العدد 1605 /13-3-2024
سامي الخطيب
دعائم التأسيس في مكة:
نزل
الوحي على سيدنا رسول الله ﷺ بمكة، وأمره بتبليغ الدين والتبشير بالدعوة، فكان أن
اهتمّ في بداية دعوته بدعامتين أساسيتين اثنتين، هما بناء العقيدة بين المسلمين،
وتوثيق عرى الأخوة بين المؤمنين، وضرب أصحابه رضوان الله عليهم في التزام هذين
الركنين أعظم الأمثلة، في ثباتهم وتمسكّهم بدينهم، وصمودهم في مواجهة قريش رغم ما
واجهوه من تعذيب وعنت، كما في قوة ترابطهم وعظيم تكافلهم وصدق إخائهم. فهذا بلال
بن رباح يجلد والصخر على جسده في لهب الصحراء، وعثمان بن عفان يمنع الطعام وهو
موثق بالحبال، والزبير بن العوام يعلّق بالحصير ويشوى جلده بالنار، وخالد بن سعيد
بن العاص يحبس ويمنع الطعام والشراب حتى كاد يموت، وخبّاب بن الأرتّ يُسحَب من
شعره فوق النار فلا يطفئها إلا شحم ظهره، ومثلهم تضحيات آل ياسر وعذابات زنّيرة
وطلحة وابن مسعود وغيرهم، من الذي عُذّبوا في دينهم، وأوذوا في عائلاتهم،
وسُووٍموا على أموالهم دون أن يصدّهم ذلك عن دين الله. يتمسك أحدهم بعقيدته وهو يردّد:
أحد أحد، ويدافع عن أخيه ولسان حاله يقول: لن تصلوا إلى أخي إلا فوق عظامي.
أدرك
النبي ﷺ منذ اليوم الأول لدعوته أنّ هذه الدعوة لا تقوم إلا بقوّة روحية لا
يعتريها الشّكّ، وقوّة مادّية لا يقوى على حملها الفرد، فكان الإيمان بالله هو
القوة الروحية التي يستمدّ بها المؤمن قوته من مولاه ﷻ، والإخاء هو القوّة
المادّية التي تبني الجماعة وتحقّق التعاون والتعاضد في المجتمع.
دعائم التأسيس في المدينة
المنوّرة:
ولم
يكن هذا حال النبي ﷺ وأصحابه الكرام، رضوان الله عليهم، وهم يؤسّسون للبناء الفكري
والمبادئ الكبرى في مكة فحسب، بل كان هذا هو حاله عليه الصلاة والسلام في المدينة
المنورة وهو يبني المجتمع على أساس العقيدة، ويضع اللبنات الأولى للدولة الإسلامية
الناشئة على أساس قوي متين، فكان من أول
ما فعله رسول الله ﷺ حين جاء إلى المدينة المنورة بناء المسجد والمؤاخاة بين
المهاجرين والأنصار، لتكون هاتان الدعامتان أساس كل بناء يراد له أن يقوم ويقوى
ويثبت ويعيش، فبناء المسجد يربط المؤمن بربه تعبّداً وتبتّلاً، والمؤاخاة بين
المؤمنين تمنح أفراد المجتمع بعضهم ببعض قوّةً وتكاملاً. وقد كان لهاتين الدعامتين
أثرهما العظيم في بناء المجتمع وإقامة الدولة، كتأكيد عملي على أنّ الصلاح الذاتي
والإصلاح المجتمعي لا يمكن أن يتحقّقا في المجتمع إلا بإيمان يضبط ويثبّت، وإخاء
ينصح ويعين ويوجّه ويسدّد، وهذا ما جعل الصحابة الكرام قادرين على إقامة دولتهم وتجاوز
سيطرة اليهود على يثرب وأسواقها، وتجارتها واقتصادها، وحكمها وتوجيه القرار
السياسي فيها لعقود طويلة..
ما
الذي نحتاجه اليوم؟
واليوم..
ونحن نسعى إلى بناء حياتنا وتوثيق عرى العلائق الاجتماعية بيننا: على مستوى
الأفراد والمؤسسات، كما على مستوى المجتمع والدولة، نحتاج، أيّما حاجة، إلى العودة
لهذه الأصول والثوابت، في بناء الأفراد، وإقامة المؤسّسات، وتشكيل المجتمعات،
وبناء الدولة القوية القادرة على إقامة الحق والعدل والحرية والمساواة، وهي أهداف
عظام لا يمكن أن ننجح في تحقيقها إلا بهاتين الدعامتين الجليلتين: الإيمان
والإخاء، فبالإيمان يصلح الفرد وتنضبط المؤسسة ويرتاح الحاكم، ويطمئن الشعب، ويعلو
منطق الإنصاف والمساواة، لأن الجميع متساوون في عبوديّتهم لله وإيمانهم به، ومعيار
التفاضل بينهم هو القرب من الله سبحانه والتعبير عن القرب منه، فيسود العدل ويضمحلّ
الجور، ويعيش المجتمع كله في ظلال رحمة الله وسلطانه. وبالإخاء نعزّز قيم التعاون
من أجل الخير، والتراحم بين أبناء المجتمع، فيعمّ الصفاء ويغيب التحاسد، وينتشر
التسامح ويختفي التناجش، ويحكم التعاون علاقات الناس بعيداً عن كل مشاعر الخصومة
والحقد والجشع، ولا يبقى بين أبناء المجتمع إلا الحب والتكافل ومعاني التغافل والتغافر.
بقلم: سامي الخطيب