العدد 1420 / 8-7-2020
بقلم: سعيد الحاج
رغم
كثرة الملفات الملحّة، تستأثر قضية متحف آيا صوفيا في تركيا مؤخرا بموقع مهم على
أجندة السياسة التركية، الداخلية والخارجية، وكذلك في التداول الإعلامي والشعبي.
فقد
اجتمعت الدائرة العاشرة في مجلس الدولة التركي يوم الخميس الفائت لاتخاذ قرار في
دعوى إبطال قرار تحويل مسجد آيا صوفيا (سابقا) إلى متحف، وهو القرار الذي يتوقع
الإعلان عنه رسميا في أي لحظة خلال مدة أقصاها 15 يوما من هذه الجلسة.
الأهمية
الرمزية لآيا صوفيا عابرة للأزمنة والحضارات والأديان. فالمكان يمثل رمزا
للحضارتين البيزنطية والعثمانية، وبالنسبة للمسيحيين والمسلمين، بسبب الأحداث
التاريخية التي مرت بها والتغيرات التي طرأت عليها. فقد كانت الكنيسة أحد رموز
الإمبراطورية البيزنطية، وقيل إنها كانت مركز إدارة المعركة مع العثمانيين، قبل أن
يحولها السلطان محمد الفاتح إلى مسجد بعد فتح القسطنطينية عام 1543، ما منحها
رمزية مهمة مرتبطة بالفتح في المخيال العثماني- التركي- الإسلامي حتى يومنا هذا.
بعد
تأسيس الجمهورية التركية، تحولت في عهد أتاتورك إلى متحف بقرار من المجلس الوزاري
عام 1934. وفي عام 1985 أدرجتها منظمة اليونيسكو ضمن قائمة مواقع التراث العالمية.
عام 1991، خصص جزء من آيا صوفيا للعبادة، وعيّن له في 2016 إمام ويُرفع فيه الأذان
لكافة الصلوات.
المعركة
القانونية لإعادة آيا صوفيا مسجدا تخوضها "جمعية الأوقاف الدائمة وخدمة
الآثار التاريخية والبيئة". وقد تقدمت أولا للحكومة عام 2004 بذلك الطلب، دون
أن تحصل على رد. عام 2005، قدمت الجمعية شكوى أمام الدائرة العاشرة لمجلس الدولة
لإلغاء قرار مجلس الوزراء عام 1934، إلا أن القرار صدر عام 2008 بالرفض. استأنفت
الجمعية أمام محكمة أعلى ليصدر القرار عام 2012 بتثبيت الحكم السابق.
ثم
أعادت الجمعية الكرة عام 2016 أمام الدائرة العاشرة لمجلس الدولة، لإلغاء القرار
بعدة مسوغات؛ من ضمنها التشكيك بصحة توقيع أتاتورك على القرار المذكور، وهي القضية
التي تنتظر إعلان القرار النهائي بخصوصها.
ولعل
السؤال المطروح اليوم على مشارف إعلان القضاء عن قراره: هل قضية آيا صوفيا دينية
أم سياسية أم قضائية؟
من
المعروف أن المطالبات من قبل الإسلاميين بإعادة آيا صوفيا إلى وضعية المسجد وفتحه
للصلوات الجماعية كأي مسجد آخر؛ قديمة وليست وليدة اليوم. وكذلك من المعروف أن حزب
العدالة والتنمية لم يكن متحمسا لهذا الطلب، من باب أنه لا حاجة لذلك، وبالتأكيد
تجنبا لأي تداعيات لقرار من هذا القبيل.
الحزب
الحاكم منذ 2002 لم يطرح الموضوع على أجندته سابقا، ولم يتفاعل مع الطلب عام 2004،
وكان يدافع عن تمايز آيا صوفيا عن باقي المساجد وبالتالي أهمية إبقائه على وضعه
الحالي. بل إن الرئيس أردوغان، وفي خطاب له في آذار 2019، انتقد المطالبات بإعادة
فتحه كمسجد في حين أن "مسجد السلطان أحمد (الأزرق) المجاور لا يمتلئ
بالمصلين"، مؤكدا أن لهذه المناشدات أبعادا سياسية، وحذر من "الحيل
والمكيدة" في الأمر بلهجة غاضبة.
ورغم
أن أعداد المصلين لم تتغير دراماتيكيا منذ ذلك الوقت، إلا أنه تواترت مؤخرا مؤشرات
على تبدل رؤية العدالة والتنمية وأردوغان للأمر. ولعل أهمها قراءة سورة الفتح فيه
في ذكرى فتح القسطنطينية قبل أشهر، وقول أردوغان في اجتماع اللجنة التنفيذية
المركزية لحزبه: "سنصلي في آيا صوفيا بعد قرار القضاء إن شاء الله"، كما
نقلت بعض وسائل الإعلام، وطبعا تصريحات عدد من المسؤولين بهذا الاتجاه.
هذا
التغير الكبير في موقف العدالة والتنمية من آيا صوفيا خلال فترة زمنية قصيرة
نسبيا؛ تمكن إحالة جزء مهم منه للمتغير السياسي الأخير، أي حزبي
"المستقبل" و"الديمقراطية والتقدم" بقيادة أحمد داود أوغلو
وعلي باباجان. إذ يبدو أن رغبة الحزب في تقليل تأثيرهما على القواعد الإسلامية
والمحافظة دفعه إلى خطاب أكثر "محافظة" من السابق، بعد أن غلب عليه
الخطاب "القومي والوطني" لعدة سنوات. تحت هذا السياق يمكن وضع تغير
خطابه بخصوص آيا صوفيا، والتلميح مؤخرا باحتمالية الانسحاب من اتفاقية إسطنبول
المتعلقة بالعنف الأسري والعنف ضد المرأة، وكذلك قرار إغلاق جامعة "إسطنبول
شهير" المحسوبة على داود أوغلو، بغض النظر عن المسوغ القانوني لذلك.
الآن،
والجميع ينتظر قرار المحكمة، تطرح تساؤلات محقة حول ماهية القرار، ومدى إلزامه
للحكومة، وكذلك الخطوات المستقبلية والتداعيات.
من
المهم بداية الإشارة إلى أن قرار المحكمة منوط بإلغاء قرار مجلس الوزراء عام 1934
لا أكثر، وبالتالي فالقرار يحتمل الإلغاء ورفضه فقط، ولا احتمال ثالثا معهما.
القرارات السابقة لنفس المحكمة وكذلك القرار بخصوص متحف "كارية" ذي
الوضع المشابه في إسطنبول؛ يرجحان رفض المحكمة مجددا إلغاء القرار، بيد أن البعض
يتوقع قرارا مغايرا هذه المرة بسبب تغير المزاج السياسي في البلاد عن السنوات
السابقة.
بكل
الأحوال، لن يكون قرار المحكمة ملزما للحكومة في أي من الاتجاهين. فلا رفض المحكمة
يمنعها من اتخاذ قرار تنفيذي بفتحه للصلاة، ولا موافقة المحكمة تلزمها بذلك، اللهم
إلا أن القضاء سيكون حينها تحصينا لأي قرار حكومي لاحق، خصوصا في مواجهة الضغوط
الخارجية.
فقد
صدرت مواقف تنتقد الرغبة في تحويل آيا صوفيا مجددا إلى مسجد من كل من اليونان
والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وفي كل مرة كانت أنقرة ترد بأنه قرار داخلي
سيادي لا حق لأحد بالتدخل فيه. لكن الأخيرة كذلك غير راغبة في الدخول بأي أزمات
جديدة لا سيما مع الولايات المتحدة، ولعل ذلك ما يفسر إحالة الأمر للقضاء في حديث
أردوغان قبل أيام وتأكيده أن الحكومة ستلتزم بقراره، رغم أن القرارات القضائية
السابقة كانت تحيل إلى أن قرار تغيير صفة آيا صوفيا منوط بالحكومة لا المحكمة.
إذن، على مستوى الحزب والحكومة
تبدو الدوافع سياسية أكثر منها دينية أو قانونية، وإن كانت تبني بالتأكيد على
عاطفة ورغبة شعبيتين، كما أن القرار الأخير سيكون للحكومة التي يمكن أن تلجأ (بعد
القضاء) لتشريع من البرلمان يدعّم أي توجه مستقبلي لها.
هنا،
لسنا بالضرورة أمام أحد قرارين متناقضين، إما الإبقاء على صفة المتحف أو تحويله
لمسجد، بل قد نكون أمام خيار ثالث، بإتاحة المكان لصلاة الجماعة وربما تحويل الاسم
لمسجد كما كان أردوغان ألمح سابقا، ولكن كذلك بعدم منع السياح الأجانب من زيارته
كما يحصل مع مساجد أخرى. وهو حل قد يكون مُرْضيا بالحد الأدنى لجميع الأطراف:
إسلاميي الداخل والسياح الأجانب والدول الغربية، فهل تختاره الحكومة أم تلتزم
بقرار القضاء حرفيا كائنا ما كان؟