العدد 1639 /20-11-2024
وصل المبعوث الأمريكي الخاص بمسألة التفاوض من أجل الوصول إلى وقف إطلاق النار بين لبنان ودولة الاحتلال، آموس هوكشتاين، إلى بيروت من أجل الاستماع والنقاش في الملاحظات اللبنانية على المقترح الأمريكي لوقف إطلاق النار، وتزامن وصول هوكشتاين مع حملة إسرائيلية كثيفة من الهجمات التي طالت خلال الأيام الأخيرة أحياء في قلب العاصمة بيروت، في رأس النبع ومار إلياس وزقاق البلاط، فضلاً عن غارات كثيفة كمّاً ونوعاً على أحياء في الضاحية الجنوبية وبلدات في الجنوب، ربما بهدف الضغط على لبنان، خاصة وأنّ رئيس حكومة الاحتلال قال أمام الكنيست الإسرائيلي يريد مفاوضات تحت النار.
المقترح الأمريكي وبحسب ما تسرّب منه في الصحافة العالمية واللبنانية، يرتكز إلى القرار الأممي 1701، فهو يشكّل القاعدة للحلّ ووقف إطلاق النار؛ غير أنّه يحمل أيضاً بين سطوره ما يمكن أن يمنح قوات الاحتلال فرصة للتدخّل في لبنان ساعة تشاء وحيث تشاء، وذلك من خلال الحديث عن منح كلّ من لبنان وكيان الاحتلال أحقية الدفاع عن النفس وحتى بطريقة استباقية، وذلك بعد انسحاب مقاتلي المقاومة من منطقة جنوب نهر الليطاني إلى شمالها، بمعنى آخر تجريد لبنان من عنصر قوّة في هذه المنطقة، وبعد ذلك يكون بإمكان قوات الاحتلال الدخول إلى هذه المنطقة تحت عنوان "الدفاع عن النفس" والعمل فيها كما تشاء، وبذلك تكون قد حقّقت بالدبلوماسية ما لم تتمكّن من تحقيقه بالحرب.
كما هناك نقطة آخرى لها علاقة بتحويل لجنة مراقبة تنفيذ القرار 1701 إلى لجنة موسّعة لتشمل إلى الأمم المتحدة ولبنان وكيان الاحتلال كلاً من الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وألمانيا ، وهو أيضاً ما يرى لبنان لا حاجة له.
مشكلة مفاوضات وقف إطلاق النار أنّ دولة الاحتلال تريد أن تحقّق بالدبلوماسية ما لم تحقّقه في الميدان، وتسعى لذلك من خلال اتباع سياسة الضغط على المواطنين وعلى المدنيين من خلال القصف والمجازر وتوسيع العدوان، وليس في الميدان العسكري عند الحدود الجنوبية حيث تتكبّد تلك القوات خسائر فادحة على أيدي مقاتلي المقاومة. ومشكلة لبنان أنّه يريد أن يضع حدّاً لنزيف الدماء من المدنيين، ومن توسيع العدوان وسياسة التدمير والتهجير والتجزير التي تقوم بها قوات الاحتلال، ولذلك يحاول أن يبدي مرونة كبيرة من أجل الوصول إلى وقف النار، غير أنّ ذلك لا يمكن أن يتحوّل إلى ما يشبه الاستسلام أمام الاحتلال، خاصة وأنّ الصمود في الميدان هو في صالح لبنان أكثر مما هو في صالح قوات الاحتلال، فالجنوب يشهد حرب استنزاف كبيرة لقوات الاحتلال التي تتكبّد كلّ يوم مزيداً من الخسائر المادية والبشرية على مستوى الجنود.
الأمل بالوصول إلى وقف إطلاق النار في جنوب لبنان وشمال فلسطين المحتلة حاضر، ليس لأنّ الإسرائيلي له رغبة بذلك، فهو قد كشف عن نواياها ذات يوم عندما قال إنّه يريد تغيير النظام في لبنان كمقدمة لتغيير المنطقة لصالحه، ولكنّ حسابات الميدان غير حسابات النوايا، فقد فشل في اختراق الحدود الجنوبية إلاّ بحدود ضئيلة ولا تؤثّر بمعنى حقيقي في مسارات الحرب؛ ولا استطاع أن يوقف إطلاق الصوايخ نحو العمق الإسرائيلي وقد استهدفت مدينة تل أبيب أكثر من مرّة رداً على استهداف بيروت. الأمل بالوصول إلى وقف إطلاق النار لأنّ الميدان كبّد، وما يزال، الاحتلال المزيد من الخسائر كلّ يوم بحيث أنّه لم يعد قادراً على تجاهل تلك الخسائر، ولذلك فإنّ فرص الوصول إلى وقف إطلاق النار ممكنة، وقد تكون في وقت قريب. غير أنّ ذلك سيعني أنّ الاحتلال استطاع أن يفصل بين جبهة لبنان وجبهة غزة، وهو سيجعله يتفرّغ أكثر لغزة، ولكن السؤال: هل ما زالت الأمور والأوضاع بحاجة إلى هذا التكامل على جبهتين كما كانت في أول الحرب؟ أم أنّها تحتمل الفصل بين الجبهتين في ظل الانتقال إلى حرب استنزاف الاحتلال؟!
|
العدد 1638 /13-11-2024
د. وائل نجم
جمعت الريّاض قادة الدول العربية والإسلامية في قمّة غير عادية ضمن ظروف وأوضاع غير عادية تمرّ بها أغلب دول العالمين العربي والإسلامي، خاصة العدوان الصهيوني المتمادي على قطاع غزة والضفة الغربية في فلسطين وعلى لبنان، حيث يرتكب العدوان أبشع أنواع الجرائم والإبادة بحق الفلسطينيين واللبنانيين.
القمّة غير عادية كما أُطلق عليها، ولكن هل القرارات التي خرجت عنها غير عادية بحيث أنّها ستوقف العدوان على فلسطين ولبنان؟! أو ستضع حدّاً له؟
البيان الختامي للقمّة أدان العدوان ورفضه، وطالب الأمم المتحدة والمجتمع الدولي بالتدخل لوضع حدّ له، وشدّد على الحلّ السلمي على قاعدة إقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس، وطالب بإدخال مساعدات إنسانية للأطفال والنساء، ولم يخرج البيان بشكل عام عن هذه العبارات التي لم تحمل للأسف أي قرار فعلي ميداني يجعل الاحتلال يعيد النظر بعدوانه، بل على العكس من ذلك ربما شعر أنّ بإمكانه مواصلة ارتكاب المزيد من المجازر طالما أنّ القمّة لم تتخذ قراراً رادعاً، وطالما أنّ الأمم المتحدة عاجزة عن فعل شيء، والمجتمع الدولي متواطىء إلى أبعد حدّ مع العدوان بل يزوّده بالمال والسلاح.
ربما انتظر أطفال غزة ولبنان من القادة العرب والمسلمين أن يتخذوا قراراً صارماً وقاطعاً يوقف العدو عن غيّه، بل ويحاسبه على ما اقترفت يداه. يسأل هؤلاء الأطفال: عدد المسلمين في العالم أكثر من مليار ونصف مليار مسلم، ومساحة العالم الإسلامي تصل إلى حوالي 37 مليون كيلومتر مربع، والثروات المكنوزة في باطن هذا العالم أكثر من أن تُعدّ وتُحصى: من النفط والغاز إلى المواد الخام الأخرى على أنواعها، إلى المياه، إلى الموقع الجغرافي المتحكّم بكلّ طرق التجارة البريّة والبحريّة والجويّة، إلى الشعوب المسلمة التي ستكون مستعدة لدفع أغلى الأثمان من أجل غزة ولبنان، بل من أجل الإنسان، وهي التي آمنت واعتقدت أنّ "المسلم للمسلم كالبنيان المرصوص". يسأل الأطفال: هل ينقص القادة المال؟ أم السلاح؟ أم الطاقة البشرية؟ أم ماذا؟ أم ينقصهم القرار السياسي الجريء الذي ينقذ الأطفال من هذه المحرقة والمجزرة التي تلتهم كلّ يوم مزيداً منهم ومن النساء، ويدمّر كلّ يوم مزيداً من البيوت المدن والقرى، ويحرق كلّ يوم مزيداً من الأرض. يقول أطفال غزة ولبنان: ألم يسمع القادة أنّ رئيس حكومة الاحتلال ومن على منصّة المجمتع الدولي الذي يناشدونه، قال ذات يوم إنّه يريد أن يغيّر الشرق الأوسط لصالحه ويقيم فوقه دولته المزعومة "إسرائيل الكبرى"؟! أم أنّهم يرتضون لأنفسهم أن يكونوا في موقع التابع له فيما لو تمكّن من ذلك؟!
شكراً لهم على تجشّم عناء السفر من قصورهم إلى الريّاض، ولكن ليس الإدانة ما كان ينتظره أهالي غزة ولبنان فحسب، بل كانوا ينتظرون قراراً يشبه قرار الملك فيصل رحمه الله على سبيل المثال عندما لوّح باستخدام سلاح النفط واستخدمه؛ أو كالقرار الذي اتخذه الشهيد الرئيس محمد مرسي عندما قال : لن نترك غزّة وحدها وأرسل رئيس حكومته هشام قنديل مع عدد من الوزراء يومها إلى غزة وأوقف العدوان.
على كلّ حال، قرار إدانة العدوان أفضل من السكوت، و"على قدْر أهل العزم تأتي العزائم"، وغداً سيكتب التاريخ وسيُصنّف الناس بين من يستحق أن يدخل التاريخ من بابه الواسع، وبين من سيخرج من التاريخ من بابه الواسع أيضاً. أمّا أطفال غزة وفلسطين ولبنان فيكفيهم عزيمة أولئك الرجال أولي العزم والبأس الذين يكتبون التاريخ ولا يدخلونه فحسب، ويصنعون المستقبل ولا ينتظرونه، وعلى أمل أن يكون مستقبلاً مشرقاً لأطفال فلسطين ولبنان والعالم أجمع.
|
العدد 1637 /6-11-2024
د. وائل نجم
تعيش المنطقة العربية حالة من الركود غير المسبوق مع أنّها تقف اليوم على مفترق طرق يمكن أن يحدّد مصيرها ومستقبلها لنصف قرن أو أكثر من الزمان.
فالنوايا الإسرائيلية بتغيير النظام في المنطقة العربية، بمعنى إخضاع هذه المنطقة للهيمنة والسيطرة الإسرائيلية بات واضحاً ولا يحتاج إلى كبير دليل، ولكن هذا قد يتطلّب إجراء تعديلات سياسية وجغرافية وديمغرافية حتى يتمّ إنجازه وقد اتضح ذلك أكثر من خلال تصريحات بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية حين أعلن بعد تحقيق بعض الإنجازات التكتيكية في حربه على لبنان عن اعتزامه تغيير النظام في هذا البلد كمقدّمة لتغيير نظام المنطقة كلّها؛ وكذلك مت صرّح به وزير ماليته سموتريتش من فرنسا عن نيّة إقامة "إسرائيل الكبرى" الممتدة بين نهري النيل في مصر والفرات في العراق، شاطباً من الخريطة كلّاً من: فلسطين، سوريا، الأردن، وأجزاء من تركيا، مصر، السعودية، الكويت، السودان والعراق.
على الرغم من اتضاح أهداف ونوايا الحرب الإسرائيلية في المنطقة، غير أنّ العرب على مستوى الأنظمة والحكومات وحتى الشعوب ما زالوا وكأنّهم غير معنيين بما يجري، أو كأنّ الذي يجري إنّما يجري على كوكب آخر، أو كأنّ الذي يجري لن يطالهم بشيء! والسؤال، هل للعرب، وهنا أتحدث عن الحكومات والأنظمة تحديداً، هل لهم مصلحة بأن تصبح إسرائيل سيّدة المنطقة المطلقة التي تأمر فتُطاع؟
رئاسة نتنياهو لحكومة إسرائيل لن تدوم إلى الأبد، بل الرجل يمكن أن يمثل أمام القضاء الإسرائيلي في أول لحظة لتوقّف الحرب؛ والفاعلون الرئيسيون في إسرائيل اليوم هم المنتمون إلى التيارات القومية والدينية المتطرّفة التي ترى في الناس التي تملأ المحيط الجغرافي مجرد "غوييم" (حيوانات بشرية خُلقت لخدمتهم)، وحشرات يمكن الدوس عليها في أيّة لحظة دونما أن يهتزّ ضمير أو وجدان لديهم إن وُجد!. ومستقبل إسرائيل السياسي وكما يبدو من خلال نتائج الانتخابات على مدى العقود الأخيرة يقع بيد هؤلاء المتطرّفين أكثر فأكثر، وبالتالي فإنّهم سيكونون صنّاع القرار في دولة إسرائيل المستقبل، والقادة الذين يتخذون القرارات فيها، وهنا لنا أن نتخيّل كيف سيدير "بن غفير" و"سموتريتش" وأضرابهم من المتطرفين القومين والدينيين "إسرائيل الكبرى" فيما لو تمّ لهم السيطرة وإخضاع ما بين النيل والفرات! هل سيكون لأحد من العرب قيمة بنظرهم وهم الذين سيجدون أنفسهم في أعلى قمّة القوّة والزهو؟! هل سيتركون للملوك والرؤساء والأمراء فرصة للتمتّع بالمال والثروات؟ أم ترى يرونهم كما يرون بقية الشعوب العربية "غوييم"؟! وبالتالي لا يستحقّون هذا الاستمتاع بالثروة والسلطة والملك فيعملون على مصادرة أموال وثروات الرؤساء والملوك والأمراء وكل مَن وما يقع تحت يديهم؟
غريب جدّاً حالة الركود التي يعيشها العرب في هذه الأيّام أمام هذه التحدّيات، فالمستهدف أمنهم ومنطقتهم وثرواتهم وأنظمتهم وقواهم الحيّة الشعبية، وكلّ شيء يشي بأنّ له قيمة، ومع ذلك تستمر حالة الركود والركون!!
إنّ ما يجب أن يدركه الجميع أنّهم كلّهم سيكونون ضحايا هذا الاستهداف وهذه المشاريع والخطط الخبيثة والخطيرة، وعليه فإنّ مقاومة غزّة ولبنان اليوم، وبغض النظر عن الموقف من المقاتلين فيها، هي بحقّ مقاومة تدافع عن مصير الأمّة والمنطقة حتى لا تقع بأيدي بن غفير وسمتوتريتش ونتنياهو وأمثالهم، وحتى لا يتحوّل عموم الناس فيها إلى مجرد حيوانات تستحق الموت والدهس كما قال يوماً وزير الجيش الإسرائيلي يوآف غالانت عن أهل غزة.
آن لزمن الركود أن ينتهي، وآن لزمن الحضور أن يبدأ وذلك من خلال إعادة النظر بكلّ شيء. ما زال بيد العرب إمكانيات وفرص لقلب الطاولة على رؤوس كل الطامعين بهم، وأمّا استمرار حالة الركود فسيعني وقوع المنطقة لعقود جديدة بيد أخبث الناس، وحينها لن ينفع البكاء على أطلال القصور والممتلكات.
بيروت في 6/11/2024
|
العدد 1636 /30-10-2024
د. وائل نجم
بات الجميع يعلم ويدرك أنّ الاحتلال الإسرائليي كان يبيّت نيّة سوء وشرّ إلى لبنان من غير انخراط المقاومة في معركة إسناد غزّة، وهو ما كشفه الاحتلال بنفسه وعلى لسان مسؤوليه عندما تحدّثوا أنّهم أعدّوا العدّة كاملة ووضعوا الخرائط والخطط من أجل توجيه ضربة قاسمة للمقاومة وبالتالي إخضاع لبنان، ولعلّ فيما أعلنه وزير الطاقة الإسرائيلي يكفي لكشف هذه النوايا المبيّتة قبل معركة طوفان الأقصى وقبل انخراط المقاومة فيها وذلك عندما تحدّث عن نيّته تغيير اتفاقية الغاز مع لبنان في إشارة إلى اتفاق ترسيم الحدود البحرية وحقل كاريش وحقل رقم 9 الواقعين على طرفي الحدود.
ثمّ وبعد اندلاع المعارك وتمكّن قوات الاحتلال من إحراز بعض الإنجازات التكتيكية التي تمثّلت بشكل أساسي باغتيال أمين عام حزب الله وبعض القيادات في الحزب، كشف الاحتلال مرّة جديدة عن نواياها، وهذه المرّة على لسان رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو الذي انتشى بالإنجازات وقال إنّه يعتزم تغيير النظام في لبنان ومنه تغيير النظام في المنطقة كلّها (الشرق الأوسط)، وطلب من المقاومة ومن لبنان الخروج ورفع الرايات البيضاء رايات الاستسلام.
الميدان هو الذي جعل الاحتلال يتراجع عن أهدافه وشروطه ودفعه إلى البحث الجدّي عن وقف الحرب والعمل لتحقيق ما يريده بالدبلوماسية بعد فشله في الميدان والحرب.
فبعد انطلاق المعركة البريّة عند الحدود حيث حشد الاحتلال خمس أو ست فرق عسكرية من أجل اجتياح الجنوب أو على أقل تقدير منطقة جنوب الليطاني، وفي ضوء المواجهة الشرسة والتصدّي الكبير والبطولي لمحاولات الاحتلال، وبعد انقضاء ثلاثة أسابيع على هذه المحاولات حيث لم يتمكّن الاحتلال من السيطرة الكاملة حتى ولو على قرية حدودية واحدة، بل على العكس تحوّلت هذه القرى إلى مقبرة لجيش الاحتلال حيث اعترف بسقوط العديد من القتلى والجرحى من جنوده بشكل يومي في المعركة البريّة، وسُجّل أول فشل له في جبهة جنوب لبنان. وبعد حديث الاحتلال عن تدمير البنية العسكرية الصاروخية لحزب الله بشكل شبه كامل، رأينا كيف أنّ صواريخ المقاومة طالت وبشكل ممنهج ويومي عمق الأراضي الفلسطينية المحتلة حيث القواعد العسكرية والحسّاسة للاحتلال، وتابعنا كيف تمكّنت القوّة الجوية في المقاومة من استهداف منزل رئيس وزراء الاحتلال في مدينة قيساريا بطائرة مسيّرة وأصابت نافذة غرفة نومه، وكيف تمكّنت أيضاً من إصابة قاعة الطعام في قاعدة عسكرية أساسية قرب تل أبيب أثناء تناول الجنود للطعام ما أدّى إلى مقتل بعضهم وجرح العشرات. في ضوء هذا الصمود الميداني، والإنجازات الميدانية التي حقّقتها المقاومة طيلة شهر كامل من المواجهة البريّة والمفتوحة، بدأنا نرى كيف أنّ الاحتلال بدأ يتراجع عن شروطه وأهدافه، وبدأ يتخبّط في أدائه سوى في استهداف المدنيين لإخضاع المقاومة فاتّبع الاحتلال سياسة الإغارة على المدن والبلدات القريبة من الحدود والبعيدة عنها بذريعة أنّها تشكّل مخازن أسلحة لحزب الله.
الميدان دفع الإدارة الأمريكية التي كانت تدير ظهرها لما يجري، بل كانت شريكة حقيقية فيه، لإرسال مبعوثها الخاص إلى لبنان من أجل البحث في تطبيق القرار الأممي 1701 فحسب، بعد أن كانت متماهية مع أهداف وشروط الاحتلال في اللحظات الأولى للمعركة. كما وأنّ حديث قادة الاحتلال السياسيين والعسكريين باتت تركّز على إعادة سكان المستوطنات وإبعاد حزب الله عن الحدود فحسب دون الحديث عن القضاء على حزب الله ولا تغيير النظام في لبنان أو في المنطقة، حتى أنّ رئيس هيئة الأركان الإسرائيلي أعلن أنّ الجيش أنجز ما عليه في الجبهة الشمالية وبإمكان المستوى السياسي التفاوض بخصوص الوضع. الميدان والصمود في الميدان وحده الذي أرغم الاحتلال وأعوانه وداعميه على التراجع، وأي تراجع في الميدان سيكون كفيلاً بعودة الاحتلال وداعميه إلى شروطهما السابقة.
على هذا الأساس يمكن القول إنّ ما يضمن مستقبل لبنان وحقوقه وثرواته ليس المجتمع الدولي ولا وعود الاحتلال أو داعميه، ما يحفظ ويضمن مستقبل لبنان وحقوقه وثرواته الميدان وسيظلّ الميدان، وعليه فإنّ لبنان الرسمي والشعبي مطالب اليوم وغداُ بالوقوف خلف الميدان لضمان مستقبل لبنان.
بيروت في 30/10/2014
|
العدد 1635 /23-10-2024
د. وائل نجم
قبل أيام طلب الموفد الأمريكي إلى لبنان، آموس هوكشتاين، موعداً على عجل عند الرئيس نبيه برّي في عين التينة، وجاء يوم الاثنين والتقى الرئيس برّي وعدداً آخر من المسؤولين اللبنانيين، وتركّز البحث عن وقف الحرب في الجبهة الجنوبية، وحمل شروطاً إسرائيلية إلى لبنان على هيئة أفكار لوقف إطلاق النار ووقف الحرب.
المعلن من الزيارة ومن اللقاءات هو البحث في وقف الحرب وتنفيذ القرار الدولي 1701، وهو ما تحدّث عنه صراحة المبعوث الأمريكي حيث قال إنّ العبرة في تطبيق الاتفاق وليس في الحديث عن الإلتزام به؛ بمعنى آخر أنّه لا يطرح استبدال القرار ولا تعديله. غير أنّ المعلن شيء والمطلب الحقيقي شيء آخر.
فقد جرى الحديث عن ورقة إسرائيلية حملها هوكشتاين إلى لبنان تتضمّن شروطاً لوقف الحرب أبرزها : انسحاب مقاتلي حزب الله إلى شمال الليطاني، إعطاء حرية الحركة للقوات الإسرائيلية في منطقة جنوب الليطاني بعد نشر الجيش والقوات الدولية في هذه المنطقة، إعطاء حرية الحركة والعمل للطائرات الحربية والمسيّرة الإسرائيلية في الأجواء اللبنانية، إضافة إلى شروط أخرى. وهذه الشروط التي حملها هوكشتاين على هيئة أفكار ليست سوى إقراراً بالهزيمة أمام جيش الاحتلال، والنزول تالياً على شروطه.
والحقيقة أنّ هذه الشروط لا تستهدف حزب الله كحالة مقاومة فحسب، بل تستهدف لبنان بكل أطيافه وفئاته وهي تجاوز واضح على السيادة اللبنانية، واحتلال مقنّع للبنان تستطيع من خلاله "إسرائيل" أن تتدخّل في كلّ صغيرة وكبيرة في الوطن، وهو ترجمة حقيقية وفعلية لما تحدّث عنه رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي من أنّه سيغيّر النظام في لبنان، كمقدمة لتغيير النظام في كلّ الشرق الأوسط والمنطقة العربية حتى تخضع لهيمنته وسطوته وسيطرته.
والحقيقية الثانية أنّ هذه الشروط تكشف عن الأطماع الإسرائيلية بلبنان، والتي كان قد كشف عنها وزير الطاقة الإسرائيلي الذي صرّح أكثر من مرّة وقال إنّه يريد تغيير اتفاق الطاقة مع لبنان وذلك فيما خصّ الحقول النفطية التي كانت محل تفاوض واتفاق قبل نحو عامين، وهو يريد الانقلاب على هذا الاتفاق لأنّه يريد أن يستحوذ على كلّ الطاقة النفطية والغازية المتواجدة في الحقول النفطية سواء عند الحدود القريبة من المياه الإقليمية لفلسطين المحتلة، أو حتى في عمق المياه الإقليمية للبنان. وهذا ما يجب أن يدركه اللبنانيون كافّة، فالحديث عن حزب الله، ولكنّ الهدف الحقيقي هو كلّ لبنان دونما تمييز بين لبناني وآخر.
والحقيقة الأخرى هي أنّ لبنان ومقاومته لم ترفع راية الاستسلام إلى الآن، فمقاتلو المقاومة ما زالوا يسدّدون ضربات مؤلمة وموجعة لقوات الاحتلال عند الحافة الحدودية في المواجهات البريّة؛ كما أنّهم ما زالوا يطلقون الصواريخ الموجّهة والدقيقة والعادية تجاه تجمّعات وقواعد قوات الاحتلال العسكرية في المناطق المتاخمة للحدود اللبنانية، وفي عمق الأراضي الفلسطينية المحتلة وصولاً إلى جنوب تل أبيب حتى أنّ المقاومة تمكّنت من استهداف منزل رئيس حكومة الاحتلال في مدين قيسارية وأصاب غرفة نومه، هذا فضلاً عن إصابات مباشرة في العديد من القواعد العسكرية. بمعنى آخر ما زالت المقاومة ومعها لبنان يملك الكثير من القدرات التي تمكّنه من الصمود وتكبيد الاحتلال الكثير من الخسائر البشرية والمادية والمعنوية، وبالتالي فإنّ لبنان ليس في حالة يرفع فيها راية الاستسلام، وإن كانت الرغبة واضحة للوصول إلى وقف إطلاق النار من أجل التخفيف عن المواطنين النازحين الذين يشكّلون هدفاً أساسياً للعدوان الإسرائيلي بهدف الضغط على حزب الله وعلى الحكومة اللبنانية أيضاً.
خلاصة القول : هوكشتاين حمل شروطاً إسرايئلية تريد أن يعلن فيها لبنان استسلامه أمامها وبالتالي التحوّل إلى شروط أخرى تهتمّ بتركيب وتشكيل النظام الجديد في لبنان الذي سيكون نظاماً ملحقاً بالحكومة الإسرائيلية وهذا ما لم يحصل سابقاً ولن سيحصل حالياً خاصة إذا ما أدرك اللبنانيون هذه الحقيقية والتزموا موقفاً واحداً تجاه هذه الأطماع.
|
العدد 1634 /16-10-2024
د.وائل نجم
تحوّلت الجبهة الجنوبية للبنان مع شمال فلسطين المحتلة بنظر الاحتلال الإسرائيلي إلى الجبهة الأساسية تدريجياً اعتباراً من أواخر تموز الماضي وصولاً إلى حديث رئيس وزراء كيان الاحتلال، بنيامين نتنياهو، بعد اغتيال أمين عام حزب الله بأنّه يريد تغيير النظام في لبنان، وتغيير الشرق الأوسط بدءاً من لبنان، وقد انتشى نتنياهو ببعض الإنجازات التي حقّقها جيشه بعد تفجير أجهزة "البايجر"، وكشف عن نواياه الدفينة والمتلخّصة بالسيطرة والهيمنة على المنطقة العربية والإسلامية بشكل كامل إنفاذاً وتحقيقاً لمعتقدات صهيونية بإقامة مشروع "إسرائيل الكبرى".
على أساس هذه التصريحات والكشف عن هذه النوايا يتبيّن أنّ كيان الاحتلال كان يبيّت نيّة سيئة وخبيثة تجاه قطاع غزة، وقد عاجلته المقاومة الفلسطينية بهجوم السابع من أكتوبر ضمن معركة "طوفان الأقصى" وخلطت كلّ أوراقه في غير الوقت المنتظر بالنسبة له؛ كما كشفت نيّته تجاه لبنان حيث كان قد أعدّ العدّة ليس للقضاء على حزب الله فحسب، وإنّ كان هذا الأمر شرطاً أساسياً لمضي الاحتلال في مشروعه الأساسي في إقامة "إسرائيل الكبرى" وضمان الهيمنة والسيطرة على منطقتنا العربية التي كشف نتنياهو عن خريطتها في الثالث والعشرين من أيلول 2023 في كلمة له أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وأعاد الكشف عنها أمام الجمعية المذكورة في السابع والعشرين من أيلول من العام 2024 الجاري.
إذاً العدوان الذي يشنّه الاحتلال الإسرائيلي على لبنان هدفه الحقيقي والأساسي هو السيطرة على لبنان وإخضاعه، ومن ثم بناء نظام سياسي تابع له في لبنان، وبعد ذلك السيطرة على كل المنطقة المجاورة بدءاً من لبنان إلى سوريا والأردن والعراق والكويت والسعودية والخليج بشكل عام وصولاً إلى مصر والسودان، وتصفية القضية الفلسطينية بشكل نهائي، وبذلك تكتمل الهيمنة الإسرائيلية على المنطقة، وتضع يدها على ثرواتها، وربما تتطلّع "إسرائيل" إلى الهيمنة على العالم كلّه وليس على هذه المنطقة فحسب، خاصة وأنّ الجميع يدرك أنّ هذه المنطقة تتمتّع بمقوّمات كبيرة وهائلة بدءاً من النفط والغاز والثروات الطبيعية الأخرى، مروراً بالموقع الجغرافي الذي يتوسط العالم ويشكّل طريقاً للتجارة الدولية، وصولاً إلى الممرات البحرية التي تشكّل حاجة لا يمكن الاستغناء عنها.
وبالعودة إلى لبنان فإنّ العدوان الإسرائيلي الذي يريد تحقيق هدفه الأساسي في لبنان الذي ذكرناه آنفاً، يريد أيضاَ تدمير كلّ ما يعيق ويمنع تحقيق هذا الهدف، وحزب الله يُعتبر أحد هذه الموانع والمعوّقات، ولذلك شنّ الاحتلال حربه على الحزب بشكل تخطّى كل قواعد الاشتباك التي كانت قائمة، واتبع سياسة التدمير والتهجير بشكل واسع، وكما قلنا ليس على قاعدة تصفية حسابات قديمة بينهما، وإن كانت موجودة؛ ولا على قاعدة فك الارتباط مع غزة، وإن كان هذا يساعد على تحقيق الهدف الأساسي؛ ولا على قاعدة إعادة المستوطنين إلى شمال فلسطين، وإن كان هذا مطلوباً. إنّما على قاعدة إخضاع لبنان لاستكمال مشروع الهيمنة على المنطقة كلّها.
مستقبل لبنان ومستقبل المنطقة اليوم رهن بصمود المقاومة في لبنان، وتصاعد حرب الاستنزاف في غزة؛ فهاتان الجبهتان اليوم لا تخوضان الحرب دفاعاً عن نفسيهما، وإن كان هذا جزءاً من المعركة القائمة؛ إنّما يخوضانها لأنّها المعركة التي ستقرّر مستقبل لبنان والمنطقة معه، حتى وإن كان في خُلْد أيّ منهما القتال لأجل البقاء فحسب.
انطلاقاً من ذلك فإنّ على اللبنانيين والفلسطينيين كافّة أن يقرّروا إذا ما كانوا سيساهمون في رسم وتقرير مستقبل لبنان وفلسطين وتالياً المنطقة عبر الوقوف بوجه الأهداف الإسرائيلية بغض النظر عن أيّ موقف مسبق من القوى المقاومة في لبنان أو في فلسطين! أم أنّهم سيركنون إلى الوعود الغربية، ويصدّقون الأكاذيب والأوهام، ويكتفون بإحصاء أعداد الضحايا والشهداء! ثم يستفيقون بعد ذلك على احتلال يقرّر متى يأخذ بيوتهم وثرواتهم، ويقرّر إذا ما كانوا "غوييم" (حيوانات تليق بخدمته) أم أنّهم بشر يستحقون الحياة.
|
العدد 1633 /9-10-2024
عام مرّ على معركة "طوفان الأقصى" والعدوان على غزّة دون أن تتمكّن قوات الاحتلال الإسرائيلي من إحراز وتحقيق الأهداف التي رفعتها للعدوان. فلا هي استطاعت أن تستعيد الأسرى من المقاومة الفلسطينية، وهو أول هدف للعدوان المعلن؛ ولا هي استطاعت أن تقضي على المقاومة الفلسطينية، وها هي حماس تطلق في يوم السابع من أكتوبر 2024، أي بعد عام كامل، صواريخها باتجاه مدينة تل أبيب من خان يونس، هذا فضلاً عن عمليات كثيرة قامت بها المقاومة في مناطق عديدة من قطاع غزة، وهو ما يثبت فشل الاحتلال في القضاء على المقاومة؛ ولا هي استطاعت أن تقصي حماس عن مشهد غزة، فها هي مفاصل غزة بشكل كامل تدار من قبل حماس ومؤسساتها الإدارية التي كانت تديرها قبل العدوان، وهذا أيضاً يؤكّد فشل الاحتلال الإسرائيلي في إحراز أي هدف من أهدافه.
عام على معركة "طوفان الأقصى" وعلى العدوان الإسرائيلي على غزّة ولم يحقّق الاحتلال سوى ارتكاب المزيد من المجازر بحق المدنيين العزّل، والتدمير الممنهج للبنى التحتية في غزة أو حتى الآن في لبنان، ولكنّ ذلك لم يفتّ في عضد المقاومة، فها هو الناطق العسكري باسم القسّام يخرج يوم السابع من أكتوبر قبل أيام ويعلن عن مرحلة جديدة هي مرحلة استنزاف القدرة المتبقيّة للجيش الإسرائيلي.
لقد أثبت المقاومة الفلسطينية قدرتها على الصمود بوجه أقوى جيش في المنطقة، كما كشفت نوايا حكومة الاحتلال في السيطرة الكاملة على المنطقة من خلال تهجير الشعب الفلسطيني، والقضاء على مقاومته، ومن ثمّ إعادة تشكيل المنطقة العربية وفقاً للمصالح الإسرائيلية وسيطرتها، وهو كا كشفه رئيس حكومة الاحتلال نيامين نتنياهو ووزير جيشه يوآف غالانت اللذين قالا إنّ القضاء على المقاومة سيفتح الطريق أمام تشكيل الشرق الأوسط وفقاً لمصالح إسرائيل.
لقد أبلى الشعب الفلسطيني بلاءً حسناً في مقاومته ومواجهته مشاريع الاحتلال الإسرائيلي، كما أبلى الشعب اللبناني بلاءً حسناً في إسناد غزة وفي الدفاع عن نفسه خاصة وأنّ الحكومة الإسرائيلية كشفت عن نيّتها السيطرة على لبنان وتغيير النظام فيه، ومن ثمّ على كلّ المنطقة انطلاقاً من السيطرة على غزة ولبنان، ولكن الحرب وبعد عام لم تنته بعد؛ فالاحتلال ما زال يمارس عدوانه على الشعبين اللبناني والفلسطيني بهدف إخضاع المقاومتين الفلسطينية واللبنانية وبعد ذلك فرض شروطه على كلّ أنظمة وحكومات وشعوب المنطقة مدعوماً من الغرب بشكل عام ومن الولايات المتحدة بشكل خاص.
عام مضى على الطوفان ولم يسجّل الاحتلال أيّ إنجاز سوى التدمير والتهجير والتجزير وشعاره في هذه الحرب أو العدوان: "إمّا أقتلكم وإمّا أحكمكم". وبالطبع فإنّ حكمه لشعوب المنطقة سيكون انطلاقاً من اعتقاده بهم أنّهم حيوانات خُلقت على هيئة البشر من أجل أن تليق بخدمتهم. ألم يصرّح بذلك وزير الجيش الإسرائيلي عندما دعا إلى إبادة غزة وأهلها ووصفهم بأنّهم حيوانات لا تستحق الحياة؟!
إنّ المعركة صعبة، ومتداخلة، ويشترك فيها أعداء كثر يناصبون المنطقة العداء ويظهرون الود ولكنّهم يضمرون العداء والكراهية ويطمعون بخيرات وثروات بلادنا، ولذلك ترى "إسرائيل" تخوض حربهم نيابة عنهم، وتدفع الأثمان دون أن نعرف إذا كانت تعلم أو لا تعلم!
عام من الصمود والثبات والتضحية قابله عام من الفشل والخيبة للاحتلال، وهو ما يبشّر أنّ الهزيمة ستلحق هذا الاحتلال الذي لا يعرف للإنسانية قيمة ولا للحقّ صاحباً.
بيروت في 8/10/2024
|
العدد 1632 /2-10-2024
د. وائل نجم
وجّه الحرس الثوري الإيراني وبشكل مفاجىء ضربة صاروخية استهدفت قواعد عسكرية إسرائيلية، جويّة واستخبارية، في معظم الأراضي الفلسطينية المحتلة، وقال إنّ هذه الضربة تأتي ثأراً لاغتيال رئيس المكتب السياسي لحماس، إسماعيل هنيّة، في طهران، واغتيال أمين عام حزب الله، حسن نصرالله، في بيروت، وردّاً على المجازر الإسرائيلية بحقّ أطفال غزة ولبنان، وهدّد الحرس بضرب البنية التحتية لدولة الاحتلال فيما لو تجرّأت وردّت على الضربة الصاروخية.
دحض الحرس الثوري كلّ الشكوك والنوايا التي اتهمته واتهمت إيران بالتقاعص عن الردّ أو الثأر على كلّ الاغتيالات والجرائم التي ارتكبتها قوات الاحتلال، وأراد من خلال الضربة استعادة قوّة الردع التي انتشى بها نتنياهو بعد الجرائم الأخيرة، وألقى الحرس الكرة في الملعب الإسرائيلي لناحية تطوّر الأمور والانزلاق بالمنطقة إلى حرب إقليمية واسعة تغيّر فعلاً وجه المنطقة بشكل كامل.
والحقيقة أنّ رئيس وزراء كيان الاحتلال الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، سعى جاهداً في ضوء فشله في تحقيق أيّ من أهدافه في عدوانه على غزة، سعى إلى إعادة خلط الأوراق في المنطقة، والعمل بشكل حثيث لإدخالها في حرب واسعة تشترك فيها قوى إقليمية ودولية وفي طليعتها الولايات المتحدة الأمريكية، لأنّه كان وما زال يعتبر أنّ الحلّ والخلاص الوحيد له شخصياً، ولكيانه المأزوم هو في إشعال هذه الحرب وإعادة خلط الأوراق، فهل انزلقت إيران إلى تحقيق رغبة نتنياهو في إشعال حرب إقليمية واسعة من خلال إطلاق الصواريخ على القواعد العسكرية الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة؟
في ضوء الأحداث والتطوّرات خلال الشهرين الماضيين، إيران وجدت نفسها أمام خيارين لا ثالث لهما، إمّا أن تظلّ معتصمة بالصمت وبالتالي فإنّ كرة النار ستظلّ تتدحرج صوبها آكلة من رصيدها، وصولاً إلى تجريدها من مكامن قوّتها المتمثّلة بحلفائها في المنطقة، وبذلك ستتحوّل لاحقاً إلى نمر من دون أنياب، وتصبح لقمة سائغة للوحش الإسرائيلي، وبذلك تخسر حلفاءها وتخسر نفسها لاحقاً أيضاً؛ وإمّا أن تذهب إلى الحرب علّها توقفها وتعيد هي أيضاً خلط الأوراق من جديد بما يحافظ على قوّتها وردعها، خاصة وأنّ إيران تدرك أيضاً أنّ الولايات المتحدة الأمريكية لا تريد حرباً في المنطقة تشغلها وتصرفها عن اهتمامها الأساسي في أوكرانياً حيث يتأهّب الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ويتحيّن الفرصة لانشغال أميركا بأيّ ملف من أجل اجتياح أوكرانيا وحتى أوروبا؛ وكذلك الصين التي تتحيّن الفرصة أيضاً لانشغال أميركا من أجل فرض وقائع جديدة في بحر الصين الجنوبي حيث تحتدم المواجهة مع واشنطن بشكل غير معلن.
أمام ذلك قرّرت إيران الذهاب إلى خطوة الردّ الصاروخية الجادّة، لأنّها باتت ضرورة للحفاظ على قوّة إيران ودورها الإقليمي، ولأنّها خطّ الدفاع الأول عن طهران؛ وكذلك فإنّ إيران جادّة أيضاً في تهديدها بضرب البنية التحتية الإسرائيلية في حال ردّ كيان الاحتلال على الضربة الصاروخية حيث أنّ منطق الأمور بالنسبة لإيران لم يعد يحتمل الصمت والانتظار.
بهذا الاعتبار باتت المنطقة الآن مفتوحة على كلّ الخيارات وتنذر بحرب واسعة ومدمّرة تعيد خلط الأوراق ورسم الخرائط من جديد بالفعل، إلاّ إذا عادت وعلت لغة التسويات وتقدّمت على التهديدات، وهذا لن يكون إلاّ حال استشعار الجميع حجم الخسائر التي يمكن أن يتكبّدها كلّ منهم ولا يبدو أنّ ذلك سيكون بسيطاً وسهلاً ومقنعاً في وقت قريب.
بيروت في 2/10/2024
|
العدد 1631 /25-9-2024
د. وائل نجم
تصاعدت بشكل غير مسبوق المواجهات على جبهة جنوب لبنان مع شمال فلسطين المحتلة لتشمل أغلب الأراضي اللبنانية حيث نفّذت قوات الاحتلال الإسرائيلي آلاف الغارات الجويّة على مناطق في جنوب لبنان وفي البقاع وفي الضاحية مخلّفة دماراً كبيراً في الممتلكات والبنى التحتية ومئات الشهداء وآلاف الجرحى. فيما ردّ حزب الله بقصف مناطق في عمق الأراضي الفلسطينة المحتلة قرب حيفا وحتى في تل أبيب، غير أنّه ركّز في الردّ على اختيار وانتقاء المواقع والقواعد العسكرية دون أن تطال أو تضع المستوطنين في دائرة الهدف لأنّ الحزب لا يريد أن يحوّل المعركة إلى معركة مفتوحة، ولا يريد أن يعطي رئيس حكومة الاحتلال فرصة بتحويل المواجهة التي كانت منضبطة بقواعد واضحة تحفظ توازن الردع، إلى حرب واسعة تتورّط فيها دول أخرى في المنطقة وتتحوّل تدريجياً إلى حرب إقليمية بل وربما حرب دولية كبرى.
قوات الاحتلال الإسرائيلي تتدرّج بشكل يومي في تصعيد الموقف وفي أخذ المنطقة إلى مواجهة أكبر وأوسع، وهي تعتبر أنّ خلاص كيان الاحتلال لا تكون في ضوء فشله في حربه على غزة سوى بتوريط المنطقة بحرب واسعة ومفتوحة تكون ضامناً لبقاء هذا الكيان لأنّ بقاء كيان الاحتلال مرهون بشكل واضح بمصالح الدول الغربية وفي مقدمها الولايات المتحدة الأمريكية، غير أنّ كيان الاحتلال أراد من خلال التدرّج في التصعيد محاولة فرض واقع معيّن على حزب الله يدفعه إلى الاستسلام والنزول على شروط إسرائيل ومطالبها، فإذا ما نزل على شروطها فإنّها عند ذلك تواصل عملية الضغط وتزيد من الشروط من دون الذهاب إلى حرب مفتوحة، وإذا ما ظلّ متمسّكاً بموقفه ورفض الاستسلام فإنّ كيان الاحتلال سيزيد الضغط في الميدان تدريجياً وصولاً إلى حرب واسعة ومفتوحة على مصراعيها، وبهذا المعنى فإنّه يمكن القول إنّ الحرب التي يشهدها لبنان حالياً لم ترق بعد إلى درجة الحرب المفتوحة والواسعة وإنْ كانت تأخذ منحى التدرّج بهذا الاتجاه يوماً بعد يوم.
هل يمكن أن يستمر هذا المشهد لفترة زمينة طويلة؟ وما هي خيارات حزب الله في لبنان حيال ذلك؟
بات واضحاً أنّ حزب الله استوعب الضربة المؤلمة التي لم يكن يتوقعها بتفجير أجهزة "البايجر" بأيدي منتسبيه، واسترد زمام المبادرة بشكل بدا واضحاً من خلال ضرب مدينة تل أبيب بصاروخ سكود بعيد المدى حمل رسالة واضحة للاحتلال بأنّه قادر على توسيع رقعة المواجهة واستهداف البنى المدنية كما يفعل الاسرائيلي، وبالتالي فإنّ هذا المشهد لا يمكن أن يستمر بهذا الشكل الذي تقوم فيه حكومة الاحتلال بتوجيه الضربات للمدنيين اللبنانيين، وتحديد قواعد جديدة للاشتباك، دون أن يشرع في توجيه ضربات تعيد رسم القواعد من جديد، وعليه فإنّ المشهد سيذهب في وقت قريب إلى رسم قواعد جديدة تحافظ على توازن الردع، وهذا الشكل سيكون بمثابة استنزاف لكلا الطرفين لأسباب خاصة بكلّ منهما؛ وإمّا أن تتصاعد المواجهات وتأخذ شكلاً أكثر دموية وهذا يعني أنّ فتيل الحرب المفتوحة سيكون سريعاً بحيث يأخذ المنطقة إلى هذه الحرب.
لبنان والمنطقة ومعهما العالم يقفون على حافة لحظة قد تنزلق بهم جميعاً إلى حرب إقليمية ويمكن أن تكون دولية كبرى، ولن يوقف هذه الحرب ولن يحول دونها في ضوء المعطيات القائمة حالياً سوى تراجع الاحتلال عن خططه وبرامجه والقبول والاعتراف بحق الشعب الفلسطيني بالتحرر وإقامة دولته المستقلة، ويبدو أنّ ذلك بعيد عن التفكير الإسرائيلي حالياً في ضوء الدعم المفتوج غربياً لهذه القاعدة العسكرية المتقدّمة.
بيروت في 25/9/2024
|
العدد 1630 /18-9-2024
د. وائل نجم
عدوان جديد شنّه العدو الصهيوني على لبنان وهذه المرّة بشكل مختلف كلّياً عن المرّات السابقة، واستهدف فيه بالتفجير أجهزة الاتصال اللاسلكية المعروفة باسم "بييجر" والتي يحملها بشكل أساسي منتسبو حزب الله العاملون في قطاعات مختلفة عسكرية وأمنية ومدنية على أنواعها، وربما يحمله أيضاً مدنيون آخرون سيّما الذين يعملون في الحقل الطبّي وعلى وجه التحديد الأطباء منهم في المستشفيات، حيث يُعتبر الجهاز مثالياً في عمليات التواصل والاتصال بين إدارات المستشفيات والأطباء العاملين معها. وقد أدّى هذا العدوان الجديد والمفاجىء إلى استشهاد عدد من المستهدفين، وإلى جرح قرابة ثلاثة آلاف آخرين منهم، وقد غصّت بهم المستشفيات في أنحاء لبنان كافة.
الحكومة التي كانت مجتمعة أثناء حصول عملية العدوان بتفجير أجهزة الاتصال اتهمت العدو الصهيوني بالوقوف خلفه، وحمّلته المسؤولية الكاملة عن هذا العدوان، واعتبرته مسّاً بالسيادة اللبنانية وتجاوزاً لكلّ الأعراف والمواثيق والقوانين الدولية وفقاً لما أشار إليه وزير الإعلام بعد انتهاء جلسة الحكومة. وكذلك فعل حزب الله، المستهدف الأساسي بالعملية، حيث اتهم العدو الصهيوني بالوقوف خلفها، وتوعّد الحزب بالقصاص من العدو. وجرياً على عادته في الكثير من المرّات، فإنّ العدو الصهيوني لم يعترف بشكل رسمي بالعملية، ولم يكشف ولم يصرّح إذا ما كان هو يقف خلفها، مع إشارته ضمنياً إلى مسؤوليته عنها، لمعرفته الأكيدة أنّ التصريح بالمسؤولية عنها يعني دفع الثمن بشكل عاجل أو غير عاجل.
وعن تنفيذ العملية فإنّ الخبراء في هذا المجال يشيرون إلى احتمالين اثنين في طريقة تنفيذها. الأول وهو أن تكون أجهزة المخابرات التي نفّذت العملية قد علمت مسبقاً باستخدام حزب الله على نطاق واسع لهذه الأجهزة، وعلمت أيضاً بالشحنة التي طلبها حزب الله واستلمها على ما تقول بعض الروايات قبل حوالي خمسة أشهر، وعلمت كذلك المصدر الذي ورّد هذه الشحنة إلى حزب الله، فقامت هذه المخابرات بتفخيخ هذه الأجهزة أثناء التصنيع عبر عملاء لها يعملون في مصانع إنتاج هذه الأجهزة، أو من خلال تنسيق ذلك مع أجهزة مخابرات أخرى صديقة؛ أو ربما عمدت هذه المخابرات إلى استبدال الشحنة المرسلة من الشركة المصنّعة أثناء شحنها إلى لبنان، بشحنة مزيّفة من أجهزة الاتصال المطلوبة والمفحّخة دون معرفة شاحنيها، وقد وصلت الشحنة المزيفة إلى الحزب وتمّ توزيع الأجهزة على العاملين والمنتسبين، ومن ثمّ جرى تفجيرها بواسطة تقنية معيّنة تمّ زرعها أيضاً في الأجهزة. وبالطبع هذه عملية معقّدة وتحتاج إلى دقّة كبيرة في التنفيذ والمتابعة.
وإمّا الطريقة الثانية فهي أن تكون الجهة المنفّذة قد نفّذت العملية عن طريق تقنية معيّنة أرسلت فيها إلى أجهزة الاتصال المستهدفة موجة مغناطسية أو كهربائية أو من خلال برمجة معيّنة فجّرت بطارية الليثيوم المغذّية للجهاز بالكهرباء. وهذا احتمال وارد أيضاً، خاصة وأنّ بعض الخبراء يكشفون عن رمز سرّي لهذه الأجهزة يمكّن الشركة المصنّعة من تفجير الجهاز عند فقدانه أو عند انتفاء الحاجة إليه.
والحقيقة أنّ كلا الاحتمالين أو الطريقتين في التنفيذ يُعدّ ويُعتبر إنجازاً للمنفّذين، وهم مخابرات العدو الصهيوني، وفقاً للاتهام الرسمي والحزبي في لبنان. غير أنّ هذا الانجاز هو بحد ذاته جريمة مفضوحة ترقى إلى حدّ الإبادة الجماعية، خاصة وأنّ العملية استهدفت كل أجهزة الاتصال "بييجر" وكلّ من يحملها بغض النظر إذا كان منتمياً لحزب الله وعاملاً في أحد مؤسساته، أو كان بعيداً عن الحزب غير أنّه يعمل في مؤسسات تستخدم تقنية الاتصال هذه. والواضح أنّ عدد الجرحى كبير جدّاً وبينهم أطفال ونساء وأطباء وخلاف ذلك.
والحقيقة الثانية أنّ العدو الصهيوني في عدوانه على لبنان وفي جريمته المستمرّة في غزة وفلسطين، لا يميّز بين عسكري ومدني، بين مواطن ومواطن، بين طبيب ومقاتل، وأحد الأدلة على ذلك عندما استهدف منتصف شهر رمضان الماضي مركزاً للإسعاف في بلدة الهبارية في جنوب لبنان مرتكباً مجزرة واضحة بحقّ المسعفين حيث ارتقى في المجزرة سبعة مسعفين بصاروخ أطلقته طائرة حربية على مركز إسعافي وسط البلدة من دون أدنى اعتبار لا للمركز ولا للمدنيين المحيطين به.
والحقيقة الثالثة هي أنّ هذه العملية قرصنة واعتداء على لبنان وسيادته ومواطنيه دونما أيّ اعتبار لقانون أو سيادة أو حياد يدعو إليه البعض، ومن هنا فإنّ مخططات ونوايا هذا العدو لا تُؤمن، وعليه فإنّ اعتبار البعض أنّ الانكفاء عن مواجهة هذا العدو تجعل لبنان في مأمن من شرّه ليس صحيحاً ولا يمتّ إلى الواقع بصلة، بل على العكس من ذلك تجعل هذا العدو يستقوي أكثر على لبنان وأهله، ويمنحه فرصة ارتكاب أفضع الارتكابات بحقّ اللبنانيين عند كل منعطف لا يجد فيه نفسه راضٍ عنهم.
صحيح أنّ العدو سجّل إنجازاً في هذه العملية، ولكنّ الصحيح أنّها ليست نهاية المعركة، فهذا العدو ما يزال يعيش المأزق نفسه، وما زال يعيش المعاناة ذاتها، وعملية انهيار الثقة فيه وبه مستمرة في الداخل الصهيوني وفي الخارج، فما فعلته فيه معركة "طوفان الأقصى" لن يتعافى منه سريعاً، بل ربما لن يتعافى منه أبداً، لأنّه يدرك أنّ هذا الطوفان كان المسمار الأخير في نعشه الذي سيسقط وإلى الأبد.
|