملين والمنتسبين، ومن ثمّ جرى تفجيرها بواسطة تقنية معيّنة تمّ زرعها أيضاً في الأجهزة. وبالطبع هذه عملية معقّدة وتحتاج إلى دقّة كبيرة في التنفيذ والمتابعة.

وإمّا الطريقة الثانية فهي أن تكون الجهة المنفّذة قد نفّذت العملية عن طريق تقنية معيّنة أرسلت فيها إلى أجهزة الاتصال المستهدفة موجة مغناطسية أو كهربائية أو من خلال برمجة معيّنة فجّرت بطارية الليثيوم المغذّية للجهاز بالكهرباء. وهذا احتمال وارد أيضاً، خاصة وأنّ بعض الخبراء يكشفون عن رمز سرّي لهذه الأجهزة يمكّن الشركة المصنّعة من تفجير الجهاز عند فقدانه أو عند انتفاء الحاجة إليه.

والحقيقة أنّ كلا الاحتمالين أو الطريقتين في التنفيذ يُعدّ ويُعتبر إنجازاً للمنفّذين، وهم مخابرات العدو الصهيوني، وفقاً للاتهام الرسمي والحزبي في لبنان. غير أنّ هذا الانجاز هو بحد ذاته جريمة مفضوحة ترقى إلى حدّ الإبادة الجماعية، خاصة وأنّ العملية استهدفت كل أجهزة الاتصال "بييجر" وكلّ من يحملها بغض النظر إذا كان منتمياً لحزب الله وعاملاً في أحد مؤسساته، أو كان بعيداً عن الحزب غير أنّه يعمل في مؤسسات تستخدم تقنية الاتصال هذه. والواضح أنّ عدد الجرحى كبير جدّاً وبينهم أطفال ونساء وأطباء وخلاف ذلك.

والحقيقة الثانية أنّ العدو الصهيوني في عدوانه على لبنان وفي جريمته المستمرّة في غزة وفلسطين، لا يميّز بين عسكري ومدني، بين مواطن ومواطن، بين طبيب ومقاتل، وأحد الأدلة على ذلك عندما استهدف منتصف شهر رمضان الماضي مركزاً للإسعاف في بلدة الهبارية في جنوب لبنان مرتكباً مجزرة واضحة بحقّ المسعفين حيث ارتقى في المجزرة سبعة مسعفين بصاروخ أطلقته طائرة حربية على مركز إسعافي وسط البلدة من دون أدنى اعتبار لا للمركز ولا للمدنيين المحيطين به.

والحقيقة الثالثة هي أنّ هذه العملية قرصنة واعتداء على لبنان وسيادته ومواطنيه دونما أيّ اعتبار لقانون أو سيادة أو حياد يدعو إليه البعض، ومن هنا فإنّ مخططات ونوايا هذا العدو لا تُؤمن، وعليه فإنّ اعتبار البعض أنّ الانكفاء عن مواجهة هذا العدو تجعل لبنان في مأمن من شرّه ليس صحيحاً ولا يمتّ إلى الواقع بصلة، بل على العكس من ذلك تجعل هذا العدو يستقوي أكثر على لبنان وأهله، ويمنحه فرصة ارتكاب أفضع الارتكابات بحقّ اللبنانيين عند كل منعطف لا يجد فيه نفسه راضٍ عنهم.

صحيح أنّ العدو سجّل إنجازاً في هذه العملية، ولكنّ الصحيح أنّها ليست نهاية المعركة، فهذا العدو ما يزال يعيش المأزق نفسه، وما زال يعيش المعاناة ذاتها، وعملية انهيار الثقة فيه وبه مستمرة في الداخل الصهيوني وفي الخارج، فما فعلته فيه معركة "طوفان الأقصى" لن يتعافى منه سريعاً، بل ربما لن يتعافى منه أبداً، لأنّه يدرك أنّ هذا الطوفان كان المسمار الأخير في نعشه الذي سيسقط وإلى الأبد.