العدد 1632 /2-10-2024
اختار لبنانيون ملازمة
قراهم الجنوبية، على الرغم من العدوان الإسرائيلي، رفضاً لذلّ النزوح، ورغبةً في
البقاء في أرضهم ومساندة الصامدين وكبار السنّ والجرحى.
في سياق أوامر الإخلاء
التي راح يصدرها جيش العدو الإسرائيلي في الأيام الأخيرة متوجّهاً إلى سكان
الضاحية الجنوبية لبيروت، نشر صباح أمس "بياناً عاجلاً" إنّما
لـ"سكان جنوب لبنان"، تضمّن أمراً بإخلاء 29 قرية جنوبية واقعة في
المنطقة الحدودية مع الشمال الفلسطيني المحتل. وطالب جيش العدو هؤلاء بـ"التوجّه
فوراً إلى شمالي نهر الأوّلي"، مضيفاً "أنقذوا حياتكم وقوموا بإخلاء
بيوتكم فوراً".
وكان لبنانيون كثيرون قد
أصرّوا على ملازمة قراهم الجنوبية، قبل إصدار أمر الإخلاء هذا، الذي يأتي مشابهاً
للأوامر التي وُجّهت إلى الفلسطينيين في قطاع غزة منذ الأيام الأولى من الحرب
الإسرائيلية عليها. وهؤلاء أصرّوا على البقاء في قراهم، على الرغم من الاعتداءات
الإسرائيلية المتواصلة على المنطقة الحدودية منذ الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول
2023، أي بعد يوم واحد من الحرب على قطاع غزة.
وقد شمل بيان جيش العدو
الإسرائيلي قرى يارون، وعين إبل، ومارون الراس، وطيري، وحداثا، وعيتا الجبل
(الزط)، جميجيمة، تولين، ودير عامس، وبرج قلويه، والبياضة، وزبقين جبال البطم،
وصربين، والشعيتية، كنيسة، الحنية، معركة، غندورية، دير قنون - مالكية الساحل، برج
الشمالي، إبل السقي، صريفا، دير قنون النهر، العباسية، الراشيديه، بنت جبيل،
وعيترون.
وقبل إصدار أمر الإخلاء
هذا، كانت "العربي الجديد" قد جالت وتواصلت مع عدد من سكان القرى
الواقعة إلى جنوب الليطاني، وبالتالي إلى جنوب الأولي، ونقلت آراء سكان فيها حول
البقاء في الجنوب اللبناني، من دون أن تتمكّن من سؤالهم عن قرارهم بشأن الإخلاء
المطلوب. ويأتي ذلك قبل أيام قليلة من إنهاء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة
ولبنان عامه الأول، الذي خلّف الدمار والقتل والتهجير والغصّة والحرقة التي لم
يسبق لها مثيل. في لبنان، خرج كثيرون من بيوتهم، ولا سيما قرى جنوب لبنان وبلداته
المحاذية للحدود مع فلسطين المحتلة، ومنهم من نزحوا عن ديارهم منذ الأيام الأولى
للحرب، فاستأجروا بيوتاً أو توجهوا نحو بيوت أقاربهم أو مراكز الإيواء، وخصوصاً
المدارس الرسمية التي فتحت أبوابها لهم، في ظل غياب للجهات المعنية الرسمية
والمنظمات الإغاثية التي تعمل بشكل خجول.
هذا الوضع دفع بعض مَنْ
تركوا منازلهم قسراً إلى العودة إليها، "فالموت أهون من المذلّة"، تقول
الحاجة خديجة محمد الأخرس (75 عاماً)، التي تقطن مع ابنتها وحفيدها في بلدتها
الهبارية (غير المشمولة بأمر الإخلاء) في قضاء حاصبيا بمحافظة النبطية، التي
"تتعرّض وأطرافها بشكل شبه يومي لقصف عنيف وغارات بين الحين والآخر أصابت
منازل عدة، بالإضافة إلى غارة جوية استهدفت مركز الجمعية الطبية الإسلامية في
البلدة في مارس/ آذار الماضي، سقط نتيجتها سبعة شهداء مسعفين من أبناء البلدة، وهم
في عمر الزهور". تتابع الحاجة خديجة بحسرة ولوعة، حديثها لـ "العربي
الجديد"، قائلة: "العدو الإسرائيلي أحرق حقولنا وجبل الصنوبر والسنديان
بالغارات الجوية والقصف المدفعي والفوسفوري، ورغم ذلك سنبقى ولن نترك أرضنا".
وعن الخوف مما يجري يومياً من اعتداءات تطاول البلدة والجوار، تقول: "مرّ
عليّ الكثير من حروب واعتداءات إسرائيلية منذ عام 1967، ونزوح وتهجير. لم أعد أخاف
الحروب. بالنسبة إليّ، ما بقي من العمر أكثر مما مضى، ولكن مع بداية الحرب قررت
النزوح إلى البقاع لأحمي ابنتي وطفلها (13 عاماً) عند أحد الأقارب لمدة شهر
تقريباً. لكن رغم قساوة الحرب، قررنا وعدداً من العائلات العودة إلى بلدتنا، آملين
أن تنتهي الحرب بأقرب وقت، لأنه مهما كانت الأوضاع، فالإنسان ليس له سوى بيته
وأرضه".
تقول الحاجة خديجة:
"ما في شدّة تدوم، ونحن صابرون على هذا البلاء الذي ابتُلينا به. كل خوفي على
ابنتي وحفيدي، لكنهما اعتادا أصوات الغارات والقصف، وكل شيء من الله ما
أحلاه". تتابع: "في البداية كان حفيدي يخاف كثيراً من تلك الأصوات. مع
الوقت، بات الأمر عادياً بالنسبة إليه. يخبرني عن القصف ومكان سقوط الصواريخ. صحيح
هناك خوف، لكن الحمد لله ما زلنا أحياءً". وتختم الحاجة خديجة حديثها بالقول:
"أدعو الله أن ينتهي العدوان اليوم قبل الغد، لأننا تعبنا من الحروب، ولا
نريد أن يرث أولادنا وأحفادنا الدم والدمار".
يقول المواطن يوسف علي
حمزة (67 عاماً) الخبير في تصدع الإنشاءات والترميم، إنّه ما زال هو وأشقاؤه في
بلدتهم النبطية، علماً أن عائلاتهم توجهت إلى مساكن أكثر أماناً في بيروت. يقول:
"تعبنا العمر كله من أجل أن نعيش في ديارنا بأمان، لكن هذه الحرب شردتنا
وأبعدتنا عن عائلاتنا، وقررتُ وأشقائي البقاء في بيوتنا لأننا نعشق أرضنا وترابها
ونريد الحفاظ على عرضنا. هذا الأمر يحمل في طياته نوعاً من الصراع، وهو صراع البقاء، فمعظم اللبنانيين سافروا وعاشوا في
الغربة سنوات عدة، وأنا منهم. إلا أنهم عادوا واستقروا في قراهم وبلداتهم، لأن
بلدنا لبنان ومدينتي النبطية من الأجمل في العالم بسبب محبة الناس والألفة في ما
بينهم والنخوة في المحن والشدائد".
يتابع حمزة: "في ظل
هذا العدوان الغاشم على لبنان وكل اللبنانيين، الذي لم يعد يميز بين منطقة وأخرى،
مستهدفاً النساء والأطفال قبل الرجال، لا أحد يقصّر في مدّ يد العون كل حسب قدرته،
وجزء من بقائنا في منازلنا هو هذا الأمر، أي تقديم المساعدة لكبار السن والعجزة
الذين لم يستطيعوا أو لا يريدون المغادرة، من تأمين متطلبات البقاء والصمود من
أدوية مزمنة وغير ذلك، والمشاركة في دفن الشهداء ومساعدة الجرحى"، لافتاً إلى
أن شقيقيه طبيبان يقطنان في الحيّ نفسه.
من جهته، يقول مختار
بلدة كفرحتى (غير مشمولة بأمر الإخلاء) في إقليم التفاح علي حاموش: "لكوني
جنوبياً ولبنانياً ويعاني وطننا ما يعانيه، لا بدّ لنا من الصمود والثبات في قرانا
ووطننا. لذلك، سنبقى صامدين ومتشبثين بأرضنا". يقول: "الأم تحمل طفلها
تسعة أشهر ويبقى يتذكرها طوال عمره، فكيف لنا أن ننسى هذه الأرض التي تحملنا
طويلاً في لحظة من العدوان والوجع والحرب الغاشمة؟". ويؤكد المختار أن
"جزءاً أساسياً من بقائي بين الناس الذين لم يغادروا البلدة، هو أن وجعنا
واحد. وكمختار، نذرت نفسي لخدمة أهلي وناسي وبالتالي البقاء بينهم وتقدمة خدماتي
إليهم. على سبيل المثال، في هذه الفترة من الحرب، كان هناك شخصان من أبناء البلدة
بحاجة إلى معاملات لإنجاز جواز سفرهما، ويسألان عني. ذهبت إليهما بنفسي وأتممت
لهما الأوراق المطلوبة".
من جهته، يقول علي أحمد طه (63 عاماً)، القاطن في قرية
كفرحمام (غير المشمولة بأمر الإخلاء) الواقعة في قضاء حاصبيا بمحافظة النبطية:
"لم أغادر البلدة منذ بدء العدوان على لبنان، اعتقاداً أن الحرب لن تدوم
طويلاً. لكنها الحرب، ولا أحد يعرف مجراها، وها قد اقتربنا من العام الثاني".
يضيف: "نأمل، كما كنا دائماً، أن تنتهي الحرب. لكن قدرنا في منطقة العرقوب أن
ندفع الثمن في كل عدوان على فلسطين أو لبنان، نحن الذين هجرنا بدءاً من عام 1970. قرى العرقوب تقع على مثلث
مهم وخطير، وهو الحدود اللبنانية الفلسطينية. وفي كل مرة، نتحمل قساوة العدوان
الإسرائيلي وجرائمه من قتل ودمار".
يتابع طه: "هذه
المرّة، آثرنا عدم ترك المنزل لأسباب عدة، أهمها أن ولديَّ يخدمان في سلك الدولة
في المنطقة، ولا يمكن أن أتركهما يعودان إلى المنزل وأنا بعيد عنهما. كذلك فإنني
أعتاش وعائلتي من دكان وعدد من رؤوس الماعز والدجاج".
يعرب طه عن حزنه لما آلت
إليه الأمور من غياب المستقبل للجيل الجديد، هو الذي بنى بيته بعرق جبينه وأسس
للاستقرار فيه بعد التحرير عام 2000، وبنى لولديه مسكنين. "لكن قدرنا أن
نتحمل وزر ما يحصل، رغم ما تعنيه لنا القضية الفلسطينية وحقنا في استرجاع
أرضنا". يختم طه حديثه بالقول: "لا بدّ أن تنجلي هذه الغيمة وأن يعود
الجميع إلى ديارهم سالمين غانمين".