هل تأخذ الديمقراطية مجراها في جلسة انتخاب رئيس الجمهورية؟
العدد 1646 /8-1-2025 د. وائل نجم

يتطلّع اللبنانيون إلى جلسة مجلس النوّاب المقرّرة يوم التاسع من كانون الثاني الجاري والمخصّصة لانتخاب رئيس للجمهورية بعد فراغ وشغور في سدّة الرئاسية دخل عامه الثالث، وبعد إفشال قرابة 12 جلسة للانتخاب عبر الانسحاب من الجلسات وإفقادها النصاب القانوني وبالتالي استمرار الفراغ. لا شيء يوحي بأنّ الجلسة المقرّرة الخميس ستيكون مصيرها مصير الجلسات السابقة، وكذلك لا شيء يشي أنّها ستفضي إلى انتخاب رئيس أيضاً. الأجواء المحيطة بالجلسة والتي تسبقها ضبابية وغير واضحة، لا بخصوص مصير الجلسة وإمكانية الانسحاب منها وبالتالي إسقاط نصابها القانوني، ولا لناحية الشخصية التي يمكن أن تكون في نهايتها الرئيس العتيد المنتظر. لا شيء قطعي حتى الساعة بالنسبة للقوى السياسية المحلية والكتل النيابية التابعة لها، أمّا بالنسبة للقوى الدولية التي دخلت على خط الوساطة من أجل المساعدة، والتي لا تظهر على أنّها تتدخّل في الشأن الرئاسي اللبناني، غير أنّه من الواضح أنّ بعضها يريد قائد الجيش جوزيف عون رئيساً، وبعضها يريد مدير عام الأمن العام إلياس البيسري رئيساً، وبعضها لا يريد الاثنين إنّما يرغب في إيصال شخصية مدنية من دون أن يفصح عن ذلك، بينما تريد قوى إقليمية أخرى خارج دول الوساطة سليمان فرنجية رئيساً. بالنسبة للكتل النيابية فهي في حيرة من أمرها، تقول شيئاً وتريد شيئاً مختلفاً. رئيس المجلس النيابي وكتلتته النيابية يقول إنّه يريد سليمان فرنجية ولكنه لا يمانع وصول قائد الجيش غير أنّه يقول إنّ وصوله إلى سدّة الرئاسية يحتاج إلى تعديل دستوري. كتلة الوفاء للمقاومة تريد فرنجية ولا تضع فيتو على قائد الجيش ولكّنها لا تسهّل وصوله. وكذلك القوات اللبنانية لا تمانع وصول قائد الجيش غير أنّها تخفي رفضها بطلب ترشيحه وموافقة الثنائي الشيعي عليه. وحده التيار الوطني الحر، أو ما بقي منه كتلته يرفضون انتخاب قائد الجيش. الأسماء الأخرى المطروحة أقل فرصة بالوصول ولكنّ ذلك لا يعني انعدامها. فاللواء إلياس البيسري يحظى بموافقة الثنائي الشيعي المضمر، وكذكك التيار الوطني الحر، ولكنه لا يحظى بموافقة القوات وقوى أخرى. وهو يحتاج وفق رأي دستوري إلى 86 صوتاً تماماً كقائد الجيش العماد جوزيف عون، فيما يرى رأي دستوري آخر أنّه بحاجة إلى 65 صوتاً، ويبدو من السهل تأمينها فيما لو انعدت فرص قائد الجيش بشكل نهائي. هناك أسماء أخرى لها فرصة موازية ومكافئة لفرصة البيسري كما في ترشيح جهاد أزعور ونعمة افرام أو غيرهما، وفرص هذه الأسماء المطروحة تتوقف على مسار الجلسة واتجاهات الكتل النيابية فيها في ربع الساعة الأخير. الشيء الثابت حتى الآن أنّ المسألة الأولى تتصل بالمحافظة على نصاب الجلسة إذا لم يصار إلى انتخاب رئيس من الدورة الأولى، فعندها يمكن انتخاب رئيس في الدورة الثانية بـ 65 صوتاً. الأمر الثاني يتصل بحصول قائد الجيش العماد جوزيف عون على 86 صوتاً في الجلسة الأولى ليصبح رئيساً وهذا يتوقف على اتفاق كتلة الرئيس برّي ومعها كتلة حزب الله على ترشيح عون وموافقة القوات على ذلك حيث اشترطت هذا الأمر لدعمه وفق بيان رسمي وألقت بذلك الكرة في ملعب كتلتي أمل وحزب الله. وفي حال لم يتمّ ذلك فإن حظوظ القائد بالرئاسية تتراجع بشكل كبير جداً. الأمر الثالث إذا ما ذهبت الأمور إلى الدورة الثانية لانتخاب رئيس فإنّ فرص أزعور والبيسري وافرام تكاد تكون متوازية، وتتوقف على تصويت الكتل الرمادية. أمّا في حال قرّرت بعض الكتل الانسحاب من الجلسة وإسقاط نصابها القانوني كما في المرّات السابقة، فإنّ الأمر عندها سيكون مختلفاً وسندخل في أتون تواصل الفراغ، ولكن هذه المرّة قد تكون القوى المعطلّة للانتخاب غير تلك التي عطّلت الانتخاب طيلة الفترة الماضية. المجلس النيابي والكتل النيابية يوم الخميس على المحك، فإمّا أن تسير العملية الانتخابية واللعبة الديمقراطية وفق المجرى الطبيعي لكل عملية ديمقراطية انتخبابية، وإمّا أن يتواصل الفراغ ومعه الانهيار ومعه يدخل الوطن في أتون المجهول الذي قد يكون من نتائجه فقدان الكيان اللبناني.

بعد شهر على وقف إطلاق النار...ماذا ينتظر لبنان؟
العدد 1645 /1-1-2025

أكثر من شهر قد مرّ على اتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان و"إسرائيل" في السابع والعشرين من نوفمبر/ تشرين الثاني 2024 والخروقات الإسرائيلية مستمرة ومتواصلة كلّ يوم برّاً وبحراً وجوّاً، فيما لبنان يحصي هذه الخروقات التي قفزت عن مئتي خرق، سقط فيها شهداء، ودُمّرت فيها بيوت، وجُرّفت فيها بساتين وطرقات وأحياء في بعض البلدات الجنوبية، واستُهدفت مناطق خارج منطقة جنوب الليطاني كما في الغارة على بلدة "طاريا" في البقاع الشمالي، ولا أيّ التزام أو تعهّد إسرائيلي إلى الآن بوقفها، أو بالانسحاب من المناطق التي دخلها الجيش الإسرائيلي، بل على العكس من ذلك هناك تسريبات عبر وسائل إعلام إسرائيلية تحدثت عن بقاء طويل إن لم يكن دائماً في هذه المواقع، أو إن لم يُصار إلى اجتياح كلّ منطقة جنوب الليطاني كما جرى الحديث عنه خلال الحرب، فضلاً عن انكشاف نوايا إسرائيلية عن احتمال الشروع في بناء مستوطنات عشوائية ابتداءً في بعض المناطق الحدودية في جنوب لبنان، كما حصل قبل أيام حيث دخلت مجموعة من المستوطنين إلى تلة داخل الأراضي اللبنانية قرب الحدود وأقامت عليها خيمتين كمقدمة للشروع في الاستيطان، أو كمحاولة لجسّ النبض اللبناني حيال ذلك. الجميع يعلم ويدرك الأطماع الإسرائيلية في جنوب لبنان، وفي منطقة جنوب نهر الليطاني تحديداً، ولعلّ "إسرائيل" في أفعالها ومن خلال الخروقات المتكرّرة لوقف إطلاق النار، وفي ظلّ العجز اللبناني الواضح عن الردّ، تريد الوصول إلى الأمور التالية: أولاً: تثبيت مقولة انتصارها في هذه المعركة للداخل الإسرائيلي من جهة، وللبنان من جهة أخرى، إذ أنّها ما تزال تعربد بأفعالها وخروقاتها وتفرض الأجندة التي تريدها، وهو ما يعطي انطباعاً لدى الجهتين أنّها قد انتصرت فعلاً في المعركة وبالتالي فهي في مرحلة تأكيد وتثبيت شروطها. ثانياً: تكريس مفهومها هي لوقف إطلاق النار، وليس مفهوم الأطراف الأخرى سواء لبنان أو بقيّة أعضاء اللجنة الخماسية المكلّفة مراقبة تنفيذ الاتفاق، وبالتالي فإنّها تسعى خلال فترة الستين يوماً والتي تنتهي في السابع والعشرين من يناير /كانون الثاني 2025 لتكريس هذا الفهم، وبالتالي التعامل مع أيّ حدث على الأرض وفقاً لهذا الفهم. والحقيقة هذا يعزّز ويكرّس مقولة انتصارها. ثالثاً: تكريس أمر واقع على الأرض الجنوبية قد يكون من بين أهدافه تهجير سكان هذه المنطقة بشكل نهائي، وفتح الطريق فعلاً لمحاولات الاستيطان في هذه المنطقة ولو بشكل متدرّج وعشوائي ابتدءاً، ومن ثمّ ومع الوقت يجري تكريس وتثبيت هذا الاستيطان. أمّا من أين جاءت هذه القوّة والإمكانية لـ "إسرائيل" للتعامل مع وقف إطلاق النار بهذه الكيفية، فهناك العديد من الأمور التي ساعدت على ذلك، ومنها: أولاً: الدعم الدولي والأمريكي تحديداً المفتوح لها في حربها وعدوانها على لبنان، وعلى قطاع غزة أيضاً، وغضّ النظر الدولي عن ارتكاباتها ومجازرها طالما أنّ ذلك يتوافق وينسجم مع المصالح الدولية. ثانياً: حكومة "إسرائيل" تدرك أنّ أيّ وقف للحرب من دون نتيجة واضحة بالنسبة للداخل الإسرائيلي والمستوطنين يعني التشكيك بقدرة "إسرائيل" على البقاء، والدخول في حرب أهلية إسرائيلية مدمّرة لهذا الكيان، وبالتالي فلا بدّ من تقديم صورة نصر كبيرة وواضحة تجعل الداخل يتجاوز أخطاء الحكومة وفساد رئيسها. ثالثاً: الصمت والعجز العربي عن وقف العدوان على لبنان وعلى غزة، إن لم نقل – كما يذهب البعض – إلى القول بالتوطؤ مع العدوان. رابعاً: المتغيّر الإقليمي المتمثّل بشكل رئيسي بإسقاط نظام بشّار الأسد في دمشق وخروج سورية بشكل كامل مما كان يُعرف بمحور المقاومة، علماً أنّ نظام الأسد خلال معركة "طوفان الأقصى" لم يكن حاضراً أو مساهماً في هذه المعركة، بل ربما كان معوّقاً، غير أنّ طريق إمداد حزب الله بالسلاح من إيران ظلّ متاحاً ومفتوحاً بعيداً عن أنظار النظام المخلوع، وإسقاط هذه النظام قطع هذا الطريق بشكل كامل بالنظر إلى الثقل التاريخي جراء تدخّل حزب الله قبل أكثر من عشر سنوات في الحرب السورية ومساندته وإيران لنظام الأسد المخلوع، وهو ما أوجد جراح غائرة ليس سهلاً أن تلتئم بسرعة حتى لو كان العنوان فلسطين. قد لا تلجأ "إسرائيل" إلى المزيد من التصعيد أو الاجتياح ولكنها تريد أن تأخذ بالتنسيق مع حلفائها ما تريده ولكن هذه المرّة بالضغط والتهديد، ويبدو، للأسف، أنّها ستتمكّن من ذلك لأنّ لبنان لم يعد لديه سوى إحصاء الخروقات ورفعها إلى اللجنة الخماسية وهذه اللجنة هي الخصم والحكم، وهنا تكمن الندامة لدى البعض على ما فات من مواقف كانت تتسم بالسطحية والتقوقع وتبتعد كلّ البعد عن الرؤية الواحدة الموحدة التي ترى مستقبل الأمة لا مستقبل الأقليات.

عن العلاقات اللبنانية السورية المنتظرة
العدد 1644 /25-12-2024 د. وائل نجم

سريعاً وكعادته قطع وليد جنبلاط الحواجز وعبر نحو دمشق حيث السلطة الجديدة المنبثقة من ثورة الشعب السوري ومعاناته، وهناك وجد جنبلاط نفسه في قصر الشعب حيث غابت الدولة الأسدية التي استحوذت على السلطة والحكم طيلة أكثر من نصف قرن من الزمن، وحضرت الدولة الشرعية (نسبة إلى أحمد الشرع) ولأنّها تمثّل بالحدّ الأدنى ثورة الشعب السوري بانتظار أن تكتمل المرحلة الانتقالية ويتمّ تأسيس دستور جديد، وسلطة جديد منبثقة عن الشعب عبر صناديق الاقتراع لتعزيز شرعيتها وسطلتها على كلّ السوريين. في قصر الشعب قدّم جنبلاط التهنئة للقيادة الجديدة على إنجاز الهدف الكبير الذي تطّلع الشعب السوري، وأوصى بتحويل ملف الحكّام السابقين إلى المحاكمة، وحتى الدولية، والإبقاء على السجون كما هي حتى تظلّ شاهدة على حقبة من الاستبداد والجريمة المنظمة التي لا ينبغي أن تنساها الأجيال. وفي قصر الشعب سمع جنبلاط من الشرع أنّ السلطة الجديدة على مسافة من كلّ اللبنانيين، وتريد للبنان الخير والاستقرار والازدهار، ولا تريد أن تتدخّل بشؤونه بل ستحترم سيادته وأمنه واستقراره. لقد أكّد جنبلاط مرّة أخرى وجديدة أنّه زعيم وطني من الطراز الأول، فهو سبق القيادات الرسمية للدولة اللبنانية إلى دمشق ليفتح طريقاً من أجل علاقات لبنانية سورية تقوم على الاحترام والتعاون، علماً أنّه لا يشغل حالياً أيّ موقع رسمي، بينما تتلكأ الجهات الرسمية حتى الآن في طرْق أيّ باب من أجل تأمين علاقات سورية لبنانية تحفظ أمن واستقرار البلدين ومصالحهما. وبالتأكيد فإنّ لبنان الذي يرتبط بسوريا بحدود طويلة من الجهتين الشرقية والشمالية، وبعلاقات اجتماعية وأسرية واسعة ومتشعبة، وبتاريخ مشترك من التحدّيات والأهداف والمشتركات، هو بحاجة اليوم إلى ترتيب العلاقة مع السلطة والحكم الجديد في سورية، خاصة وأنّ المرحلة الماضية كانت مرحلة يمكن القول فيها إنّ حلفاء النظام المخلوع كان لهم الكلمة الفصل في السلطة في لبنان، وبالتالي فإنّ البقاء على تلك الحالة سيفقد لبنان الكثير من الخير والمصالح التي ينبغي العمل عليها مع الحكم الجديد. لقد حملت كلمات القائد العام للإدارة السورية الجديدة، أحمد الشرع، رسائل إيجابية عديدة وكثيرة تجاه اللبنانيين، بمن فيهم أولئك الذين انخرطوا في مواجهات وقتال دفاعاً عن النظام المخلوع، فهو تحدث عن علاقة ومسافة واحدة مع كل اللبنانيين ولم يستثن أحداً، وهو تحدّث عن احترام سيادة ومن واستقرار لبنان، ما احترم اللبنانيون أمن وسيادة واستقرار سورية، وهو تحدّث عن طموح لتطوير سورية ولبنان معاً، ولم يتحدّث عن قطيعة أو حساب عن الماضي. الكرة الآن في ملعب الحكومة اللبنانية، وعليها أن تبادر إلى فتح هذه العلاقة من جديد والعمل على تطويرها، والإفادة من الأجواء الإيجابية المطروحة دون إبطاء، فهذه الدول العربية الشقيقية قد أرسلت وفودها إلى دمشق لترتيب علاقاتها مع أنّ بعضها ليس له حدود مع سورية، بينما نحن وسورية بيننا التاريخ والجغرافيا والمصالح. أمّا على المستوى الشعبي فإنّ القوى التي انخرطت في قتال الشعب السوري أمام فرصة تاريخية أيضاً لجسر الهوّة وطي صفحة الماضي والانخراط في تسويات ومصالحات حقيقية تعيد ربط ما انقطع غير أنّ ذلك قد يحتاج إلى قرار جريء بتقييم المرحلة الماضية، والاعتراف بثقلها، والتوجّه بنيّة صادقة نحو بناء مستقبل يسوده الأمان والثقة.

عن لبنان بعد إسقاط نظام بشّار الأسد في دمشق
العدد 1643 /18-12-2024

ربّما لم يتوقّع أحد أن ينهار ويسقط نظام بشّار الأسد في دمشق بهذه السرعة والطريقة، ولكنّ المفاجأة كانت صادمة للجميع، خاصة لأولئك الذين كانوا يراهنون على أنّ بقاء النظام مستمرّ بفعل الغطاء الدولي والتواطؤ الإقليمي الذي أمّن له الاستمرار ومكّنه من البقاء في الحكم بعد استخدام البراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية وأبشع أنواع الممارسات الإجرامية دون محاسبة على هذا الإجرام. صُدم هؤلاء لأنّهم اعتقدوا أنّ الشعب السوري ملّ المواجهة، والغطاء الدولي بات أكثر حاجة للنظام خاصة وقد فرد سلطته وسيطرته على مناطق واسعة من الجغرافيا السورية حتى راح رأسه (بشّار) ينظّر على العالم كما حصل في القمّة الإسلامية الأخيرة بالرياض؛ غير أنّهم صُدموا وفوجئوا أنّ المعارضة استطاعت خلال أيّام قليلة الوصول إلى دمشق وإسقاط النظام، وهو ما أحدث زلزالاً قويّاً في المنطقة كلّها وليس في سورية فحسب، وهو ما ستظهر تداعياته ونتائجه مع المقبل من الأسابيع والشهور. فماذا عن لبنان، وهو البلد الذي لا يملك حدوداً بريّة مفتوحة إلاّ مع سورية، وهو البلد الذي تتداخل فيه العلاقات الاجتماعية والأسرية والاقتصادية وغيرها مع سورية، وهو البلد الذي يكاد يقال إنّ اللبنايين والسوريين شعب واحد ولكن في دولتين؟ لقد مارست سورية وصايتها على لبنان اعتباراً من العام 1990 تاريخ إقرار وثيقة الوفاق الوطني (اتفاق الطائف) وظلّت طيلة خمسة عشر عاماً مهيمنة على القرار اللبناني حتى تاريخ انسحاب الجيش السوري من لبنان في نيسان 2005 فتراجعت نسبة هيمنتها قليلاً ولكن لصالح قوى سياسية وحزبية وشخصيات أنتجها ورعاها النظام السوري خلال فترة وصايته وتواجده في لبنان، وبالتالي ظلّ التأثير السوري في مجريات الأحداث اللبنانية، سياسياً وأمنياً وعسكرياً واقتصادياً وغيره قائماً وحاضراً ومؤثّراً، حتى أنّ بعض القوى اللبنانية انخرطت بشكل كامل في دعم النظام السوري بعد ثورة الشعب عليه في العام 2011، وأرسلت مقاتلين دافعوا عن النظام كما لو أنّهم يدافعون عن أنفسهم، وهو ما أحدث شرخاً كبيراً في الحياة اللبنانية، حتى أنّ بعضهم أبدى استعداداً للذهاب من جديد للدفاع عن النظام في لحظة كان النظام يلفظ أنفاسه الأخيرة، في مقابل تأييد واسع وعارم من اللبنانيين لمطالب الشعب السوري المحقّة. اليوم وبعد أن أُسقِط النظام وهرب رئيسه إلى روسيا، وتشتّت رموزه ومسؤولوه في أصقاع الأرض، وبعد أن فرضت قوى المعارضة سيطرتها على كامل الجغرافيا السورية تقريباً (باستثناء شرق الفرات حالياً) وشكّلت حكومة تسيير أعمال وهي تتجه نحو بناء نظام حكومي جديد مختلف كلّياً عن المخلوع، فإنّ لبنان سيتأثّر بكلّ تأكيد بهذا التطوّر والمستجد، حتى لو لم يكن في أجندة الحكم الجديد أيّة نيّة للتأثير في لبنان، ولكن بحكم الجغرافيا والتداخل الاجتماعي والاقتصادي وخلافه. لعلّ أول مظهر من مظاهر تأثّر لبنان بالمستجد السوري ستظهر في إرساء حالة من التوازن الداخلي اللبناني بين مكوّنات الوطن، وإنهاء معادلة الغلبة لفريق كان يحظى بدعم النظام المخلوع، وبالتالي كان يملك القدرة على تعطيل البلد وشلّها بحسب أهوائه ومصالحه السياسية، ولعلّ في مسألة تعطيل انتخاب رئيس جديد للجمهورية أبرز مثال على ذلك، فضلاً عن التحكّم بالكثير من القرارات المصيرية التي تعني اللبنانين كافة، والتي كانت إلى الأمس مُصادَرَة من قبل حلفاء النظام المخلوع. ولذلك فإنّ فرصة انتخاب رئيس جديد للجمهورية في لبنان بعد فراغ في سدّة الرئاسة الأولى دخل عامه ثالث، باتت الآن أكثر حظوظاً من قبل أسبوعين على أقلّ تقدير، لأنّ القوى المُعطِّلة فقدت عنصراً مهمّاً من عناصر قوتها وقدرتها على التعطيل. الأمر الآخر يتعلّق بإمكانية وفرصة بناء دولة حقيقية يتكافأ فيها اللبنانيون بالحقوق والواجبات، دولة قانون لا تكون فيها الغلبة لفئة، أو تكون فيها امتيازات لفئة دون فئات أخرى، والجميع في لبنان يدرك ويعرف الامتيازات التي كانت تحظى بها الفئات المحسوبة على النظام المخلوع، سواء أمام القانون أو القضاء، أو لناحية احتكار السلاح خارج إطار مؤسسات الدولة. بعد المستجد السوري سيكون من الصعوبة أن تحافظ تلك الفئات على تلك الامتيازات، ليس لأنّ الحكم الجديد في سورية سيتدخّل لمنع ذلك، أبداً، ولكنّ لأنّ اللبنانيين أساساً كانوا يرفضون ذلك ويعملون على تغييره ولكنّهم كانوا يصطدمون دائماً بالدعم الذي كان يوفّره النظام المخلوع لتلك الفئات، وبالتالي يجعلها تضرب بعرض الحائط كلّ محاولات بناء دولة مؤسسات حقيقية. وأمّا الأمر الثالث فيتعلّق بفرصة منع التهريب وضبط الحدود بشكل جدّي حقيقي، وهو مطلب لبناني قديم، هناك فرصة حقيقية أمام ذلك في ضوء ما جرى الحديث عنه من رسالة وصلت من الحكم الجديد في سورية إلى الجانب اللبناني يبدي فيها الحكم الجديد الاستعداد للتعاون في هذا المجال. كما هناك فرصة أخرى تتصل بعودة اللاجئين السوريين إلى ديارهم في ضوء استتباب الأمن بشكل تدريجي وعودة الحياة إلى طبيعتها في سورية، وهو ما سيجعل السوريين يعودون إلى بلداتهم ومدنهم، وهم بدأوا بالعودة فعلاً، وهو مطلب لبناني في ظلّ الأزمة الاقتصادية التي عصفت بلبنان. كما هناك فرصة حقيقية بعد الشروع في إعادة إعماء سورية ليكون للبنان نصيب من هذا الإعمار عبر موانئه وأراضيه. لبنان بعد إسقاط نظام الأسد سيكون أفضل حالاً، خاصة إذا تمكّن الحكم الجديد من توحيد سورية وفرض الأمن والاستقرار وبناء دولة مؤسسات لكلّ السوريين، سينعكس ذلك بشكل إيجابي كبير على لبنان، وستسقط كلّ دعوات التخويف التي يطلقها الخائفون من بناء دولة مؤسسات.

إذا الشعب يوماً أراد الحريّة فلا بدّ أن ينتصر
العدد 1642 /11-12-2024 د. وائل نجم

وحقّق الشعب السوري المجاهد ما كان يتطلّع إليه، وما بذل في سبيله الدماء الزكيّة السخيّة، ونال حريّته بعد إسقاط أعتى نظام عرفته المنطقة، بل ربما العالم في التاريخ الحديث. حقّق الشعب السوري نصره على النظام المخلوع على الرغم من كلّ الدعم والتأييد من منظومات الفساد والاستبداد العالمية، ومن المؤامرات التي اشترك فيها أحياناً الأشقاء والأقرباء أكثر مما شارك فيها الأعداء والخصوم. لقد سطّر الشعب السوري أروع أنواع الانتصارات بإسقاطه النظام الذي ظلّ جاثماً على صدر السوريين لأكثر من نصف قرن من الزمن، كانت سياسته فيها البطش والتنكيل والإجرام بحق الشعب الذي يعشق الحريّة والكرامة والعزّة. لقد خرج الشعب السوري في العام 2011 يطالب بإصلاحات بسيطة توفّر له الحدّ الأدنى من الحرية والكرامة والعيش الرغيد، فإذا بالنظام الذي لا يعرف سوى البطش والإجرام واللجوء إلى العنف والقوّة يبطش بالشعب السوري ويرتكب بحقذه ابشع وأروع أنواع البطش لإرهابه وتخويفه وإسكاته وإخضاعه وصولاً إلى استخدام الأسلحة الكيماوية المحرّمة دولياً بحقّه، مدعوماً من كلّ قوى الشرّ في العالم التي إمّا ساعدته تحت عناوين وذرائع مختلفة، وإمّا تغاضت عن أفعاله وإجرامه، وإمّا سهّلت له سبل الإجرام، وإمّا أمّنت له الحماية من العقاب، وإمّا أنّها منعت إسقاطه بألف طريقة وطريقة. لقد أمن ذاك النظام المخلوع العقاب فأسأ التعامل والتصرّف، بل أجرم بحقّ شعبه من دون أن يخشى المحاسبة، والأنكى من ذلك ذهب يروّج مقولته الشهيرة أنّه يواجه حرباً كونية عالمية لأنّه يقف موقفاً مشرّفاً من قضية الأمّة المركزية فلسطين، وتحت هذا الشعار ارتكب مجازره وإجرامه. غير أنّ الشعب السوري الذي دفع فاتورة عالية من دماء أبنائه، ومن تهجيرهم في أصقاع الأرض، ومن اعتقال عشرات الآلاف منهم في معتقلات الموت كما تكشّف أخيراً بعد إسقاط النظام، أصرّ على المواجهة، ورضي أن يدفع الضريبة، ضريبة التحرّر من هذا الظلم، فأعدّ وجهّز ووضع الخطط والبرامج والتفاصيل الدقيقة لما بعد إسقاط النظام، واغتنم بعد ذلك اللحظة المناسبة ووجّه الضربة القاضية والقاسمة للنظام ولداعميه، فأسقاطه في عشرة أيام كانت كفيلة بنقل سوريا من ضفة إلى أخرى، وكانت كفيلة بتصفية مشاريع عديدة للنيل من الشعب السوري ومصالحه، حتى أنّ كلّ الذين كانوا يقفون خلف النظام ويدعمونه بدأوا يرقصون على أشلائه ويقدّمون أوراق الاعتماد لدى قادة الثورة السورية. أمّا الحقيقة الأخرى التي انكشفت أيضاً فهي في حماية وحراسة هذا النظام على مدى خمسين عاماً لكيان الاحتلال الإسرائيلي الذي لا يقلّ إجراماً، فما إنّ تمكّنت فصائل الثورة من تحرير دمشق حتى شرعت قوات الاحتلال الإسرائيلي في قصف ما سمّته الأسلحة الاستراتيجية، ومن بينها الوثائق، حتى لا تقع بأيدي الثوّار وتكون مصدر قوّة لسورية الجديدة. التحدّي الأساسي الآن أمام السوريين بعد إسقاط النظام هو في بناء دولة حديثة يكون فيها القانون هو الحاكم، وتكون فيها المحاسبة هي الأساس، دول لكلّ السوريين ليس فيها امتيازات سوى على أساس الكفاءة وخدمة سورية. دولة تحتضن قضايا الأمة فعلاً لا شعاراً، وتمارس العدالة الانتقالية وليس الانتقائية. وأمّا بقية شعوب المنطقة فإنّ الدرس السوري كفيل بإعادة الأمل لهم، وشحذ هممهم من أجل التخلّص من كلّ أنواع الاستبداد والاحتلال لبناء منطقة تسودها العدالة كما كانت على مرّ العصور.

بين السيطرة على حلب وخروقات وقف النار في لبنان
العدد 1641 /4-12-2024 د. وائل نجم

مفاجئاً كان هجوم فصائل المعارضة السورية على مدينة حلب والسطيرة عليها في وقت قياسي حتى أنّ بعض المراقبين والمحلّلين أطلقوا على معركة "ردع العدوان" بـ "طوفان حلب" تيمناً وتشبّهاً بمعركة "طوفان الأقصى" التي فاجأت بها فصائل المقاومة الفلسطينية الاحتلال الإسرائيلي.

وقف إطلاق النار لا يعني وقف الحرب
العدد 1640 /27-11-2024

تمكّن المبعوث الأمريكي، آموس هوكشتاين، من التوصّل إلى صيغة وقف إطلاق النار بين حزب الله ولبنان من جهة وبين قوات الاحتلال الإسرائيلي من جهة ثانية، ودخل هذا الاتفاق حيّز التنفيذ اعتباراً من الساعة الرابعة من فجر الأربعاء. غير أنّ هذا الاتفاق اكتنفه غموض كبير بسبب عدم وضوح الكثير من بنوده، أو الضبابية التي لفّتها، والتي يمكن لكلّ طرف أن يفسّرها بما يحلو له. غير أنّ الواضح في الاتفاق أنّه أوقف إطلاق النار فلم يعد أهالي بيروت والضاحية يتعرضون للغارات الهمجية، ولم يعد أهالي الجنوب والبقاع عرضة للغارات وللقصف المدفعي، ولم تعد بقية المناطق اللبنانية عرضة لـ "جدار الصوت" اليومي والذي كان يروّع الأطفال والنساء في كلّ لبنان من دون سابق إنذار. كما وأنّ الاتفاق تكشّف عن تشكيل لجنة خماسية لمتابعة تطبيق بنود الاتفاق، فيها إلى جانب لبنان: حكومة الاحتلال، الأمم المتحدة، فرنسا، والولايات المتحدة الأمريكية، ومهمّة هذه اللجنة مراقبة ومتابعة تنفيذ الاتفاق. ما سوى هذين الأمرين ليس هناك شيء واضح بشكل جلّي. غير أنّ الشيء المهمّ الذي لا بدّ من معرفته أنّ الاتفاق أوقف إطلاق النار غير أنّه لم ينه الحرب. فالاتفاق بالنسبة للطرفين هو اتفاق الضرورة التي لا بدّ منها، ولكلّ منهما أسبابه. إنّ هذا الشيء يعني أنّ الحرب ستتواصل وستأخذ أشكالاً جديدة في المرحلة المقبلة، بل ربما كلّ طرف سيعيد بناء قدراته وتنظيم صفوفه واستعداداته ويتحيّن الفرصة من أجل جولة جديدة من القتال بالنار، وبانتظار تلك اللحظة سنكون أمام حرب جديدة بشكل مختلف. قوات الاحتلال ومن يقف خلفها ستعمل على محاصرة المقاومة والقوى المنضوية في إطارها سياسياً واجتماعياً وعلى المستويات كافة بحيث لا يكون لها قدرة على التأثير في صناعة القرار الداخلي اللبناني، بل تظلّ مجرد لاعب ثانوي في ذلك. وبالطبع فإنّ ذلك سيأخذ لبنان إلى مكان آخر غير المكان الطبيعي الذي ظلّ فيه لعقود من الزمن محتضناً أحرار المنطقة ومقاوميها ليصير نقطة ارتكاز للمشروع القادم الذي يحاول أن يفرض نفسه ويغيّر المعادلات وربما الخرائط في المنطقة بما ينسجم مع مصالح وتطلعات القوى الراعية للاتفاق بمعزل عن مصالح شعوب المنطقة وحتى اهتمامات حكوماتها. في مقابل ذلك سيعمل حزب الله والقوى المناهضة لمشاريع السيطرة والسطو على المنطقة على إفشال مشاريع السطو تلك بما بملك من قدرات وإمكانيات ما يزال يحتفظ بها، ولعلّ في مقدمها الحاضنة الشعبية، خاصة إذا تمكّن من بلسمة جراحها من خلال التعويض عليها وإشعارها أنّ الثمن الذي دفعته سيكون أقل من صيغة أخرى تعيدهم إلى عقود سابقة. لبنان بعد اليوم أمام تحدّ جديد لا يعني فقط حزب الله بشكل أساسي، بل يعني كل القوى المؤمنة بضرورة أن تتحرّر المنطقة العربية من المشاريع التي تريد لها أن تظلّ خاضعة للسيطرة بهدف نهب ثرواتها وأكل خيراتها وإدخالها دوماً في صراعات جانبية تلتهم كل القوى الداخلية لصالح أصحاب المشاريع الخارجية الطامعة بكل ما فيه خير عندنا.

هل نصل إلى وقف إطلاق النار في لبنان؟
العدد 1639 /20-11-2024

وصل المبعوث الأمريكي الخاص بمسألة التفاوض من أجل الوصول إلى وقف إطلاق النار بين لبنان ودولة الاحتلال، آموس هوكشتاين، إلى بيروت من أجل الاستماع والنقاش في الملاحظات اللبنانية على المقترح الأمريكي لوقف إطلاق النار، وتزامن وصول هوكشتاين مع حملة إسرائيلية كثيفة من الهجمات التي طالت خلال الأيام الأخيرة أحياء في قلب العاصمة بيروت، في رأس النبع ومار إلياس وزقاق البلاط، فضلاً عن غارات كثيفة كمّاً ونوعاً على أحياء في الضاحية الجنوبية وبلدات في الجنوب، ربما بهدف الضغط على لبنان، خاصة وأنّ رئيس حكومة الاحتلال قال أمام الكنيست الإسرائيلي يريد مفاوضات تحت النار. المقترح الأمريكي وبحسب ما تسرّب منه في الصحافة العالمية واللبنانية، يرتكز إلى القرار الأممي 1701، فهو يشكّل القاعدة للحلّ ووقف إطلاق النار؛ غير أنّه يحمل أيضاً بين سطوره ما يمكن أن يمنح قوات الاحتلال فرصة للتدخّل في لبنان ساعة تشاء وحيث تشاء، وذلك من خلال الحديث عن منح كلّ من لبنان وكيان الاحتلال أحقية الدفاع عن النفس وحتى بطريقة استباقية، وذلك بعد انسحاب مقاتلي المقاومة من منطقة جنوب نهر الليطاني إلى شمالها، بمعنى آخر تجريد لبنان من عنصر قوّة في هذه المنطقة، وبعد ذلك يكون بإمكان قوات الاحتلال الدخول إلى هذه المنطقة تحت عنوان "الدفاع عن النفس" والعمل فيها كما تشاء، وبذلك تكون قد حقّقت بالدبلوماسية ما لم تتمكّن من تحقيقه بالحرب. كما هناك نقطة آخرى لها علاقة بتحويل لجنة مراقبة تنفيذ القرار 1701 إلى لجنة موسّعة لتشمل إلى الأمم المتحدة ولبنان وكيان الاحتلال كلاً من الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وألمانيا ، وهو أيضاً ما يرى لبنان لا حاجة له. مشكلة مفاوضات وقف إطلاق النار أنّ دولة الاحتلال تريد أن تحقّق بالدبلوماسية ما لم تحقّقه في الميدان، وتسعى لذلك من خلال اتباع سياسة الضغط على المواطنين وعلى المدنيين من خلال القصف والمجازر وتوسيع العدوان، وليس في الميدان العسكري عند الحدود الجنوبية حيث تتكبّد تلك القوات خسائر فادحة على أيدي مقاتلي المقاومة. ومشكلة لبنان أنّه يريد أن يضع حدّاً لنزيف الدماء من المدنيين، ومن توسيع العدوان وسياسة التدمير والتهجير والتجزير التي تقوم بها قوات الاحتلال، ولذلك يحاول أن يبدي مرونة كبيرة من أجل الوصول إلى وقف النار، غير أنّ ذلك لا يمكن أن يتحوّل إلى ما يشبه الاستسلام أمام الاحتلال، خاصة وأنّ الصمود في الميدان هو في صالح لبنان أكثر مما هو في صالح قوات الاحتلال، فالجنوب يشهد حرب استنزاف كبيرة لقوات الاحتلال التي تتكبّد كلّ يوم مزيداً من الخسائر المادية والبشرية على مستوى الجنود. الأمل بالوصول إلى وقف إطلاق النار في جنوب لبنان وشمال فلسطين المحتلة حاضر، ليس لأنّ الإسرائيلي له رغبة بذلك، فهو قد كشف عن نواياها ذات يوم عندما قال إنّه يريد تغيير النظام في لبنان كمقدمة لتغيير المنطقة لصالحه، ولكنّ حسابات الميدان غير حسابات النوايا، فقد فشل في اختراق الحدود الجنوبية إلاّ بحدود ضئيلة ولا تؤثّر بمعنى حقيقي في مسارات الحرب؛ ولا استطاع أن يوقف إطلاق الصوايخ نحو العمق الإسرائيلي وقد استهدفت مدينة تل أبيب أكثر من مرّة رداً على استهداف بيروت. الأمل بالوصول إلى وقف إطلاق النار لأنّ الميدان كبّد، وما يزال، الاحتلال المزيد من الخسائر كلّ يوم بحيث أنّه لم يعد قادراً على تجاهل تلك الخسائر، ولذلك فإنّ فرص الوصول إلى وقف إطلاق النار ممكنة، وقد تكون في وقت قريب. غير أنّ ذلك سيعني أنّ الاحتلال استطاع أن يفصل بين جبهة لبنان وجبهة غزة، وهو سيجعله يتفرّغ أكثر لغزة، ولكن السؤال: هل ما زالت الأمور والأوضاع بحاجة إلى هذا التكامل على جبهتين كما كانت في أول الحرب؟ أم أنّها تحتمل الفصل بين الجبهتين في ظل الانتقال إلى حرب استنزاف الاحتلال؟!

القمّة العربية الإٍسلامية والعدوان على غزة ولبنان
العدد 1638 /13-11-2024 د. وائل نجم

جمعت الريّاض قادة الدول العربية والإسلامية في قمّة غير عادية ضمن ظروف وأوضاع غير عادية تمرّ بها أغلب دول العالمين العربي والإسلامي، خاصة العدوان الصهيوني المتمادي على قطاع غزة والضفة الغربية في فلسطين وعلى لبنان، حيث يرتكب العدوان أبشع أنواع الجرائم والإبادة بحق الفلسطينيين واللبنانيين. القمّة غير عادية كما أُطلق عليها، ولكن هل القرارات التي خرجت عنها غير عادية بحيث أنّها ستوقف العدوان على فلسطين ولبنان؟! أو ستضع حدّاً له؟ البيان الختامي للقمّة أدان العدوان ورفضه، وطالب الأمم المتحدة والمجتمع الدولي بالتدخل لوضع حدّ له، وشدّد على الحلّ السلمي على قاعدة إقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس، وطالب بإدخال مساعدات إنسانية للأطفال والنساء، ولم يخرج البيان بشكل عام عن هذه العبارات التي لم تحمل للأسف أي قرار فعلي ميداني يجعل الاحتلال يعيد النظر بعدوانه، بل على العكس من ذلك ربما شعر أنّ بإمكانه مواصلة ارتكاب المزيد من المجازر طالما أنّ القمّة لم تتخذ قراراً رادعاً، وطالما أنّ الأمم المتحدة عاجزة عن فعل شيء، والمجتمع الدولي متواطىء إلى أبعد حدّ مع العدوان بل يزوّده بالمال والسلاح. ربما انتظر أطفال غزة ولبنان من القادة العرب والمسلمين أن يتخذوا قراراً صارماً وقاطعاً يوقف العدو عن غيّه، بل ويحاسبه على ما اقترفت يداه. يسأل هؤلاء الأطفال: عدد المسلمين في العالم أكثر من مليار ونصف مليار مسلم، ومساحة العالم الإسلامي تصل إلى حوالي 37 مليون كيلومتر مربع، والثروات المكنوزة في باطن هذا العالم أكثر من أن تُعدّ وتُحصى: من النفط والغاز إلى المواد الخام الأخرى على أنواعها، إلى المياه، إلى الموقع الجغرافي المتحكّم بكلّ طرق التجارة البريّة والبحريّة والجويّة، إلى الشعوب المسلمة التي ستكون مستعدة لدفع أغلى الأثمان من أجل غزة ولبنان، بل من أجل الإنسان، وهي التي آمنت واعتقدت أنّ "المسلم للمسلم كالبنيان المرصوص". يسأل الأطفال: هل ينقص القادة المال؟ أم السلاح؟ أم الطاقة البشرية؟ أم ماذا؟ أم ينقصهم القرار السياسي الجريء الذي ينقذ الأطفال من هذه المحرقة والمجزرة التي تلتهم كلّ يوم مزيداً منهم ومن النساء، ويدمّر كلّ يوم مزيداً من البيوت المدن والقرى، ويحرق كلّ يوم مزيداً من الأرض. يقول أطفال غزة ولبنان: ألم يسمع القادة أنّ رئيس حكومة الاحتلال ومن على منصّة المجمتع الدولي الذي يناشدونه، قال ذات يوم إنّه يريد أن يغيّر الشرق الأوسط لصالحه ويقيم فوقه دولته المزعومة "إسرائيل الكبرى"؟! أم أنّهم يرتضون لأنفسهم أن يكونوا في موقع التابع له فيما لو تمكّن من ذلك؟! شكراً لهم على تجشّم عناء السفر من قصورهم إلى الريّاض، ولكن ليس الإدانة ما كان ينتظره أهالي غزة ولبنان فحسب، بل كانوا ينتظرون قراراً يشبه قرار الملك فيصل رحمه الله على سبيل المثال عندما لوّح باستخدام سلاح النفط واستخدمه؛ أو كالقرار الذي اتخذه الشهيد الرئيس محمد مرسي عندما قال : لن نترك غزّة وحدها وأرسل رئيس حكومته هشام قنديل مع عدد من الوزراء يومها إلى غزة وأوقف العدوان. على كلّ حال، قرار إدانة العدوان أفضل من السكوت، و"على قدْر أهل العزم تأتي العزائم"، وغداً سيكتب التاريخ وسيُصنّف الناس بين من يستحق أن يدخل التاريخ من بابه الواسع، وبين من سيخرج من التاريخ من بابه الواسع أيضاً. أمّا أطفال غزة وفلسطين ولبنان فيكفيهم عزيمة أولئك الرجال أولي العزم والبأس الذين يكتبون التاريخ ولا يدخلونه فحسب، ويصنعون المستقبل ولا ينتظرونه، وعلى أمل أن يكون مستقبلاً مشرقاً لأطفال فلسطين ولبنان والعالم أجمع.

زمن الركود العربي وثمنه في المستقبل!
العدد 1637 /6-11-2024 د. وائل نجم

تعيش المنطقة العربية حالة من الركود غير المسبوق مع أنّها تقف اليوم على مفترق طرق يمكن أن يحدّد مصيرها ومستقبلها لنصف قرن أو أكثر من الزمان. فالنوايا الإسرائيلية بتغيير النظام في المنطقة العربية، بمعنى إخضاع هذه المنطقة للهيمنة والسيطرة الإسرائيلية بات واضحاً ولا يحتاج إلى كبير دليل، ولكن هذا قد يتطلّب إجراء تعديلات سياسية وجغرافية وديمغرافية حتى يتمّ إنجازه وقد اتضح ذلك أكثر من خلال تصريحات بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية حين أعلن بعد تحقيق بعض الإنجازات التكتيكية في حربه على لبنان عن اعتزامه تغيير النظام في هذا البلد كمقدّمة لتغيير نظام المنطقة كلّها؛ وكذلك مت صرّح به وزير ماليته سموتريتش من فرنسا عن نيّة إقامة "إسرائيل الكبرى" الممتدة بين نهري النيل في مصر والفرات في العراق، شاطباً من الخريطة كلّاً من: فلسطين، سوريا، الأردن، وأجزاء من تركيا، مصر، السعودية، الكويت، السودان والعراق. على الرغم من اتضاح أهداف ونوايا الحرب الإسرائيلية في المنطقة، غير أنّ العرب على مستوى الأنظمة والحكومات وحتى الشعوب ما زالوا وكأنّهم غير معنيين بما يجري، أو كأنّ الذي يجري إنّما يجري على كوكب آخر، أو كأنّ الذي يجري لن يطالهم بشيء! والسؤال، هل للعرب، وهنا أتحدث عن الحكومات والأنظمة تحديداً، هل لهم مصلحة بأن تصبح إسرائيل سيّدة المنطقة المطلقة التي تأمر فتُطاع؟ رئاسة نتنياهو لحكومة إسرائيل لن تدوم إلى الأبد، بل الرجل يمكن أن يمثل أمام القضاء الإسرائيلي في أول لحظة لتوقّف الحرب؛ والفاعلون الرئيسيون في إسرائيل اليوم هم المنتمون إلى التيارات القومية والدينية المتطرّفة التي ترى في الناس التي تملأ المحيط الجغرافي مجرد "غوييم" (حيوانات بشرية خُلقت لخدمتهم)، وحشرات يمكن الدوس عليها في أيّة لحظة دونما أن يهتزّ ضمير أو وجدان لديهم إن وُجد!. ومستقبل إسرائيل السياسي وكما يبدو من خلال نتائج الانتخابات على مدى العقود الأخيرة يقع بيد هؤلاء المتطرّفين أكثر فأكثر، وبالتالي فإنّهم سيكونون صنّاع القرار في دولة إسرائيل المستقبل، والقادة الذين يتخذون القرارات فيها، وهنا لنا أن نتخيّل كيف سيدير "بن غفير" و"سموتريتش" وأضرابهم من المتطرفين القومين والدينيين "إسرائيل الكبرى" فيما لو تمّ لهم السيطرة وإخضاع ما بين النيل والفرات! هل سيكون لأحد من العرب قيمة بنظرهم وهم الذين سيجدون أنفسهم في أعلى قمّة القوّة والزهو؟! هل سيتركون للملوك والرؤساء والأمراء فرصة للتمتّع بالمال والثروات؟ أم ترى يرونهم كما يرون بقية الشعوب العربية "غوييم"؟! وبالتالي لا يستحقّون هذا الاستمتاع بالثروة والسلطة والملك فيعملون على مصادرة أموال وثروات الرؤساء والملوك والأمراء وكل مَن وما يقع تحت يديهم؟ غريب جدّاً حالة الركود التي يعيشها العرب في هذه الأيّام أمام هذه التحدّيات، فالمستهدف أمنهم ومنطقتهم وثرواتهم وأنظمتهم وقواهم الحيّة الشعبية، وكلّ شيء يشي بأنّ له قيمة، ومع ذلك تستمر حالة الركود والركون!! إنّ ما يجب أن يدركه الجميع أنّهم كلّهم سيكونون ضحايا هذا الاستهداف وهذه المشاريع والخطط الخبيثة والخطيرة، وعليه فإنّ مقاومة غزّة ولبنان اليوم، وبغض النظر عن الموقف من المقاتلين فيها، هي بحقّ مقاومة تدافع عن مصير الأمّة والمنطقة حتى لا تقع بأيدي بن غفير وسمتوتريتش ونتنياهو وأمثالهم، وحتى لا يتحوّل عموم الناس فيها إلى مجرد حيوانات تستحق الموت والدهس كما قال يوماً وزير الجيش الإسرائيلي يوآف غالانت عن أهل غزة. آن لزمن الركود أن ينتهي، وآن لزمن الحضور أن يبدأ وذلك من خلال إعادة النظر بكلّ شيء. ما زال بيد العرب إمكانيات وفرص لقلب الطاولة على رؤوس كل الطامعين بهم، وأمّا استمرار حالة الركود فسيعني وقوع المنطقة لعقود جديدة بيد أخبث الناس، وحينها لن ينفع البكاء على أطلال القصور والممتلكات. بيروت في 6/11/2024

12345678910...