العدد 1627 /28-8-2024
د. وائل نجم

د. وائل نجم

لم يعد ما يجري على أرض فلسطين سواء في غزّة حيث الإبادة الجماعة مستمرة ضمن سياسة ومنهجية تعتمدها قوات الاحتلال الإسرائيلي برعاية ودعم دولي وعجز وصمت عربي، أو في الضفة الغربية حيث نتابع التصعيد الكبير في ممارسات الاحتلال ضد الفلسطينيين وصولاً إلى استعمال الطيران الحربي أحياناً في مواجهة المنتفضين بوجه ممارسات الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني فيما نتنياهو مصرّ على إفشال كل محاولة للوصول إلى تهدئة وإلى وقف إطلاق النار، والتي كان آخرها قبل أيام مفاوضات القاهرة غير المباشرة والتي لم يكن حضها أوفر أو أحسن من مفاوضات الدوحة قبل أسابيع والتي تعثّرت أيضاً وفشلت بسبب التعنّت الإسرائيلي الذي يتجلّى في مواقف نتنياهو، ولكنّه في حقيقته يمثّل موقف أغلب القيادات الإسرائيلية.

أفشل نتنياهو كل محاولات الوصول إلى وقف لإطلاق النار، وأصرّ على مواصلة الحرب بهدف استعادة الأسرى وإنهاء حماس في غزة كما يدّعي ويزعم، غير أنّه في الحقيقة قتل الأسرى الإسرائيليين بسلاحه الحربي ولم يحرّر واحداً منهم، وجذّر حضور حماس، ليس في الساحة الفلسطينية في غزة فحسب، بل في عموم فلسطين وخارجها، بل حتى بين الشعوب العربية والإسلامية التي باتت تنظر إلى الحركة على أنّها أيقونة وليست شيئاً عادياً. فلماذا يفعل نتنياهو ذلك مع أنّه بإمكانه استعادة الأسرى عبر المفاوضات، وبإمكانه أيضاً أن يؤثّر على حضور حماس عندما لا يجعلها تخرج إلى الناس بصورة المظلوم والمستهدف والرافع لراية الأمّة.

نتنياهو والذين معه وخلفه لا يخوضون حرباً من أجل استعادة الأسرى أو من أجل القضاء على حماس، كلاً. إنّهم يخوضون حرباً من أجل السيطرة على فلسطين والقضاء على القضية الفلسطينية كمقدمة للهيمنة الكاملة والشاملة على كل المنطقة. هذا ما يريده نتنياهو ومن يقف خلفه، ولذلك فإنّ المفاوضات غير جادّة، لأنّ رعاية المفاوضات من قبل الطرف الأمريكي غير جادة، وهو الطرف الذي يريد أن يستحوذ على المنطقة ويفرض سيطرته عليها لمئة عام مقبلة. وبهذا الاعتبار أوكل إلى نتنياهو مهمّة إفشال المفاوضات في كل مرّة يتمّ فيها الوصول إلى تفاهمات ولو بالحدّ الأدنى. الشيء الوحيد المقبول لوقف إطلاق النار في عقل نتنياهو ومن يقف خلفه هو أن يرفع المقاومون والمفاوضون راية الاستسلام وينزلوا على شروطه حتى لو كان الحكم فيها هو الاعدام لهم، والسبي لذريتهم، والتسلّط على أموالهم وثرواتهم حتى لو كانت شخصية أو عامة، وهذا لن يحصل حتى لو استمرت الحرب لشهور أخرى، وحتى لو كان الثمن أضعاف ما دُفع لأنّه سيكون، بكلّ تأكّيد، أقلّ من ثمن الاستسلام ورفع الراية البيضاء.

نتنياهو وفريقه ومن يقف خلفه يرتكب المجازر بحق المدنيين؛ هذا صحيح وضمن الخطة الموضوعة للضغط من أجل الإخضاع. ولكن الصحيح أيضاً أنّ جيشه يعيش حالة استنزاف يومية حيث يدفع ثمناً باهضاً من أرواح جنوده وضباطه فضلاً عن الخسائر المادية التي لا تقلّ قيمة عن خسائر الشعب الفلسطيني. المعركة إذاً معركة صمود من أجل البقاء، وفي هذه المعركة لا يمكن الحديث عن أثمان، لأنّ البقاء هو أغلى الأثمان.

أمّا بالنسبة لجوار فلسطين، القريب منه والبعيد، فإنّ نتائج ما يجري في فلسطين سينعكس على كلّ المنطقة، القريب منها والبعيد. هذه معركة ليس فيها مكان للحياد؛ الحياد فيها يعني الانسحاب وترك تقرير مصير ومستقبل المنطقة للطامعين بها المستعدين لشعوبها، وهذا لا يمكن أن يكون في مصلحة أبناء المنطقة على الإطلاق، ولذلك فإنّ الجميع مدعو للانخراط فيها على قاعدة المشاركة في صناعة مستقبلها وقرارها، وهنا تحضر أوراق قوّة كثيرة لأبناء المنطقة على تنوّعهم من أجل حفظ منطقتهم لهم وعدم تركها للغرباء.

إفشال المفاوضات يعني استمرار الحرب لكنّه لا يعني تقرير النتيجة، فالميدان ما زال يزخر بالكثير من الطاقات والمفاجآت وما زال يختزن الكثير من نقاط القوّة، وما على أهل المنطقة وشعوبها سوى الثقة بقدرتهم على تحقيق الأحلام وصناعة المستقبل الواعد لهم ولأبنائهم.

بيروت في 28/8/2024