العدد 1692 /3-12-2025
الدكتور حسن العاصي
في هذا العصرٍ الذي تتداخل فيه الحدود بين
الواقع والافتراض، وتتشابك فيه خيوط المعرفة مع خوارزميات المنصّات الرقمية، يبرز
مفهوم الاستشراق الرقمي بوصفه امتداداً جديداً لخطابٍ قديم أعاد تشكيل نفسه داخل
بيئة إعلامية أكثر تأثيراً وانتشاراً. فبينما كان الاستشراق التقليدي يعتمد على
الرحّالة والمستشرقين والكتّاب والفنانين لتكوين صورة "عن الشرق”، فإن النسخة
الرقمية منه اليوم تُصنع عبر شبكات الأخبار العالمية، ومنصّات التواصل الاجتماعي،
ومحركات البحث، وخوارزميات التصفية التي تحدد ما يُرى وما يُخفى، وما يُضخّم وما
يُهمّش. وهكذا، لم يعد الشرق يُعاد إنتاجه عبر نصوص أدبية أو لوحات فنية فقط، بل
عبر تدفقات هائلة من الصور والفيديوهات والعناوين العاجلة التي تُبنى وفق منطق
السرعة والانتشار والتأثير.
لقد أصبحت وسائل الإعلام الغربية لاعباً مركزياً في تشكيل المخيال الجمعي
العالمي حول الشرق الأوسط والعالم الإسلامي وآسيا وشمال إفريقيا. فهي لا تنقل
الأحداث فحسب، بل تصنع إطاراً تفسيرياً يحدد معنى الحدث، ويعيد ترتيب عناصره،
ويُسقط عليه منظومة من القيم والتصورات المسبقة. وفي هذا السياق، يتحول الشرق إلى
"شرق رقمي” جديد: شرقٍ مُفلتر، مُجزّأ، مُختزل في ثنائيات جاهزة مثل
العنف/الاستقرار، الحداثة/التخلّف، الديمقراطية/الاستبداد، والحرية/التهديد. شرقٌ
لا يُرى كما هو، بل كما تسمح به عدسات الكاميرات الغربية وخوارزميات المنصّات التي
تُعيد تدوير الصور النمطية القديمة في قالبٍ معاصر.
إن الاستشراق الرقمي لا يقتصر على التغطيات الإخبارية، بل يمتد إلى صناعة
الترفيه، وتحليلات الخبراء، وصور "الشرق” في السينما والمسلسلات، وحتى في نتائج
البحث على الإنترنت. فحين يبحث المستخدم الغربي عن "العرب” أو "المسلمين” أو
"الشرق الأوسط”، فإن ما يظهر أمامه ليس مجرد معلومات محايدة، بل منتج معرفي تشكّله
شركات التكنولوجيا الكبرى وفق معايير تجارية وسياسية وثقافية. وهكذا، تتكرّس صورة
الشرق كفضاء للأزمات، والحروب، والغرابة الثقافية، في حين تُهمّش جوانب الحياة
اليومية، والإبداع، والتنوع، والتاريخ الاجتماعي الحقيقي لشعوبه.
إن هذا المقال يسعى إلى تفكيك آليات هذا الاستشراق الرقمي، وطرح سؤال جوهري: كيف تصنع وسائل الإعلام الغربية
شرقاً جديداً؟ وما الذي يجعل الصورة الرقمية للشرق أكثر حضوراً وتأثيراً من الواقع
نفسه؟ وهل نحن أمام إعادة إنتاج لخطاب استشراقي قديم، أم أمام شكل جديد من الهيمنة
الرمزية التي تُمارس عبر البيانات والصور والخوارزميات؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة
ليست مجرد تمرين نظري، بل ضرورة لفهم كيف يُعاد تشكيل وعينا بالعالم في زمن
الإعلام الرقمي، وكيف يمكن للشرق أن يستعيد حقه في تمثيل ذاته بعيداً عن عدسات
الآخر.
خلفية نظرية عن الاستشراق
يُعدّ مفهوم الاستشراق واحداً من أكثر المفاهيم إثارةً للجدل في حقل
الدراسات الثقافية والإنسانية، لأنه لا يقتصر على كونه مجالاً معرفياً يهتم بدراسة
الشرق، بل يتجاوز ذلك ليصبح منظومة فكرية وخطابية أسهمت في تشكيل علاقة غير
متكافئة بين الغرب والشرق. تاريخياً، ظهر الاستشراق في البداية كتسمية علمية
لمجموعة من الدراسات التي اهتمت باللغات الشرقية، والأديان، والتاريخ، والعادات، والجغرافيا،
إلا أن القراءات النقدية الحديثة، وعلى رأسها قراءة إدوارد سعيد، كشفت أن هذا
الحقل المعرفي لم يكن بريئاً أو محايداً، بل كان متشابكاً مع مشاريع القوة
والهيمنة والاستعمار.
في القرون الثامن عشر والتاسع عشر
وبدايات القرن العشرين، برز المستشرقون كخبراء في "شؤون الشرق”، يُجيدون لغاته،
ويُدرّسون نصوصه الدينية والأدبية، ويُنتجون دراسات عن تاريخه ومجتمعاته. ظاهرياً،
يبدو هذا جهداً علمياً يهدف إلى الفهم والمعرفة، لكن المشكلة الأساسية تكمن في
زاوية النظر؛ فقد كانت عملية دراسة الشرق تتم عادةً من مسافة، ومن موقع تفوّق
حضاري مزعوم، يُفترض فيه أن الغرب هو معيار التقدم والعقلانية والمدنية، بينما
يُنظر إلى الشرق كموضوع للدراسة، وكـ"آخر” مختلف وغريب، يحتاج دائماً إلى تفسير
وترجمة وتأطير.
قراءة إدوارد سعيد: الاستشراق كخطاب
التحوّل الجذري في فهم الاستشراق جاء مع كتاب "الاستشراق” لإدوارد سعيد
(1978)، الذي نقل النقاش من مستوى "ما يقوله الاستشراق عن الشرق” إلى مستوى أعمق: كيف يُنتج الخطاب الاستشراقي الشرقَ
ذاته ككيان متخيّل؟ استند سعيد إلى أعمال ميشيل فوكو حول الخطاب والسلطة، ليطرح
فكرة أن الاستشراق ليس مجرد مجموعة من الكتب والأعمال الفنية، بل هو خطاب متكامل
يربط بين المعرفة والقوة.
بهذا المعنى، يصبح الاستشراق خطاباً يعمل على مستويين في الوقت نفسه. أولاً: على مستوى المعرفة: يقدم نفسه كعلم
موضوعي محايد. ثانياً: وعلى مستوى السلطة: يخدم مشاريع الهيمنة
الغربية، عبر تكريس صورة دونية عن الشرق ورفعة عن الغرب.
"الشرق" كاختراع رمزي
من أهم أفكار الاستشراق النقدي أن الشرق، كما يقدمه الخطاب الغربي، ليس
"الشرق الحقيقي” بتعقيداته، بل هو شرق مُتخيَّل تم بناؤه عبر عقود من الكتابة،
والرسم، والبحث، والسياسة. هذا الشرق المتخيّل يعمل كمرآة عكسية يرى الغرب فيها
ذاته؛ فهو يجعل الغرب يبدو عقلانياً، حراً، متقدماً، في مقابل شرق يُقدَّم كمقابل
نقيض: عاطفي، مقموع، متخلّف. وبذلك، لا يكون الاستشراق مجرد حديث عن الآخر، بل هو
أيضاً طريقة لبناء صورة الذات الغربية عبر مقارنة مستمرة مع "الآخر الشرقي”.
هذا الاختراع الرمزي للشرق يختزل
التنوع الهائل للثقافات واللغات والتجارب التاريخية في قالب واحد، ويحوّل مجتمعات
كاملة إلى نمط واحد مسطَّح. فالعرب، والفرس،
والهنود، والأتراك، والمسلمون، والآسيويون – بكل ما بينهم من اختلافات – يتم دمجهم
في صورة واحدة اسمها "الشرق”، كأنهم كتلة متجانسة لها صفات مشتركة ثابتة لا تتغير.
من الاستشراق الكلاسيكي
إلى الاستشراق المعاصر
مع نهاية الحقبة الاستعمارية بشكلها
المباشر، لم يختفِ الاستشراق، بل غيّر أشكاله.فلم يعد المستشرق اليوم ذلك الباحث الكلاسيكي الذي
يجلس في مكتبه يترجم نصوصاً عربية أو فارسية فقط، بل أصبح الاستشراق حاضراً في
وسائل الإعلام، والسينما، والأكاديميا، والخطاب السياسي، بل وفي المناهج التعليمية
أيضاً. ومع كل أزمة أو حرب أو حدث مرتبط بالشرق، تُعاد تنشيط الصور القديمة، وتظهر
مفردات استشراقية في ثوب جديد: "العالم الإسلامي”، "المناطق الخطرة”، "محور الشر”،
"حزام التطرف”، وغيرها من التعابير التي تضع الشرق داخل إطار جاهز من الشك والريبة
والتهديد.
هذا التحوّل من الاستشراق الكلاسيكي
إلى ما يمكن تسميته بـ"الاستشراق المعاصر” يفتح الباب للحديث عن الاستشراق الرقمي
بوصفه امتداداً جديداً لهذا التاريخ الطويل؛ فبدلاً من أن تُنتج الصورة في كتاب أو
لوحة فقط، باتت تُصنع اليوم عبر الشاشات، والمنصات، والخوارزميات، وهو ما يجعل
حضورها أكثر كثافة وانتشاراً وتأثيراً على وعي الجمهور العالمي.
أهمية هذه الخلفية لفهم الاستشراق الرقمي
إن فهم الاستشراق بهذا العمق النظري
لا يُعدّ ترفاً فكرياً، بل هو شرط أساسي لفهم كيف تعمل وسائل الإعلام الغربية
اليوم في إنتاج "شرق رقمي جديد”. فالصور النمطية التي تظهر في العناوين العاجلة،
والتقارير الإخبارية، والأفلام والمسلسلات، ليست معزولة عن هذا التاريخ، بل هي
امتداد له داخل سياق تقني جديد. ما تغير هو
الوسيط وسرعة الانتشار وكمية البيانات، لكن كثيراً من البُنى الذهنية التي حكمت
نظرة الغرب إلى الشرق ما زالت حاضرة، وإن كانت تتخفى خلف لغة أكثر مهنية وموضوعية
ظاهرياً.
مفهوم الاستشراق الرقمي
يشير الاستشراق الرقمي إلى انتقال الخطاب الاستشراقي التقليدي—الذي كان
يُنتج عبر الكتب والرحلات والدراسات الأكاديمية—إلى الفضاء الرقمي، حيث تتولى
وسائل الإعلام الغربية، والمنصّات الاجتماعية، ومحركات البحث، وخوارزميات الذكاء
الاصطناعي مهمة إعادة تشكيل صورة الشرق في الوعي العالمي. فوفقاً لتحليلات حديثة،
فإن الاستشراق لم يختفِ، بل "اتخذ شكلاً جديداً في عصر الإعلام الرقمي” عبر ما
يُسمّى Digital Orientalism،
حيث تستمر الصور النمطية القديمة في الظهور، ولكن عبر وسائط أكثر حداثة وانتشاراً.
آليات عمل الاستشراق الرقمي
تعمل آليات الاستشراق الرقمي ضمن منظومة معقدة تجمع بين الإعلام،
التكنولوجيا، والخوارزميات، بحيث تُعاد صياغة صورة الشرق داخل الفضاء الرقمي
بطريقة تبدو "حديثة” لكنها تحمل جذوراً عميقة في الخطاب الاستشراقي التقليدي.
وتشير الدراسات الحديثة إلى أن الاستشراق في العصر الرقمي لا يُمارَس فقط عبر
النصوص أو التحليلات، بل عبر بُنى تقنية تتحكم في تدفق المعلومات، وتعيد ترتيبها،
وتضفي عليها معنى محدداً يخدم رؤية غربية للعالم.
1ـإعادة إنتاج الصور
النمطية عبر الإعلام الرقمي
وسائل الإعلام الغربية الرقمية—من
المواقع الإخبارية إلى المنصّات الاجتماعية—تستمر في تقديم الشرق ضمن إطار جاهز: الشرق كمنطقة صراعات، وكفضاء
للغرابة الثقافية، وكتهديد سياسي أو أمني
هذه التمثيلات ليست عشوائية، بل جزء
من ممارسات تأطير إعلامي تُظهر الشرق من خلال عدسة تبسيطية، وهو ما أشارت إليه
تحليلات نقدية لخطاب الإعلام العالمي الذي يعيد تدوير الصور النمطية القديمة في
سياق رقمي جديد.
2 ـ الخوارزميات
كأدوات لإعادة تشكيل الوعي
الخوارزميات
التي تدير المنصّات الرقمية—مثل فيسبوك، يوتيوب، ومحركات البحث—تلعب دوراً مركزياً
في تكريس الاستشراق الرقمي. فهي: تضخّم المحتوى الذي ينسجم
مع السرديات الغربية. وتقلل ظهور المحتوى الذي يعرض الشرق بصورة مختلفة. وتفضّل
المحتوى المثير أو الصادم، ما يعزز الصور السلبية.
وبذلك، تصبح الخوارزمية فاعلًا
ثقافياً يعيد إنتاج الشرق وفق منطق تجاري وسياسي، وليس وفق الواقع. هذا ما تؤكده
دراسات تناولت كيفية تشكّل "الشرق الرقمي” عبر آليات تقنية غير محايدة.
3ـ الرقابة
الرقمية والتحكم في المحتوى
تشير أبحاث حديثة إلى أن المحتوى المتعلق بالشرق الأوسط أو الصين أو
المجتمعات الإسلامية يتعرض أحياناً لرقابة أو حذف أو تقييد أكبر من غيره، نتيجة
تحيزات مضمّنة في سياسات المنصّات أو في آليات الإشراف على المحتوى. هذه الرقابة لا تُمارَس دائماً بشكل
مباشر، بل قد تكون نتيجة: قواعد غير متوازنة. وأنظمة
كشف تلقائي متحيزة. معايير "السلامة” التي تُطبّق بشكل غير متساوٍ. وهكذا، لا يتم فقط إعادة إنتاج الشرق، بل أيضاً
إعادة تشكيل ما يُسمح له بالظهور.
4ـ التأطير الخطابي في التحليلات الغربية
التحليلات الغربية للأحداث في الشرق—سواء
في الإعلام أو مراكز الأبحاث—تستخدم أحياناً لغة تُعيد إنتاج ثنائية "الغرب
المتقدم” مقابل "الشرق المتخلّف”. هذا
التأطير يظهر من خلال التغطيات السياسية، والتحليلات الأمنية، ولنقاشات حول
التكنولوجيا والرقمنة في الشرق.
وقد أشارت دراسات مقارنة إلى أن هذا
التأطير يُعدّ شكلاً من أشكال "الاستشراق الأخلاقي” الذي يقيّم الشرق وفق معايير
غربية مسبقة.
5ـ الانتقائية في عرض الأحداث
الاستشراق الرقمي يعمل أيضاً عبر
انتقاء ما يُعرض من الشرق، ولتركيز على العنف وإهمال الحياة اليومية، وإبراز
التطرف وإخفاء الإبداع، وتضخيم الأزمات وتجاهل النجاحات.
هذه الانتقائية تُنتج شرقاً
"مفبركاً” يتوافق مع توقعات الجمهور الغربي، ويعزز سرديات الهيمنة الثقافية. إن الاستشراق الرقمي ليس
مجرد خطاب إعلامي، بل بنية تقنية–معرفية تعمل عبر الخوارزميات، التأطير الإعلامي،
الرقابة، والانتقائية. إنه استمرار للاستشراق التقليدي، لكن بوسائل أكثر قوة
وانتشاراً وتأثيراً.
نحو تفكيك الاستشراق
الرقمي وإعادة بناء السردية
يكشف تحليل الاستشراق الرقمي عن
تحوّل عميق في الطريقة التي يُعاد بها تشكيل الشرق داخل الفضاء الإعلامي المعاصر.
فبدلاً من الخطابات الكلاسيكية التي كانت تُنتج عبر الكتب والرحلات والدراسات
الأكاديمية، أصبح الشرق اليوم يُصاغ من خلال منظومة تقنية واسعة تتداخل فيها
الخوارزميات مع سياسات المنصّات وأساليب التغطية الإخبارية. هذا التحوّل لا يعني
اختفاء الاستشراق، بل انتقاله إلى مستوى أكثر خفاءً وتأثيراً، حيث تتولى
التكنولوجيا مهمة إعادة إنتاج التمثيلات القديمة في قالب جديد يبدو محايداً لكنه
يحمل في داخله نفس البُنى المعرفية التي حكمت علاقة الغرب بالشرق عبر قرون.
إن خطورة هذا الشكل الجديد من
الاستشراق تكمن في قدرته على الانتشار السريع، وفي تأثيره المباشر على تشكيل الوعي
العالمي. فالصورة التي تُبنى رقمياً لا تبقى داخل حدود الإعلام، بل تتحول إلى مرجع
ثقافي وسياسي يؤثر في السياسات العامة، وفي تصورات الشعوب، وفي العلاقات الدولية.
ومع كل عملية بحث، أو مشاركة، أو توصية خوارزمية، تتكرّس صورة "شرق رقمي” يبتعد عن
الواقع، ويقترب من الخيال الذي صاغته القوى المهيمنة.
بهذا المعنى، يصبح فهم الاستشراق
الرقمي ضرورة معرفية وأخلاقية في زمن تتشكل فيه الحقائق عبر الشاشات. فالمعركة لم
تعد فقط حول من يملك القوة، بل حول من يملك القدرة على رواية القصة.