سامي الخطيب
موجّهات الخطاب الدعوي المعاصر
يشكِّل الخطاب الدعوي الإسلامي وجهاً من وجوه الصورة التي تعكس العمل الإسلامي في واحدة من أبهى تجلّياتها. ولو تأمَّلنا هذا الخطاب بين العاملين للإسلام لوجدنا أنَّه يختلف باختلاف المنشأ الفكري والسلوك العملي لتيارات العمل الإسلامي، وما يمكن أن تنصبغ به هذه التيارات من صبغة مذهبية أو فكرية، وما يؤثّر فيها من أفهام وأذواق، وعلاقات وسلوكيات، فنجد الظاهرية وأصحاب الرأي، وأهل الفقه وأهل الحديث، والتيار الصوفي والسلفي، والإخواني والداعشي، والرسمي والحركي. ونجد إلى جوار هؤلاء السياسي والتربوي، والداعية المبشّر والفقيه المؤصّل، فضلاً عن الاختلاف الواضح في ملامح الخطاب بين القطرية والعالمية، وما قد يشوبها من ولاءات وارتباط بالمصالح والزعامات، وما ينبثق عنها ويتفرع منها من قيم ومُثُلٍ ومبادئ ومواقف.
اختلاف الخطاب باختلاف المنهج
نجد خطاب الدعاة اختلافاً كبيراً منشؤه اختلاف المنطلقات والرؤى، وتباين المقاربات وتعدّد الانتماءات، وقد تركت التيارات المتعدّدة الآنف ذكرها أثرها في صفة خطاب هذه الجماعات، فنرى فيهم المعتدل الهادئ، والمتعصّب الغاضب، والمنصف المحاور، والشديد الإقصائي، كما نجد المسالم الذي يقبل الآخر، والمحارب الذي يرى أنّه الحقُّ وأن سواه هو الباطل، وفي هؤلاء من يرى أنّه داعية عليه البلاغ، يحدوه قول الله تعالى: "ليس عليك هداهم"، فيرفع شعار: "دعاة ولا قضاة"، ومنهم من يرى أنه صاحب الحقّ المؤتمن عليه، ومهمّته كداعية إلزام الناس طريق الله الذي يؤمن به، ودليله في ذلك قول النبي ﷺ: "لتأمرنَّ بالمعروفِ، ولتنهَوُنَّ عنِ المنكرِ ولتأخذُنَّ علَى يد الظَّالمِ، ولتأطُرنَّهُ علَى الحقِّ أطراً". ومن رحم هذه المذاهب والاتجاهات نشأت تيارات الغضب والعنف والتكفير والإفراط، وتيارات الميوعة والتساهل والتحلّل والتفريط، إضافة إلى تيار الوسطية وما يعتمده في الدعوة من توازن واعتدال، وتيسير في الفتوى وتبشير في البلاغ، وما يتبنّاه في الفكر من التشدّد في الأصول والكليات، والتيسير في الفروع والجزئيات، مع الجمع بين الولاء للمؤمنين والتسامح مع المخالفين، والسعي الدائم للملاءمة بين ثوابت الشرع ومتغيرات العصر.
سمات الخطاب الدعوي النبوي
يستدعي ذلك الخلاف الكبير في مناهج الدعاة وخطابهم، البحث في سمات الخطاب الدعوي، وضوابطه الشرعية، وشرعيّته ومشروعيته، استناداً إلى المنهج النبوي في تبليغ الدعوة وأداء الرّسالة. فلقد جاءنا رسول الله ﷺ بهذا الدّين فكرة ودعوة، هدفاً ووسيلة، غاية ومنهجاً، وعلينا أن نلتزم بهديه ﷺ في كلّ ذلك. إذ إنّ مضمون الخطاب هو الغاية العليا، لكنّ التعبير عن هذا المضمون له أثره البالغ في تشكيل الهُويّة، وبناء الشخصية، وتحقيق الأهداف، واختيار الوسائل، واستقامة حياة الفرد، وتوجيه مسار المجتمع، ولهذا أُمِرنا بالاتباع في الوسيلة والهدف جميعاً، مع ترك هامش واسع للإبداع والابتكار في الوسائل والأدوات والآليات، تحت شعار: "نتّبع في العبادات ونبتدع في العادّيات"، طالما كان ذلك تحت سقف الضوابط الكبرى لمبادئ الشرع الحنيف، والسمات العامّة للدعوة النبوية الشريفة، التي نقرأ فيها ونحن نتلمّس مستهدفات خطاب النبي ﷺ التركيز على بناء العقيدة والثوابت، والتزام العبادة والشعائر، وتعزيز القيم ومكارم الأخلاق، وتهذيب النفوس ومعالجة مشكلات المجتمع. كما نراه ﷺ في أسلوب تبليغ الفكرة ودعوة الناس ملتزماً كامل الالتزام بالرفق والرحمة، والتيسير والتبشير، والمنطق والواقعية، والحكمة والمنهجية، والإرشاد والتوجيه، والرغبة بالإصلاح والنهضة، وتوخي الموعظة وتخوّل التذكرة، وكان ﷺ في كل ذلك أبعد ما يكون عن العنف والشدة، أو تقصّي الأخطاء وتتبّع الثغرات، يختار كلماته وينتقيها، وكلّ همّه استقطاب المدعو واستيعابه، وإخراجه من دوائر التيه إلى دائرة الأمان والإسلام والإيمان.
واجبنا الاتّباع
عندما يقوم الدعاة اليوم بواجب البلاغ إنّما يقومون بمهمّة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وسيِّدهم رسول الله ﷺ، وواجبهم تلمّس خصائص سلوكه وخطابه، على حدٍّ سواء، والتزام تلك الخصائص كواجب شرعي تعبّدي، فإنما "العلماء ورثة الأنبياء"، في أخذ العلم ونشر الدعوة، وهم في ذلك يقرؤون آيات القرآن والهدي النبوي الشريف، "لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ"، ومنتهى غاية الواحد منهم أن يكون هادياً مهدّياً، يبذل الجهد ويتحمّل المشاقّ ولسان حاله يقول: "اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون".
بقلم: سامي الخطيب