الشيخ نزيه مطرجي


بقلم: الشيخ نزيه مطرجي

ورد في الحديث الشريف: «كلامُ ابنِ آدم كلُّه عليه لا له إلّا أمراً بمعروف أو نَهْياً عن منكر أو ذِكراً لله» أخرجه الترمذي.

إن على المؤمن أن يتحفّظَ في كل ما به يتلفّظ من أمور الدنيا، وأن يُزيِّن كلامَه، كما يُزيّن مَظهرَه ويُجمِّل صورته؛ ومَن يُطْلِق للبيان العَنان من غير رويّة وتوانٍ، كمن يُلقي بنفسه في النّيران وهو يريد أن لا يُضام! ومن لا يَحْفَظ ما بين فكّيه لا يزال يُقَلِّب من النّدامة كَفَّيْه، حُزناً على ما فرّط فيه من التحفُّظ، وأسفاً على ما فَرَط منه من التلفُّظ...

يجب أن نعلم بأن استقامة الإنسان مَرْهونة باستقامة القلب واللِّسان، كما يُبيّن النبيّ عليه الصلاة والسلام: «لا يستقيمُ إيمانُ عبدٍ حتى يستقيمَ قلبُه، ولا يستقيمُ قلبُه حتى يستقيمَ لِسانُه» أخرجه أحمد، ولقد سأل مُعاذُ بن جَبَل عن العمل الذي يُدْخِلُه الجنة ويُباعدُه من النار فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم برأسِ الأمرِ وعَمُوده وذُروةِ سَنامه، ثم قال: «ألا أُخبِرُك بمِلاكِ ذلكَ كلِّه؟ قال: بلى يا رسول الله، فأخذَ بلِسانِ نفسِه ثم قال: كُفَّ عنكَ هذا! فقال: وإنا لـمُؤاخَذون بما نتكلَّم به؟ فقال ثَكِلَتْكَ أمُّكَ يا مُعاذ! وهل يَكُبُّ الناس على وجوههم في النار إلّا حصائدُ ألْسِنَتهم؟ أخرجه الترمذي.

قد يتورَّع المؤمنُ عن الظلم والعُدوان، وعن المفاسد والعِصيان، ولكن يصعُب عليه التحفّظ من رَفَثِ اللسان وفُحشِ الكلام، وذلك يورِدُه الموارد ويُوقِعُه في المهالك، فإن العبدَ ليتكلَّم بالكلمة من رِضوان الله لا يُلقي لها بالاً يَرفعه الله بها دَرَجات، وإن العبدَ ليتكلَّم بالكلمةِ من سَخَط الله لا يُلقي لها بالاً يَهْوي بها في جهنّم» أخرجه البخاري.

كان الصدّيق رضي الله عنه يُمسك بلسانِه ويقول: «هذا الذي أَوْرَدَني الموارِد!».

إن العبدَ ليأتي يومَ القيامة بحَسنات أمثال الجبال فيجد لِسانه قد هدمها عليه، وضيَّع جُهدَه، وبدَّد صُنعَه! ولو أنه استقبل من أمره ما استدبر لامتَنع عن كل ألوانِ لَغْو الكلام، ولَألزم اللسانَ بالصيام عن كل الـمُفطِرات والـمَنهِيّات، ولكنَّ أكثر الأنام لو رُدّوا لعادوا لما نُهوا عنه، وإنهم لكاذبون.

لا جَرَم أن المؤمنَ مُكلَّف بأن يتحرَّز مما يتلفَّظ لأن آفات الكلام تَرْميهِ بسِهامها، وإن كُلاًّ من الاحتراز والتحفّظ يتطلّب تَرْكَ فُضولِ الكلام تلبيةً لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «طوبى لمن أمسكَ الفَضْلَ مِن لسانه، وأنفقَ الفَضْلَ من ماله» رواه البيهقي، وأعرضَ عن الـمِراء الذي لا تُرجى حكمتُه ولا تُؤمَنُ فِتنتُهُ سواءٌ أكان مُحقّاً أم مُبطِلاً، وأن يتجنّبَ السَّبَّ والبَذاء، وقد جاء في الحديث: «سُبابُ المسلم فُسوق، وقِتالُه كفرٌ» أخرجه مسلم. إن النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم لم يكن فاحِشاً ولا مُتفحِّشاً ولا لعّاناً ولا سبّاباً» وكان يقول عند الّلوم أو العتاب: «مالَه تَرِبَ جبينُه» رواه الترمذي في الأدب.

لقد حذّر النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم من الطَّعْن واللّعن فقال: «ليس المسلم بالطَّعّان ولا اللعّان» رواه الترمذي، وقال: «إن اللَّعّانين لا يكونون شُفعاء ولا شُهداء يوم القيامة» أخرجه مسلم؛ وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلم بأن يَدَع الكذِب في الـمِزاح بقوله: «أنا زعيمٌ ببيتٍ في وَسَط الجنّة لمن تَرَك الكَذبَ وإن كان مازِحاً» رواه البيهقي، وأن يمتنع عن السُّخرية والاستهزاء لقول الله عزّ وجل: {لا يَسْخَرْ قومٌ مِن قومٍ عسى أن يكونوا خيراً منهم} الحجرات-11، وعليه أن يَحْذَر من فَضْحِ أسرارٍ ائتُمِنَ عليها لأن في ذلك خيانةً ووضاعةً، فقد ورد في الحديث: «الحديث بينكم أمانة» رواه ابن أبي الدنيا.

ورد في الأثر أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام: من مات تائباً من الغيبة فهو آخِرُ مَن يدخل الجنة، ومَن ماتَ مُصِرّاً عليها فهو أولُ من يدخل النار!

إن التحفّظ يتطلب تجنُّب الكلام مع ذي الِّلسانَين الذي يتردَّد بين المتعادِيَيْن، ويُكلِّم كلَّ واحدٍ منهما بما يوافقُه، وهذا هو التملُّق، وقد ورد الحديث في أمثال هذا الرجل: «تجدون شرَّ عباد الله يوم القيامة ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه» أخرجه ابن أبي الدنيا.

فيا أيها الخائضون في لُجَج الباطل تعطَّروا بالاستغفار فقد فَضَحتْكم روائحُ الذُّنوب، وتوضَّؤوا بالطَّهور، فإن ما تصنعون وتقولون شرٌّ من الحَدث وأقبَحُ من الخَبَث!